الباحث القرآني

ثم قال عز وجل: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ [الأنعام ٢٢] ﴿يَوْمَ﴾ ظرف، والمعروف أن الظرف والجار والمجرور لا بد لهما من متعلَّق، كما قال ناظم الجمل: ؎لَا بُدَّ لِلْجَــــــــــــــــــــــــــــــار مِنَالتَّـــــــــــــــعَلُّقِ ∗∗∗ بِفعْـــــــــــــــــــــلٍ اوْ مَعنَاهُ نَحْوُمُرْتَقِــــــــــــــــــــــــــــــــــي؎واسْتَثْنِ كُلَّ زَائِدٍ لَــــــــــــــهُعَمَــــــــــــــــــــــــلْ ∗∗∗ كَالْبَا و(مِنْ) وَ(الْكَافِ) أَيْضًا وَ(لَعَلْ) إذن أين متعلق ﴿يَوْمَ﴾؟ محذوف؛ التقدير: اذكر يوم نحشرهم، اذكر في نفسك، أو اذكر لهم؟ الجواب: الثاني، ويجوز أن نقول: اذكر في نفسك حتى تتسلى بهذه الذكرى، ويهون عليك أمرهم. ﴿نَحْشُرُهُمْ﴾ أي: نجمعهم. ﴿جَمِيعًا﴾ لا يُفلت منهم أحد. ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام ٢٢] ﴿نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ أي: بالله عز وجل في الدنيا. ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ﴾ الاستفهام هنا للتوبيخ والتبكيت، وإلا من المعلوم أنهم لن يأتوا، لكن توبيخًا لهم وتبكيتًا لهم، وتنديمًا لهم أنهم لن ينتفعوا بهم. ﴿شُرَكَاؤُكُمُ﴾ أي: ما أشركتم بهم في الله عز وجل، ونعلم أن المشركين كانوا أنواعًا وأصنافًا؛ منهم من يُشرك مع الله حجرًا، أو شجرًا، أو قمرًا، أو نجمًا، المهم أنهم مختلفون. فيقال: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أي: تزعمون أنهم آلهة، والإله ينفع مَنْ تألَّهه، فأين هم؟ الجواب: بيّنه الله عز وجل ﴿ثُمَّ﴾ أي: بعد هذا السؤال ﴿لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام ٢٣] (الفتنة) هنا بمعنى الحجة. ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ أي: حجتهم. ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ أقسموا بالله أنهم لم يكونوا مشركين، وهل هم صادقون في هذا القسم؟ لا؛ ولهذا قال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنعام ٢٤]، انظر أيها المخاطب كيف كذبوا على أنفسهم، وهنا إشكال: ﴿كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾، وأمرنا أن ننظر، والمراد هنا نظر الاعتبار، لكن كيف يقول: ﴿كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ والأمر لم يأتِ بعد؛ لأن هذا يكون يوم القيامة؟ والجواب: أن هذا على حكاية الحال، والله -عز وجل- دائمًا يحكي الأشياء المستقبلة حتى يتصورها الإنسان وكأنها واقعة، وإنما يكون ذلك؛ لأن الشيء المستقبَل المحقق يكون كالواقع تمامًا، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل ١] مع أنه ما أتى بدليل قوله: ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل ١]، فيكون التعبير بالماضي على حكاية الحال حتى يتصور الإنسان وكأن الشيء بين يديه. ﴿كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ بقولهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾. ثم قال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ﴿ضَلَّ﴾ بمعنى ضاع فلم يجدوه، كالرجل الذي ضاع له المال فلم يجده، هؤلاء ضاعت عنهم الآلهة فلم يجدوها. وقوله: ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي: ما كانوا يفترونه من دعواهم أن هذه آلهة مع الله، فإن هذا من أعظم الافتراء كما سبق في الآية فيما قبل آيتين. نعود إلى القراءات في هذه الآية يقول: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، عندي القراءات: ﴿ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ والقراءة اللي في المصحف: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ الخلاف: في الفعل، وفي اسم (كان)، وفي خبر (كان)، الفعل بدل ﴿تَكُنْ﴾ أيش؟ ﴿يَكُنْ﴾ لماذا؟ لأن اسم كان على هذه القراءة مذكر، وهو قوله: ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾؛ لأن المعنى: لم يكن فتنتهم إلا قولهم. الثاني: ﴿وَاللَّهِ رَبَّنَا﴾ قراءة يعني والله يا ربنا ما كنا مشركين، هذا الاختلاف في القراءات -يا إخواني- لا يضر؛ لأنه فيما سبق في العهد الأول كانوا لا يحركون الحروف ولا يُعجِمونها؛ يعني لا يجعلون نقطة ولا نقطتين، لا فوق ولا تحت، فتكون القراءتان في الرسم واحدة، إنما تختلف في النطق، وفي الإعجام والإعراب بعد أن أعجم القرآن وأعرب. * من فوائد هذه الآية الكريمة: تسلية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث ذُكر له مآل المكذبين له. * ومن فوائدها: التحذير من الشرك؛ لأن المشرك سوف يُوبَّخ في يوم لا يستطيع الخلاص فيه. * ومن فوائدها: إثبات يوم القيامة، يوم الحشر. * ومن فوائدها: أن الحشر عام شامل، لا يشذّ عنه أحد، لا مؤمن ولا كافر، ولا بر ولا فاجر؛ حيث أكده الله عز وجل بقوله: ﴿جَمِيعًا﴾. * ومن فوائد الآية: الكريمة إثبات القول لله؛ لقوله: ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ﴾ قد ينازع منازع، ويقول: إن القائل هم الملائكة، وأضاف الله قولهم إلى نفسه؛ لأنهم رسله القائلون بأمره فهو كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة ١٨] مع أن القارئ جبريل. نقول: هذا وارد بلا شك أنه يحتمل أن يكون الذي يقول لهؤلاء المشركين ملائكة، وأضاف الله ذلك إليه؛ لأنهم يقولون بأمره، ولكن ما هو ظاهر القرآن؟ أن القائل هو الله عز وجل، وإذا كان هذا ظاهر القرآن فليس لنا مندوحة عنه؛ لأن الله سوف يحاسبنا يوم القيامة، فيقول الكلام، ثم نقول، فكيف يصرف بأن المراد الملائكة بلا دليل؟ فالواجب الأخذ بظاهر القرآن ما لم يوجد دليل، فإذا وجد دليل ينقل الكلام عن ظاهره فعلى العين والرأس، المهم في هذا إثبات أن الله يقول. فإن قال قائل: أيقول بالحروف المسموعة المعقولة أو بحروف أخرى؟ الجواب: الأول بلا شك. فإن قال قائل: وهل يشبه صوته صوت المخلوقين؟ فالجواب: لا؛ لأن الله يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى ١١]؛ ولأن الله عز وجل إذا تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة وصعق الملائكة، ومثل هذا لا يقع في كلام الآدميين أبدًا، في كلام المخلوقين عمومًا، لا يمكن. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: توبيخ أولئك المشركين حيث يُقال لهم في هذا المجمع العظيم: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ﴾. * ومن فوائدها: أن هذه الآية تدل على أن الأصنام لا تنفع عابديها؛ لأنها لا تنصرهم في هذا الموقف، بل قد قال الله عز وجل: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ تحصبون بها في وسطها، ﴿أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا﴾ [الأنبياء ٩٨، ٩٩]، شوف هذه الآية فرح بها المشركون وانتهزوا الفرصة، وقالوا: هذا محمد يقول: إن المعبودات في النار، وعيسى معبود فيقتضي أن يكون عيسى في النار، فأنزل الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ [الأنبياء ١٠١]. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن أولئك العابدين لهذه الأصنام ليس عندهم حجة ولا برهان، وإنما هي مجرد دعوى تُؤخذ من قوله: ﴿تَزْعُمُونَ﴾، والزعم -في الغالب- يكون في قول لا دليل له. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة التي بعدها: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ إلى آخره؛ من فوائدها: أن أولئك القوم فتنوا بهذا الجواب واستحسنوه وظنوه مفيدًا، وهو: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾. * ويتفرع على هذه الفائدة: أن الإنسان قد يُفتن بالشيء فيرى الحق باطلًا والباطل حقًّا، فاسلم من هذه الفتنة، وحاسِب نفسك عليها، واستعذ بالله أن تكون من أهلها. * ومن فوائدها: إقرار هؤلاء المشركين بألوهية الله وربوبية الله؛ بألوهيته في قولهم: ﴿وَاللَّهِ﴾، وربوبيتهم في قولهم: ﴿رَبِّنَا﴾ لكن هل ينفع هذا؟ في ذلك الوقت ما ينفع، بل لا ينفعهم لو أنهم وحَّدوا حين نزل بهم الموت، كما قال عز وجل: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ [النساء ١٨]. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن ما افتروه من الشريك لله عز وجل سوف يضل عنهم مع شدة طلبهم له، كما تضل الضالة عن صاحبها؛ لقوله: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾. فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذه الآية الكريمة وهم يقولون: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ وبين قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء ٤٢]، صرح الله في هذه الآية أنهم لا يكتمون الله حديثًا، وهنا كتموا؛ قالوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾؟ فالجواب: أولًا: يجب أن نعلم ونؤمن ونتيقن أنه لا تناقض في القرآن أبدًا، التناقض في فهم الإنسان لقصوره، أما القرآن فلا تناقض فيه، ولا يمكن أن يتناقض، وقد ألَّف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة العظيمة مؤلفات، ومنها: تأليف الشيخ محمد الشنقيطي رحمه الله المفسّر والأصولي المشهور: دفع إيهام الاضطراب في آي الكتاب. لا يمكن أبدًا التناقض، فإن رأيت متناقضًا فالخلل من عندك؛ إما لقصور في الفهم، أو تقصير في الطلب، أو سوء نية، تريد أن تبحث عن الأشياء التي ظاهرها التعارض لتطعن القرآن أو قصور في العلم، وإلا فلا تناقض، هنا نقول: يوم القيامة خمسون ألف سنة، وللناس فيه أحوال، ففي حال ينكرون أنهم مشركون، وفي حال يقرون، إذا رأوا أن أهل التوحيد نجوا قالوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، فإذا خُتم على أفواههم وشهدت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون حينئذٍ أقروا؛ لأنه لا يمكن أن ينكروا مع وجود الشهود من أنفسهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب