الباحث القرآني

﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ إلى آخره [الحديد: ٢٠] لما ذكر الله أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين وهم في الدنيا كل يعمل على شاكلته، بيَّن حقيقة الدنيا ما هي، وأمرنا أن نعلم من أجل أن يجتهد الإنسان في التأمل والتفكر، فالأمر بالعلم بشيء واقع يعني أن المطلوب أن تتأمل كثيًرا حتى يتبين لك الأمر. ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ وهي حياتنا هذه ﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾، خمسة أشياء، اللعب بالجوارح، واللهو بالقلوب. أما اللعب بالجوارح فأن يعمل الإنسان أعمالًا تصده عن ذكر الله وعن الصلاة. وأما اللهو بالقلوب فهو الغفلة، وهذا أشد وأعظم، غفلة القلب، أعاذنا الله وإياكم منها، وأحيا قلوبنا وقلوبكم، الغفلة عظيمة تفقدك جميع لذات الطاعات، وتحرم من جميع آثارها؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ [الكهف ٢٨] لم يقل: لا تطع من أسكتنا لسانه، قال: ﴿مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ﴾ [الكهف ٢٨] وما أكثر ذكرنا باللسان مع غفلة الجنان، وهذا لا شك أنه ينقص الثواب وينقص الآثار المترتبة على الذكر، من صلاح القلب والاتجاه إلى الله، وإنابته إليه، وغير ذلك. ﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ اللعب في الجوارح، واللهو في القلوب. ﴿وَزِينَةٌ﴾ نعم زينة بالملابس، زينة بالمراكب، زينة بالمساكن، زينة في كل شيء، ولذلك تجد الإنسان ولو كان فقيرًا يحب أن يزين بيته؛ ديكور وغيره، وكذلك سيارته، عندنا أزواج إذا أراد الزوج يركب سيارة يجعل عليها عقودًا من الأزهار وغيرها؛ زينةً. ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾ كل واحد يفخر على الثاني، أنا من القبيلة الفلانية وأنت من القبيلة الفلانية، قبيلتك لا تساوي شيئًا في المجتمع، وقبيلتي قبيلة رفيعة، يتفاخرون، تفاخر في العلم، يكون هذا عنده علم بالطب وهذا لا يعرف في الطب، هذا علمه بالهندسة وهذا لا يعرف فيفخر عليه. وأقبح من ذلك التفاخر بالعلم الشرعي؛ لأن العلم الشرعي يجب على الإنسان إذا اكتسبه ومنَّ الله عليه به أن يزداد تواضعًا وأن يعرف نفسه وقدر نفسه. ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾ ومن ذلك ما يحصل بين الشعراء في بعض الأحيان من التطاول على الآخرين والتفاخر، كما يوجد في بعض الأفراح وبعض المناسبات عما نسمع. ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ تكاثر، كل واحد يحب أن يكون أكثر أموالًا وأكثر أولادًا، وهذا كقوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [آل عمران ١٤] هذه حقيقة الدنيا، ومع ذلك مع هذا اللهو واللعب والتفاخر والزينة هل تبقى؟ أبدًا، ما تبقى، لا بد أن تزول، وإذا طال بالإنسان زمان عاد إلى الهرم، وفي هذا يقول الشاعر: ؎لَا طِيبَ لِلْعَيْشِ مَا دَامَتْ مُنَغَّصَةً ∗∗∗ لَذَّاتُهُ بِادِّكَارِ الْمَـــــــــــوْتِوَالْهَـــــــــــرَمِ كل إنسان إذا فكر في عيشه وأنه في نعيم يقول: فما بعد ذلك؟ ما الذي بعده؟ إما موت أو هرم، إما أن تموت وتنتهي من الدنيا، وإما أن تهرم وتكون عالة على ابنك وبنتك، حتى أهلك يملون منك، ولهذا أشار الله عز وجل إلى هذه الحالة فقال: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا﴾ أي: الوالدان ﴿أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء ٢٣] لأنهما إذا بلغا الكبر اختل تفكيرهما، وصارا يتعبان، فأنت إما أن تموت أو تصل إلى حال الهرم، هذا إن بقيت لك الدنيا، وإلا فقد تسلب إياها قبل أن تصل إلى الهرم وقبل أن تموت. إذن نأخذ من هذا الحذر من فتنة الدنيا، وكم من إنسان أطغته الحياة الدنيا فهلك، وفي الحديث القدسي: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ إِذَا أَغْنَيْتُهُ أَفْسَدَهُ الْغِنَى»[[الأسماء والصفات للبيهقي (١ / ٣٠٧) من حديث أنس بن مالك.]] بل قد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وَاللهِ مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُفْتَحَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ فَتَنَافَسُوا فِيهَا كَمَا تَنَافَسَ فِيهَا مَنْ قَبْلَكُمْ، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٠١٥)، ومسلم (٢٩٦١ / ٦) من حديث عمرو بن عوف.]]، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، أكثر الفسقة، أكثر الكفرة ممن؟ من الملأ والأشرار، اقرءوا القرآن، من يكذب الرسل؟ الملأ والأشرار، اعتبروا بالواقع الآن، أكثر ما يفسد الدنيا هم الأثرياء والأغنياء الذين فُتحت عليهم الدنيا، فليحذرها العاقل اللبيب وليقتصر منها على ما ينفعه في الآخرة، هذه حقيقة الدنيا. ثم ضرب الله لها مثلًا؛ لأن الأمثال تقرب المعاني؛ إذ إن المثل يعني قياس المعنى على المحسوس: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ غيث أي: مطر تنبت به الأرض وتزول به الشدة، ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ أي: النبات الناشئ عنه، وأعجبهم أي: استحسنوه، والكفار هم الكافرون بالله عز وجل؛ لأن الكافر تعجبه الدنيا، ويفرح بها، ويُسَر بها، وقلبه متعلق بها، ليس له هم إلا ما يراه من زينتها ولهوها، فهو قد ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ﴾ أي: الكفار بالله. ﴿نَبَاتُهُ﴾ أي: نبات هذا الغيث، ولماذا خص الكفار؟ قلت لكم: لأن الكفار هم الذين يستحسنون الدنيا، ويعجبون منها، وتتعلق قلوبهم بها، أما المؤمنون فهم على العكس لا يهمهم إلا ما فيه مصلحة الآخرة. وقيل: إن المراد بالكفار هنا الزراع، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن إطلاق الكفار على الزراع نادر جدًّا، هذا إن صح، والذين يقولون: إن المراد بهم الزراع يقولون: لأن الكافر يكفر الحب -أي: يستره في الأرض، يحرث الأرض عليه- لأجل أن يخرج، ولكن ما قررناه أولًا هو الصواب أن المراد بالكفارِ الكفارُ بالله. ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ﴾ بعدما يظهر ويعجب الكفار ويستحسنونه ويتعجبون منه ﴿يَهِيجُ﴾ أي: ييبس ويجف ﴿فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا﴾ بعد أن كان أخضر ناميًا يكون مصفرًا دائمًا، ﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾ يعني: يتحطم ويتكسر؛ لأنه يبس، فماذا كانت النتيجة لهذا الزرع؟ التلف والزوال، هذه حال الدنيا، تزهو للإنسان بنعيمها وقصورها ومراكبها وأموالها وأولادها وزوجاتها وغير ذلك، وإذا بها تتحطم. كم من غني كان مسرورًا في أهله منعمًا في بيته وفي مركوبه وفي ثيابه وفي كل أحواله إذا به يعود فقيرًا، فتتحطم دنياه، فإن لم تكن مات وتحطمت دنياه بفراقه هذه الدنيا فلا بد من أحد أمرين: إما أن تفارقك الدنيا، وإما أن تفارقها، هذه حال الدنيا، وهذا أمر لا يشك فيه في الواقع، لكن النفوس معها غفلة، يسهو بها الإنسان عن مثل هذا الأمر الواقع، فيظن أن كل شيء على ما يرام ويستبعد زوال الدنيا أو زواله هو عن الدنيا. أما الآخرة فاستمع إليها، قال: ﴿وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ للكافرين ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ للمؤمنين، فأيما أحق: أن يؤثر الإنسان الدنيا التي مآلها الفناء والزوال أو الآخرة؟ الثاني، يؤثر الآخرة، هذا العقل؛ لأنك إن آثرت الدنيا ففي الآخرة عذاب شديد، وإن آثرت الآخرة ففيها مغفرة من الله ورضوان، مغفرة للذنوب ورضوان بالحسنات، ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، هذه الجملة فيها حصر، طريقه: النفي والإثبات، وهو أعلى طرق الحصر، ما الحياة الدنيا إلا متاع لا غير، ومتاع الغرور يغتر بها الإنسان فيلهو ويلعب ويفرح ويبطر ثم تزول. كل هذه الجمل وهذه الأوصاف يريد الله عز وجل -وهو أعلم- أن يزهد الإنسان في الدنيا ويرغب في الآخرة. وإني سائلكم: من زهد في الدنيا ورغب في الآخرة هل يفوته شيء من نعيم الدنيا؟ الجواب: لا، لا يفوته، حتى وإن افتقر، فإنه لا يفوته نعيم الدنيا، دليل هذا من القرآن والسنة قال الله عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل ٩٧] لم يقل: لنكثرن ماله وأولاده وقصوره، ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ مطمئنة مستريح البال فيها ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل ٩٧] وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك في قوله: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»[[أخرجه مسلم (٢٩٩٩ / ٦٤) من حديث صهيب.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب