الباحث القرآني

﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ بعدها ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ [الحديد ٤]. ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾: أوجدها عز وجل بكل نظام وتقدير، والسماوات سبع، والأرضون سبع، والأرض سابقة على السماء؛ لأن الله تعالى قال في سورة فصلت لما ذكر خلق الأرض قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت ١١] خلق السماوات والأرض، الأرض قبل خلق السماوات، لكن الله يبدأ بالسماوات لأنها أشرف من الأرض، وأعلى من الأرض. كيف السماوات؟ هل هي ملفوفة لفة واحدة أو بينها مسافة؟ بينها مسافة، المسافة بعيدة جدًّا جدًّا، وهذا يلزم أن يكون أصغر السماوات سماء الدنيا، ويليها الثانية، والثالثة، كل واحدة أوسع من الأخرى، وساعة عظيمة، وهي طباق، متطابقة، بعضها فوق بعض، وفي حديث المعراج أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلما صعد إلى سماء استفتح ففُتح له[[متفق عليه؛ البخاري (٣٨٨٧) ومسلم (١٦٤ / ٢٦٤) من حديث مالك بن صعصعة.]]. ﴿وَالْأَرْضَ﴾ الأرض جعلها الله تعالى في القرآن بصيغة الإفراد، الجمع، جمع أرض: أرضون، ما تجد (أرضون) في القرآن، كلها أرض أرض، لكن الله أشار إلى أنها متعددة في قوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق ١٢] أي: مثلهن في العدد، لا في الصفة؛ لأن الصفة بين الأرض والسماء التماثل فيها بعيد جدًّا، لكن مثلهن في العدد، وهو صرحت بذلك السنة في قول النبي ﷺ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣١٩٨) ومسلم (١٦١٠ / ١٣٧) من حديث سعيد بن زيد.]]. خلقها في ستة أيام، كم من الأيام؟ أطلقها الله عز وجل، ما بين أن اليوم خمسون ألف سنة ولا أقل ولا أكثر، وإذا أطلق يُحمَل على المعروف المعهود، وهي أيامنا هذه، وقد جاء في الحديث أنها الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، الجمعة منتهى خلق السماوات والأرض، مبتداها متى؟ الأحد، السبت ليس فيه خلق؛ لا ابتداء ولا انتهاء، فإذا قال قائل: أليس الله قادرًا على أن يخلقها في لحظة؟ فالجواب: بلى؛ لأن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون، إذن: لماذا كانت في ستة أيام؟ أجيب عن ذلك بجوابين: الأول: أن المخلوقات هذه يترتب بعضها على بعض، فرتب الله بعضها على بعض حتى أحكمها وانتهى منها كم؟ ستة أيام. الثاني: أن الله علم عباده التؤدة والتأني، وأن الأهم إحكام الشيء، لا الفراغ منه، حتى يتأنى الإنسان فيما يصنعه، ولو كان يخلصه في ساعة يتأنى ولو يخلصه في ساعتين، فعلَّم عز وجل سبحانه عباده التأني في الأمور التي هم قادرون عليها، وكلا الأمرين وجيه. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ استوى عليه يعني: علا عليه، على وجه يليق بجلاله، لا يمكن أن نمثله بخلقه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، والعرش مخلوق عظيم لا يعلم قدره إلا الذي خلقه عز وجل، وقد جاء في الحديث: «إِنَّ السَّماوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ»، الحلقة أيش؟ الحلقة حلقة الدرع، الدرع المكون من حلق من الحديد، الحلقة من الدرع ويش تكون بالنسبة للفلاة؟ جزء من السلسلة، هذه لا شيء، فلاة من الأرض واسعة ضاع فيها حلقة من حلق الدرع، ماذا يكون؟ ويش نسبته؟ ويش تشغله من الأرض؟ لا شيء «مَا السَّماوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى هَذِهِ الْحَلْقَةِ»[[صحيح ابن حبان (٣٦١) من حديث أبي ذر.]]، لا إله إلا الله، إذن لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، وليس لنا أن نسأل: أين مادة الكرسي هذا؟ من أين المادة؟ من ذهب، من فضة، من لؤلؤ؟ ما لنا حق نتكلم في هذا، هو عرش عظيم كما وصفه الله: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة ١٢٩]، ﴿﴿الْعَرْشِ الْمَجِيدِ﴾ ﴾ [البروج: ١٥] عرش عظيم جدًّا جدًّا، لا يعلم قدره إلا الله، استوى الله عليه لكمال سلطانه جل وعلا. قد تجدون في بعض الكتب: ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ يعني: استولى عليه، أهكذا تجدون أحيانًا؟ اللي اطلع منكم على بعض كتب الأشعرية وما أشبههم يرى هذا، (استوى) يقول استولى، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، وقول على الله بلا حق وبلا علم؛ لأنه إذا كان خلق السماوات ثم استوى على العرش قلنا: ثم استولى على العرش، قبل الاستيلاء لمن العرش؟! شوف بطلان القول هذا، ثم نقول: الله (استوى) استولى على كل شيء، هل نقول: استوى على الأرض؟ ما يمكن نقول هذا، إذن يتعين (استوى) بمعنى علا، كيف استوى؟ ما ندري، الله أعلم. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ [الحديد ٤]. ﴿مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: ما يدخل فيها من جثث الموتى، ومن الحبوب التي تنبت بإذن الله، ومن المياه التي يسلكها الله ينابيع في الأرض ثم يخرجها، وغير ذلك من الحشرات وغيرها، المهم كل ما يلج في الأرض يعلمه الله. وسؤالنا الآن: هل يعلم حال الذر إذا ولجت في جحورها؟ يعلم ولَّا ما يعلم؟ * طلبة: يعلم. * الشيخ: ما ذكر في الآية، نقول: ﴿مَا يَلِجُ﴾ هذه (ما) اسم موصول، والاسم الموصول يفيد العموم، أي: كل ما يلج في الأرض. ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ من النبات والمياه والمعادن وغيرها. ﴿وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ من الملائكة والأمطار والشرائع وغير ذلك. ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ أي: إليها، لكن جاءت ﴿فِيهَا﴾ بدل (إليها) لنستفيد فائدتين: الفائدة الأولى: العروج، يعني الصعود. والفائدة الثانية: الدخول؛ لأن (في) يناسبها من الأفعال الدخول، دخل في المكان، أما عرج ويعرج فالذي يناسبها (إلى)، لكن الله عز وجل عدَل عن قوله: (يعرج إليها) إلى قوله: ﴿يَعْرُجُ فِيهَا﴾ ليفيد أيش؟ الصعود والدخول، الأشياء ما تصل إلى السماء الدنيا وتقف، تعرج في السماء الدنيا حتى تصل إلى الله عز وجل. إذن ﴿يَعْرُجُ فِيهَا﴾ لو قال لك أحد النحاة: لماذا جاءت (في) بدل (إلى) والقرآن فصيح؟ فما الجواب؟ أن نقول: ضمن ﴿يَعْرُجُ﴾ معنى يدخل، والتضمين هذا موجود في القرآن الكريم وفي اللغة العربية، قال الله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان ٦] المناسب لـ(يشرب) أيش؟ من، كما قال تعالى: ﴿يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ [المؤمنون ٣٣] يعني: منه، ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة ٢٤٩]، وهنا قال: ﴿يَشْرَبُ بِهَا﴾ أيش الحكمة؟ قال العلماء: الحكمة أن (يشرب) هنا ضُمنت معنى (يروى بها)، ومعلوم أنك إذا قلت: (يروى بها) فقد تضمن معنى (يشرب) وزيادة، والتضمين هذا فن مهم في باب البلاغة، ينبغي لطالب العلم أن يدرسه ويحققه حتى يستفيد مما إذا اختلفت الحروف مع عواملها ولا يشكل عليه. ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ﴾ (هو) الضمير يعود على الله عز وجل، ﴿مَعَكُمْ﴾ أي: مصاحب لكم؛ كما قال النبي ﷺ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ»[[أخرجه مسلم (١٣٤٢ / ٤٢٥) من حديث ابن عمر.]]. لكن هل هذه الصحبة صحبة مكان، بمعنى أننا إذا كنا في مكان كان الله معنا؟ حاشا وكلا، لا يمكن هذا، وكيف يتصور عاقل أن الله معنا في مكاننا وكرسيه وسع السماوات والأرض، هذا مستحيل، الكرسي موضع القدمين كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه[[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (١٢٤٠٤).]]، فإذا كان كذلك هل يُعقل أن رب السماوات والأرض الذي يوم القيامة تكون السماوات مطويات بيمينه، والأرض جميعًا قبضته، هل يمكن أن يكون معنا في أماكننا الضيقة أو الواسعة؟ لا يمكن. إذن ﴿مَعَكُمْ﴾ أي: مصاحب لكم، والمصاحب قد يكون بعيدًا عنك، يقول العرب في أسلوبهم: ما زلنا نسير والقمر معنا، ما زلنا نسير والقطب معنا، ما زلنا نسير والجبل الفلاني معنا، وهل هو معهم في مكانهم؟ معلوم أن القمر في السماء، والنجم في السماء، والجبل قد يكون بينك وبينه مسافة أيام، ومع ذلك فالعرب تطلق عليه المعية مع البعد في المكان، كوننا نؤمن بأن الله معنا إذن هو عالم بنا ولَّا لا؟ سميع لأقوالنا، بصير بأفعالنا، له القدرة علينا والسلطان، مدبر لنا بكل معنى تقتضيه المعية. واعلم أن من الضلال من يقولون: إن الله معنا في أمكنتنا -نسأل الله العافية- وينكرون أن يكون الله في السماء عاليًا، فأتوا داهيتين عظيمتين: إنكار علو الله، يعني هما: إنكار علو الله، والثاني: اعتقاد أنه في الأرض. سبحان الله! هل يُعقل أن يعتقد عاقل -فضلًا عن مؤمن- أنه إذا كان في الحش، في المرحاض كان الله معه؟! أعوذ بالله! الذي يعتقد هذا أشهد بالله أنه كافر؛ لأن أعظم استهزاء بالله وأعظم حط قدر الله هو هذا. ثم نقول: إذا كان الله كما يقولون في كل مكان، يعني أنه في الحجرة، في السوق، في المسجد، ثم من الذي يكون مع أناس في الحجرة، وأناس في الشارع، أهما إلهان؟ أجيبوا يا جماعة؟ * طلبة: لا. * الشيخ: لا، ولا يمكن أن يقولوا: إن الله متعدد، إذا لم يكن إلهان هل هو متجزئ؛ بعضه هنا وبعضه هنا؟ إذن معناه بطل أن يكون معنا بذاته في أمكنتنا؛ لأنه إما أن يكون متعددًا وإما أن يكون متجزئًا، وكلاهما باطل، قررت هذا لأنه يوجد الآن كما لمسناه في الوافدين إلى مكة من يعتقد هذا الاعتقاد. يقول الله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾، هذا آية ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ ويش تقول؟ نقول: المعية هي المصاحبة، ولا يلزم من المصاحبة المقارة في المكان، يعني أن يكون قارًّا في مكانك، لا يلزم من هذا، وكيف يمكن أن يكون الله تعالى معك في مكانك وهو سبحانه وتعالى وسع كرسيه السماوات والأرض؟ ولكن هؤلاء الذين يعتقدون هذا ما قدروا الله حق قدره، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا عرفوا عظمته وجلاله، قال الله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر ٦٧] فكيف يعتقد أن الله معنا في مكاننا؟ فلهذا يجب على الإنسان أن يعرف نعمة الله عليه بكونه يؤمن بالقرآن على ما هو عليه على ظاهره، معظم لله حق التعظيم. وقوله: ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ أي: في أي مكان كنتم؛ لأن ﴿أَيْنَ﴾ ظرف مكان، قال الله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة ١٤٤] مثل: ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد ٤] أي: بما تعملون من الأعمال كلها بصير، وهل البصر هنا بصر علم أو بصر رؤية؟ يشمل هذا وهذا، فهو بصير بصر رؤية، يرانا عز وجل، قال النبي ﷺ عن ربه: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»[[أخرجه مسلم (١٧٩ / ٢٩٣) من حديث أبي موسى.]] هذا بصر رؤية. أما بصر العلم فمن المعلوم أن أعمالنا قد تكون مرئية كالحركات، وقد تكون مسموعة كالأقوال، المسموعة لا تُرى بالعين، لكنها تُسمع، فرؤية المسموع علم، وعلى هذا نقول: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد ٤] يشمل العلم والبصر بالرؤية.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب