الباحث القرآني

ثم قال الله عز وجل: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام ٢٦]. ﴿هُمْ﴾ الضمير يعود على مَنْ؟ على الكفار المجادلين. ﴿يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ أي: عما جئت به من الوحي. ﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ أي: يبعدوه، وقدم (النهي) على (النأي) مع أنه كان المتوقع أن يُبدأ بـ(النأي) الذي هو فعلهم بأنفسهم دون فعلهم بغيرهم؛ إشارة إلى شدة كراهتهم لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إنهم يبدؤون بنهي الناس قبل أن يبتعدوا عنه. ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ ﴿إِنْ﴾ هنا بمعنى: (ما)؛ أي: ما يُهلِكون إلا أنفسهم، وكما في آية أخرى: ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ [النساء ١١٣]، فمجادلتهم ونهيهم الناس لا يضر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئًا، وإنما هو هلاك أنفسهم، وهل المراد هنا الهلاك الحسي أو المعنوي؟ الجواب: المعنوي؛ لأن هذا الكافر المجادل لا يموت بجداله، بل يبقى، لكنه حقيقة من الناحية المعنوية قد هلك. ﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي: ما يشعر هؤلاء أنهم بهذا النهي عما جاء به الرسول ﷺ والبعد عنه، لا يشعرون أنهم بذلك أهلكوا أنفسهم، ولذلك تجدهم يفتخرون بما هم عليه من الكفر، حتى إن أبا سفيان قال يوم أحد قال:« اعْلُ هُبَل». يفتخر بأيش؟ بالصنم الذي يعبده، ويقول: إنه علا على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال لهم النبي ﷺ: «أَجِيبُوهُ». قالوا: بماذا نجيبه؟ قال: «قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ»[[أخرجه البخاري (٣٠٣٩) من حديث البراء بن عازب.]]. فالشاهد أن هؤلاء الكفار المجادلين لا يشعرون أنهم على ضلال -نسأل الله العافية- وهذا غاية ما يكون من الابتلاء؛ أن يرى الإنسان أنه على الحق مع أنه على باطل، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، وَلَا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِسًا عَلَيْنَا فَنَضِلَّ»[[قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (٣ / ١٤١٨): لم أقف لأوّله على أصل، وروى المستغفري في الدعوات من حديث أبي هريرة: كان النبي ﷺ يدعو فيقول: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ سَأَلْتَنَا مِنْ أَنْفُسِنَا مَا لَا نَمْلِكُهُ إِلَّا بِكَ فَأَعْطِنَا مِنْهَا مَا يُرْضِيكَ عَنَّا». وفيه ولهان بن خبير، ضعفه الأزدي، وإن لمسلم من حديث عائشة فيما كان يفتتح به صلاته من الليل: «اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ» إلى آخر الحديث. وقال ابن شاهين في كتاب مذاهب أهل السنة (٣٨): ومن أدعية من تقدم: اللهم أرنا الحق حقا وألهمنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وألهمنا اجتنابه.]]. * طالب: الكتب التي يُنصح بها في مطالعة كلام المتكلمين، والذي فيه الردود التي تُقنع الإنسان، أحيانًا بعض الكتب والمؤلفات.. * الشيخ: نعم، والله أنا ما رأيت أحسن من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، هو وابن القيم، لكن كلام ابن القيم -رحمه الله- أسهل وأقرب إلى الفهم، وأما بقية المتكلمين فأكثر ما يكون الجدل؛ الأشاعرة مع المعتزلة، وهذا ما يكفي، إذا أردت العقيدة السليمة فعليك بكتب شيخ الإسلام وابن القيم، هذا أحسن ما رأيت. * طالب: عفا الله عنك يا شيخ، شيخ الإسلام ابن تيمية يا شيخ أعمق بالدليل، وابن القيم -رحمهما الله- أسهل في تنسيق الكلام، وانتظام الكلام مع بعضه. * الشيخ: صحيح، هذا هو الواقع؛ ولذلك تعتبر كتب ابن القيم سلّمًا لكتب شيخ الإسلام رحمه الله. * طالب: كيف يجمع بين العذر بالجهل -يعني عذر هؤلاء الأتباع الذين يكونون أتباعًا للضلال- وبين أن الله عز وجل يزيد الناس ضلالًا؛ حيث إن الإنسان يعني ما تكون إقامة الحجة بالكلمة الواحدة فتعيد عليه دائمًا؟ * الشيخ: هؤلاء ما جهلوا؛ لأن الرسول أتاهم بآيات بينات، لكنهم يقولون: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف ٢٢]. * الطالب: هل يُطبق هذا على أتباع الضلال يعني أي واحد.. * الشيخ: أتباع أيش؟ * الطالب: أتباع الضلال، الأتباع الذين يقولون.. * الشيخ: هذا يختلف الحكم، إن كان هؤلاء الأتباع ما ذُكر لهم الرسول عليه الصلاة والسلام أبدًا، ولا أنه جاء رسول للخلق، وقادتهم قد كتموا عنهم هذا فهم معذورون، لكن إذا علموا لا بد أن يُعلم، وليُعلم أن هناك فرقًا بين اليهود والنصارى وغيرهم، غيرهم لا بد أن تبلغه الحجة ويفهمها، وأما اليهود والنصارى فبمجرد السماع -سماع الرسول عليه الصلاة والسلام- تقوم عليهم الحجة، ولهذا قال النبي ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِمَا جِئْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[[أخرجه مسلم (١٥٣ / ٢٤٠) من حديث أبي هريرة.]]. ووجه ذلك أن اليهود والنصارى كتبهم مصرحة بوصف الرسول ﷺ، فبما بقي عليهم إلا أيش؟ إلا أن يسمعوا بخروجه، فإذا سمعوا بخروجه قامت عليهم الحجة. * طالب: حديث النبي ﷺ: «أَنَا زَعِيمُ بَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا»[[أخرجه أبو داود (٤٨٠٠) من حديث أبي أمامة.]] هل هو على إطلاقه حتى على أهل البدع؟ * الشيخ: لا، المراء في غير الحق، أما المراء الذي يُراد به إحقاق الحق وإبطال الباطل فهو واجب، لكن مثلًا تمارينا في شيء من أمور الدنيا، وأنا أعرف أن الصواب معي، لكن لما رأيت صاحبي يريد أن يجادل تركته. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قول الله تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أن أعداء الإسلام ينهون عن الإسلام، ونهيهم عنه يستلزم أن يسلكوا كل طريق يُبعِد الناس عنه؛ لأن نهيهم عنه نهي حقيقي عن قلب، وهذا يستلزم أن يسلكوا كل طريق يُبعِد الناس عن شريعة الله، والأساليب في هذا مختلفة قد تكون بإيراد الشكوك، أو بالأفكار الفاسدة، أو بالأخلاق الفاسدة، أو بالتحريش بين الناس، أو ما أشبه ذلك، المهم أن الأساليب كثيرة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء جمعوا بين الضلال والإضلال، الإضلال في قوله؟ * طالب: ﴿يَنْهَوْنَ﴾. * الشيخ: والضلال؟ * الطالب: (...). * الشيخ: أحسنت، وهذا أشد ما يكون من العدوان؛ وهو الظلم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن كل من حاول إبطال الحق وإبعاد الناس عنه فإنما جنى على نفسه. قوله: ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ حتى لو برقت له الدنيا، وظهر له النصر الظاهري فإنه -في الحقيقة- هالك، أفهمتم هذا؟ من ذلك مثلًا أبو سفيان قال في غزوة أحد: «اعلُ هُبَلُ». وقال: «لَنَا العُزَّى ولا عُزَّى لَكُمْ»[[أخرجه البخاري (٣٠٣٩) من حديث البراء بن عازب.]] فافتخر وشمخ بأنفه، ولكن هل هذا الأمر سيبقى أو ستكون العاقبة عليهم؟ الثاني هو المتعين سواء في الدنيا أو في الآخرة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: التحذير من سلوك الإنسان سبل الهلاك وهو لا يشعر، وقد بيَّن الله تعالى ذلك في قوله: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر ٨]. احذر، ولكن إذا قال قائل: ما الذي يدل الإنسان على كونه على صواب أم لا؟ الجواب: أن يرجع إلى الكتاب والسنة وإلى هدي السلف الصالح، ومنهجهم فيعرف أنه على صواب، أو على خطأ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب