الباحث القرآني

ثم قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ [الأنعام ٣٩] الجملة هذه معطوفة عطف جمل، ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي: قالوا: إنها كذب ولم يصدقوا بها، جاؤوا للآيات الكونية وقالوا: هذه سحر، كما قال فرعون حين رأى آيات موسى قال: هذه سحر، وكما قال الله عز وجل عن قريش: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ [القمر ١، ٢]، فكذبوا بالآيات الكونية، كذبوا كذلك بالآيات الشرعية، ووصفوا الرسل بالكذبة، بالشعراء، بالكهنة، بالمجانين، بالمسحورين، وما أشبه ذلك، وهذا تكذيب بأيش؟ بالآيات الشرعية. هؤلاء الذين كذبوا بآيات الله ﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ ثلاثة أحوال لهم: صم بآذانهم لا يسمعون الكتاب سماع انتفاع، فانسد طريق الحق عنهم من جهة السماع، (بكم) جمع (أبكم) وهو الذي لا ينطق، فلا ينطقون بالحق ولكنهم ينطقون بالباطل، ﴿فِي الظُّلُمَاتِ﴾ لا يبصرون، الظلمات محيطة بهم من كل جانب؛ لأن (في) تدل على الظرفية والظرف محيط بمظروفه، فانسدت عليهم أبواب العلم والمعرفة؛ السمع، والبصر، والنطق، والعياذ بالله، وفي هذا قال الله عز وجل في سورة البقرة: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة ١٧١]. ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ﴾ الجملة شرطية، فعل الشرط ﴿يَشَإِ﴾، وجوابه ﴿يُضْلِلْهُ﴾ أي: من يشأ الله إضلاله يضلله؛ لأن الأمر أمره عز وجل، لا معقب لحكمة، ولا اعتراض عليه، ولا يسأل عما يفعل، فنسأل الله أن يهدينا فيمن هدى، ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ﴾ فيعمى عن الحق ولا يصل إليه. ﴿وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ونقدِّر هنا: ومن يشأ هدايته، ﴿يَجْعَلْهُ﴾ أي: يصيره، ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي: على طريق مستقيم لا عوج فيه وهو الإسلام. * وفي هذه الآية من الفوائد: بيان حال الذين كذبوا بآيات الله، وأنه لا سبيل إلى هدايتهم، لماذا؟ لأنهم صم لا يسمعون الحق سماع انتفاع، وكذلك في الظلمات، وأنهم لا ينطقون بالحق. * ومن فوائد هذه الآيات الكريمة: أن من شاء الله هدايته اهتدى، ومن شاء إضلاله ضل. * ويتفرع على هذه الفائدة: أن يلجأ الإنسان إلى ربه تبارك وتعالى بطلب الهداية والاستعاذة من الغواية؛ لأن الأمر بيد الله. فإن قال قائل: هل هذه المشيئة مشيئة مجردة؛ بمعنى أنه من شاء أن يهديه هداه، ومن شاء أن يضله أضله بدون أي حكمة، أو أنها مشيئة مقرونة بالحكمة؟ فالجواب: الثاني؛ أنها مشيئة مقرونة بحكمة، وهذا هو المتعين؛ لأن جميع أفعال الله تبارك وتعالى وأحكام الله كلها مقرونة بالحكمة، انظر في أحكام الله قال الله تعالى في آية المواريث: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء ١١]، وقال تعالى في الأمور القدرية: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان ٣٠]، فلا مشيئة مجردة في أفعال الله ولا أحكامه، بل هي مقرونة بالحكمة، ولكن هل هذه الحكمة معلومة للخلق؟ الجواب: قد تكون معلومة، وهذا -والحمد لله- هو الأكثر، وقد تكون مجهولة لبعض الناس دون بعض، وقد تكون مجهولة لجميع الناس لا يحيطون بالله علمًا. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الصراط -وهو دين الإسلام- مستقيم لا اعوجاج فيه، ولا انحراف فيه، ولا شقاء فيه، مستقيم، ويضاف إلى ذلك: ولا تناقض فيه؛ لأنه لو كان فيه تناقض لم يكن مستقيمًا. إذا قال قائل: هل للإنسان حجة على الله إذا أضله وهدى آخرين؟ فالجواب: لا؛ لأن الهداية فضل من الله عز وجل، وفضل الله يؤتيه من يشاء، وأيضًا الإضلال لا بد أن يكون مبنيًّا على حال العبد؛ لقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف ٥]، ولقوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ [المائدة ٤٩]، فالحاصل أن الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء لحكمة، ولا بد من أن يكون الإضلال من جراء فعل العبد.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب