الباحث القرآني

قال الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾، ﴿قُلْ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾، ﴿فِي﴾ بمعنى (على)، وإنما أتت ﴿فِي﴾ بمعنى (على) لبيان أنه ينبغي أن يكون السير عميقًا، كأنما يسيرون في أجواف الأرض، ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾، وهل السير هنا بالقلوب أو بالأقدام؟ الجواب: يحتمل هذا وهذا، فالسير في القلوب أن يتأمل الإنسان ما جرى للأمم السابقة بما صح من تاريخهم، وأصح تاريخ للأمم السابقة ما جاء في القرآن، أو صحَّت به السنة، أو بأقدامكم، سيروا في الأرض بأقدامكم، بأن ينظروا آثار المكذِّبين المهلَكين، كما في قول الله تعالى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات ١٣٧، ١٣٨]، فصار السير هنا يشمل السير بالقلب، والسير بالقدم لأجل الاعتبار. ﴿ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾، ﴿انْظُرُوا﴾ بأعينكم أو ببصائركم، يعني: بأبصاركم أو بصائركم؟ إذا قلنا: السير بالقلب، فالمراد انظروا بالبصائر، وإذا قلنا: بالقدم، فالمراد بالبصر، وينبني على ما سبق. ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [الأنعام ١١]، ﴿كَيْفَ﴾ هذه خبر (كان) مقدم، ويتعين أن يكون مقدمًا لأنه اسم استفهام، واسم الاستفهام له صدر الكلام؛ لأنه هو المقصود بالجملة، وإذا كان المقصود بالجملة كان حقه أن يُقَدَّم، ولهذا إذا قلت: أين زيد؟ تعيَّن أن تكون (أين) خبرًا مقدمًا، ولا يجوز أن تقول: زيد أين؟ فـ﴿كَيْفَ﴾ في محل نصب خبر (كان) مقدم، و﴿عَاقِبَةُ﴾ اسمها مؤخَّر باعتبار تقديم الخبر، وإلا هو في مكانه. ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ فماذا كانت؟ كانت أسوأ عاقبة -والعياذ بالله- دمَّرهم الله عز وجل، وجعلهم مثلًا للآخِرين يعتبرون بهم. * في هذه الآية الكريمة فوائد، منها: الأمر بالسير في الأرض للاعتبار، سواء كان بالبصائر أو بالأبصار؛ لقوله: ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾. * ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي أن نقرأ تاريخ الأمم السابقة، من أي مصدر؟ من القرآن وصحيح السنة، قيِّد؛ لأن من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة عن الأمم السابقة ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، والعبرة بالصحيح، وما أكثر الأحاديث التي فيها الأخبار عن الأمم السابقة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: فضل الاعتبار، وأنه أمر مطلوب؛ لقوله: ﴿انْظُرُوا﴾، وسواء كان الاعتبار بمن انتقم الله منهم، أو بمن أثابهم؛ إن كان بمن انتقم الله منهم فالإنسان يحذر، وإن كان ممن أثابهم فالإنسان يرغب، وفي هذه الآية أيّ الاعتبارين؟ بمن انتقم الله منهم. * ومن فوائد هذه الآية: أن الآثار تدل على المؤثِّر، وهذا أمر معلوم بالحس والواقع، سُئِلَ أعرابي: بما عرفت ربك؟ قال: الأثر يدل على المسير -يعنى على السير- والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجَاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ الجواب: بلى والله تدل على السميع البصير، فالآثار تدل على المؤثِّر. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: عقوبة المكذِّب، والتكذيب أحد شِقَّيِ ما يحصل به الكفر؛ لأن الكفر يحصل بأمرين: إما التكذيب، وإما الاستكبار، مع أن التكذيب فرع عن الاستكبار؛ لأنه ما كَذَّب إلا أنه يرى أنه فوق المرسَل. إن قال قائل: يُشْكِل على قولكم: إن السير يشمل السير بالقدم لينظر بالبصر، يشكل عليه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن دخول ديار المكذِّبين أو المهلَكين؟ فالجواب: أنه عليه الصلاة والسلام لم يَنْهَ عنها مطلقًا، بل نهى عنها عن أن ندخل فرِحِين بَطِرِين معجَبِين بالآثار، وما أشبه ذلك، أما أن ندخل معتَبِرين باكين خائفين فلا، ولهذا قال: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٣)، ومسلم (٢٩٨٠ / ٣٨) من حديث عبد الله بن عمر. ]]. فهناك فرق بين إنسان يدخل هذه الديار ليعتبر ويخاف ويبكي، وإنسان آخر يدخلها للبَطَر والأَشَر، والنزهة والإعجاب بالآثار؛ الأول محمود، والثاني مذموم، وبذلك يزول الإشكال.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب