الباحث القرآني

ثم قال عز وجل: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ [الأنعام ٤] (ما) نافية. وقوله: ﴿مِنْ آيَةٍ﴾ ﴿مِنْ﴾ زائدة إعرابًا وليست زائدة معنى؛ لأن لها معنى؛ وهو توكيد النفي؛ فإنها تحوّل النفي الذي يحتمل العموم والخصوص إلى كونه للعموم، فهي تحوّل الجملة المنفية إلى نص في العموم، مثل (لا) النافية للجنس فإنها نص في العموم. كيف نعربها إذا قلنا: إن ﴿مِنْ﴾ زائدة إعرابًا؟ نقول: ﴿مِنْ﴾ حرف جر زائد إعرابًا، و﴿آيَةٍ﴾ فاعل (تأتي) مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بأيش؟ بحركة الحرف الزائد، ونظير هذا قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِير﴾ [المائدة ١٩] فإن ﴿مِنْ﴾ زائدة إعرابًا، و﴿بَشِيرٍ﴾ فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. وقوله: ﴿مِنْ آيَةٍ﴾ الآية هي العلامة، لكنها أخص من العلامة؛ لكونها نصًّا في الدلالة، العلامة قد تكون أقل من ذلك، لكن الآية نص في أنها علامة على ما جاءت من أجله، وآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين؛ كونية، وشرعية كما سيأتي -إن شاء الله- في الفوائد. ﴿مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ ﴿مِنْ﴾ هنا لبيان الجنس وليست كالأولى؛ فهي لبيان الجنس؛ لقوله: ﴿مِنْ آيَةٍ﴾؛ لأن الآية قد تكون من عند الله، وقد تكون من عند غيره، لكن من آيات ربهم. وقوله: ﴿رَبِّهِمْ﴾ أي: خالقهم، ومالكهم، ومدبرهم؛ لأن الربوبية تشمل هذه المعاني الثلاثة؛ وهي خالِق ومالِك ومدبّر، هذه الذي تقتضيه الربوبية. ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ ﴿إِلَّا﴾ هذه إثبات للنفي؛ يعني ما تأتيهم إلا كانوا عنها معرضين؛ معرضين عن تدبرها، وعمَّا تدل عليه، فكأنهم لم يروا الآيات؛ وهذا كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس ٩٦، ٩٧] إذن معرضين عنها بأيش؟ بوجوههم أو بقلوبهم؟ الجميع، يشمل هذا وهذا، قد يقال له: تعالَ انظر آية الله فيُعرض ولا ينظر، وقد يرى، ولكن يُعرض عن التأمل في القلب؛ لأنه -والعياذ بالله- محجوب عن الخير، فلا يحب أن يصل إليه. * في هذه الآية من الفوائد: بيان عتو هؤلاء المكذبين؛ وجه ذلك أنه لا تأتيهم أي آية إلا كانوا عنها معرضين، وقد طلبت قريش من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم آية، فأراهم انشقاق القمر؛ أشار إلى القمر انفلق فرقتين[[متفق عليه؛ البخاري (٣٦٣٦)، ومسلم (٢٨٠٠ / ٤٤) من حديث عبد الله بن مسعود.]]، وشاهده الناس، وقد أشار الله إليه في قوله: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر ١]، وهو انشقاق حسي، والمراد بالقمر القمر المشاهَد المعروف. وقد أنكر الفلاسفة وعلماء الفلك أن القمر انشق، وقالوا: لا يمكن؛ لأن الأجرام السماوية لا يمكن فيها التفكّك، فهل نقبل قولهم ونرد الأحاديث الصحيحة المشهورة المستفيضة، أو نرد قولهم؟ * الطلبة: الثاني. * الشيخ: الواجب على المؤمن الثاني؛ أن يرد كل قول يخالف الكتاب والسنة مهما كان قائله، فهو سبحان الله كيف نقول: يستحيل أن تتغير الأجرام السماوية والذي يغيرها من؟ الله عز وجل، خالقها، يفعل ما يشاء وهو انشقاق حسي للقمر المعلوم الحسي، وليس كما قال علماء الفلك، وحرّفوا من أجله الكتاب والسنة، وقالوا: إن أخبار الانشقاق أخبار أحادية تحتمل التأويل أو الرد، وأما القرآن فمعنى انشق القمر أي بان نور النبوة، وهذا غلط، ما هو صحيح. فإن قال قائل: قريش رأت هذه الآية، والله سبحانه وتعالى قضى بأن من أُوتوا الآية التي يطلبونها ولم يؤمنوا أهلكهم، فكيف لم يهلك الله قريشًا؟ * طالب: لم يطلبوا الآية نفسها. * الشيخ: نعم، الجواب عن هذا أن الذين يهلكون هم الذين يطلبون آية معينة، فإذا أتوا بها وكفروا بها أهلكهم الله؛ لأنهم يكونون متحدين لله عز وجل، وأما من يطلب آية عامة وتُعيَّن من قِبل الله، فهؤلاء لا يهلكون. ويحتمل وجهًا آخر؛ أن نقول: إن هذا العموم يجوز أن يُخصّص، فيكون الله سبحانه وتعالى لم يُهلكهم؛ لأن الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما جاءه ملك الجبال يقول له: «إِنْ شِئْتَ أَطْبَقْتُ الْأَخْشَبَيْنِ عَلَيْهِمْ» وهما الجبلان العظيمان المحيطان بمكة، ولكن النبي ﷺ قال: «لَا أَسْتَأْنِي بِهِمْ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢٣١)، ومسلم (١٧٩٥ / ١١١) من حديث عائشة.]]. ويكون عدم إهلاك قريش لما يعلمه جل وعلا من أن هؤلاء سيكون من أصلابهم المخلصون لله المجاهدون في سبيل الله، وقع هذا أو لم يقع؟ * طلبة: وقع. * الشيخ: وقع بلا شك، فإما أن يكون الجواب كما قال الأخ، وإما أن يكون الجواب ما ذكرناه. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى حكيم رحيم، وذلك لكونه يأتي بالآيات للخلق، فإن هذا من الحكمة الواضحة؛ لأنه ليس من المعقول أن يأتي رجل ويقول للناس: إنه رسول، ويستبيح دماء من لم يُؤمن به وأموالهم وذرياتهم ونساءهم بدون أن يكون هناك آية تدل على صدقه؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ» - يَعْنِي بَعَثَهُ اللَّهُ- «إِلَّا آتَاهُ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُؤْمِنُ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٩٨١)، ومسلم (١٥٢ / ٢٣٩) من حديث أبي هريرة.]]. لا بد، هذه من جهة الحكمة. من جهة الرحمة؛ أن الله رحم الخلق بكونه إذا أرسل إليهم الرسل آتاهم الآيات الدالة على صدقهم، ولو شاء لأرسل رسلًا بدون آيات، ثم من كذب أخذه، لكن تأبى حكمته ورحمته أن يرسل رسلًا بلا آية. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الربوبية للكفار؛ لقوله: ﴿مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾، وهذه الربوبية العامة، وربوبية الله عز وجل تنقسم إلى عامة وخاصة، فربوبيته لأوليائه خاصة، ولأعدائه وأوليائه جميعًا عامة بإزاء ذلك العبودية تنقسم إلى أيش؟ عامة وخاصة؛ فالعامة كقوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣]، والخاصة مثل قوله: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر ٣٢]، وقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان ١] والأمثلة كثيرة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: خطر الإعراض عن الآيات، وأنه يُخشى على مَن أعرض عن الآيات ألا يهتدي لها؛ لقوله تعالى: ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾. ويدل لهذا -أي لخطر الإعراض عن الآيات- قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام ١١٠]، والكاف هنا للتعليل ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، وهذه مسألة خطيرة في الواقع، يجب على طالب العلم أن يجعلها نصب عينيه، إذا كان يمشي على طريق معين، وجاءت النصوص دالة على خلافه، فإن بعض الناس قد يتلكأ ويحاول أن يحرّف النصوص التي تخالف طريقه، وهذا خطر عظيم، بل الواجب على المؤمن أن يستسلم للنصوص من حين أن تأتيه كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون هذا، مجرد ما يأمر الرسول بشيء يفعلونه، مجرد ما ينهى عن شيء يتركونه، فكون الإنسان يتلكأ أول ما يأتيه الحق خطر عظيم، والآية واضحة في سورة الأنعام: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام١١٠]، وقال الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ [المائدة ٤٩].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب