الباحث القرآني

ثم قال جل وعلا: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر ٤٩]، لما ذكر عذاب أهل النار، ثم سيذكر نعيم أهل الجنة؛ ذكر بينهما أن هذا الخلق وتفاوته بقدر الله عز وجل، فكل شيءٍ مخلوق فهو بقدر، انتبه يا أخي، كل ذرةٍ في رملة فهي مخلوقة بقدر، كل نقطةٍ تقع على الأرض من السحاب فهي مخلوقة بقدر كل شيء، ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ تعم ما سوى الخالق؛ لأنه ما ثَم إلا مخلوق وخالق، فإذا كان كل شيءٍ مخلوقًا كان الخالق وحده الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء. والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء. قال النبي ﷺ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ»[[أخرجه مسلم (٢٦٥٥/١٨) من حديث ابن عمر.]] العجز: يعني تكاسل الإنسان، والكيس: يعني حزم الإنسان ونشاطه في طلب ما ينفعه والبعد عما يضر، كل شيء. وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الإنسان مخلوقٌ لله تعالى، وأن أفعاله مخلوقة لله، وأن كل شيءٍ قد قُدر وانتهى، وإذا كان كذلك فلمن يلجأ الإنسان إذا أصابته الضراء؟ إلى الله الخالق، وإذا أراد السراء أيضًا يلتجئ إلى الله الخالق، لا يفخرنّ ويعجبنّ بنفسه إذا حصل له المطلوب، ولا يبأس إذا أصابه مكروب، فالأمر بيد الله. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»[[أخرجه مسلم (٢٦٦٤/٣٤) من حديث أبي هريرة.]] القوي في إيمانه، القوي في إرادته وهمته ونشاطه، وليس المراد القوي في بدنه، قوة البدن إما لك وإما عليك، إن استعملتها في العمل الصالح فهي لك، وإن عجزت عنه مع فعلك إياه في حال القوة كُتب لك، وإن استعملت هذه القوة في معصية الله كانت عليك، لكن المراد بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «الْقَوِيُّ» أي: في إيمانه وإرادته، أما قوة البدن فهي لك أو عليك. قال: «وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ» في كل من القوي والضعيف خير، وهذه الجملة يسميها علماء البلاغة جملة احترازية؛ لأنه لما قال: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ» يظن الظان أن المؤمن الضعيف ليس فيه خير، فقال: «وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ» ولها نظائر، قال الله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ يعني من قبل صلح الحديبية ﴿وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ﴾ [الحديد ١٠] كلًّا من هؤلاء وهؤلاء، يعني: فلا تظنوا أن هذا التفاوت يحط من قدر الآخرين ويحرمهم الخير، وقال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [النساء ٩٥]. فهنا قال النبي ﷺ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ»، فإذا فعلت ذلك حرصت على ما ينفع واستعنت بالله، وكنت حازمًا نشيطًا قويًّا في مرادك. قال: «فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ»، يعني هذا قدر الله «وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»، أنت عليك أن تسعى للخير، وليس عليك أن يتم لك ما تريد. المهم أن كل شيءٍ بقدر، حتى العجز والكيس، فمن قدَّر الله له الهداية فبالقدر، ومن قدر له الشقاء فهو بقدر، ولكن ما السبب لتقدير الله الشقاء على العبد؟ هو نفس العمل؛ لقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف ٥].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب