الباحث القرآني

ثم ذكر شيئًا من أوصافهم، فقال: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ [النجم ٣٢] ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ﴾ أي: يبتعدون عنها، وسُمِّي الابتعاد اجتنابًا؛ لأن الإنسان يقع في جانب، والذي أُبعد عنه يقع في جانبٍ آخر، فيبعدون ولا يتصلون بكبائر الإثم والفواحش ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾، ﴿كَبَائِرَ الْأِثْمِ﴾ هي الكبيرة؛ كبائر جمع كبيرة، والكبيرة بعض العلماء عدها، وبعض العلماء حَدَّها، والصواب الحد، أي: أنها محدودة وليست معدودة، والذين ذكروها عدًّا الظاهر -والله أعلم- أنهم أرادوا المثال، فمثلًا: إذا قال إنسان هي: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، هذه سبع، إذا قال إنسان: هذه الكبائر، ليس معنى قوله أنها محصورة في هذا، إذ من الممكن أن يحمل كلامه على أن ذلك على سبيل التمثيل فقط. أما الذين حدوها- يعني: جعلوا لها ضابطًا؛ يعني ما عَدّوا واحد اثنان ثلاثة أربعة، لا، ضابط- قالوا في ضابطها: كل ذنبٍ رتَّب الله عليه لعنة، أو غضبًا، أو سخطًا، أو تبرؤًا منه، أو ما أشبه ذلك فهو كبيرة، ورأيت لبعضهم -ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله- أنه قال: كل ذنبٍ جُعلت له عقوبة خاصة إما في الدنيا أو في الآخرة فهو كبيرة، على هذا الزنا فيه عقوبة وهي الجلد أو الرجم، السرقة كبيرة، قطع الطريق كبيرة، عقوق الوالدين كبيرة، وهلم جرًّا، كلما رأيت شيئًا من الذنوب جعل الشارع له عقوبة خاصة فهو كبيرة. أما الذنب الذي نُهِي عنه فقط فهو صغيرة، كنظر الرجل للمرأة الأجنبية لشهوة هذا ليس كبيرة، هو صغيرة من الصغائر، لكن إن أصر الإنسان عليه وصار هذا ديدنه صار كبيرة بالإصرار لا بالفعل، مكالمة المرأة على وجه التلذذ حرام وليس بكبيرة، ولكن إذا أصر الإنسان عليه وصار ليس له هم إلا أن يشغل الهاتف على هؤلاء النساء ويتحدث إليهن صار كبيرة، فالإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة من حيث الإصرار؛ لأن إصراره على الصغيرة يدل على تهاونه بالله عز وجل، وأنه غير مبال بما حرم الله. إذن كبائر الإثم: كل ذنبٍ رتب الشارع عليه عقوبة خاصة إما في الدنيا وإما في الآخرة، وأما ما حرمه وسكت ولم يذكر له عقوبة خاصة بل دخل في العموم فهذا من الصغائر، ولكن الصغائر إذا أصر عليها صارت كبيرة من حيث الإصرار. وقوله: ﴿وَالْفَوَاحِشَ﴾ هذه كبائر الكبائر؛ لأن الكبائر منها ما هو فاحش يُستفحش ويُستعظم ويُستقبح بشدة، ومنها ما هو دون ذلك، فمثلًا: الزنا فاحشة ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [الإسراء ٣٢] اللواط فاحشة أعظم من الزنا؛ لأن الله قال في الزنا: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [الإسراء ٣٢]، وقال في اللواط لوط لقومه: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ [الأعراف ٨٠] فأتى بـ(أل) الدالة على القبح، وأنها جامعة لكل أنواع الفواحش. نكاح المحارم فاحشة، قال الله تعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [النساء ٢٢] فهو أشد من الزنا؛ يعني: لو زنا الإنسان بامرأة أجنبية منه، وبأم زوجته مثلًا، صار الثاني أعظم وأشد وأشنع، ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء: أن من زنا بامرأة من محارمه وإن لم يكن محصنًا فإنه يُرجم؛ يعني: الزنا بذوات المحارم ما فيه جلد ما فيه إلا الرجم؛ لأن الله فرق بين الزنا وبين نكاح ذوات المحارم، نكاح ذوات المحارم وصفه بوصفين: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا﴾ [النساء ٢٢] والزنا وصفه بواحد وهو: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [الإسراء ٣٢]. وجاءت السنة بالتفريق بينهما -أي: بين من زنا بامرأة من محارمه أو بامرأة أجنبية- فجعلت حد الأول القتل بكل حال وإن لم يتزوج، وإن لم يكن ثيِّبًا؛ لأن هذا أعظم -والعياذ بالله- إنسان بيزني بأمه ولّا أخته ولّا أم زوجته ولّا بنت زوجته التي دخل بها، فاحشة عظيمة. إذن ﴿يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾ قلنا: الفواحش كبائر الكبائر، أعظم. هل نأخذ من هذه الآية أن الكبائر تختلف والفواحش تختلف؟ نعم، نأخذ من الآية أنها تختلف؛ لأن (كبائر) وصف كلما كان أعظم صار أشد كبيرة، والفواحش كذلك، ولهذا الآن أنتم سمعتم ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا﴾ [النساء ٢٢]. ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [الإسراء ٣٢] ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف ٨٠] فرق الله مع أنها كلها فواحش لكن بعضها أعظم من بعض. ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ [النجم ٣٢]، قوله: ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ قيل: إنه استثناء متصل، وقيل: إنه استثناء منقطع؛ لأن اللمم الشيء القليل، هذا القليل، فهل المعنى: إلا الشيء القليل من الكبائر، أي: أنهم يأتون الشيء القليل من الكبائر، أو المعنى ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾: إلا الصغائر من الذنوب؟ إن قلنا بالأول فالاستثناء متصل، وإن قلنا بالثاني فالاستثناء منقطع، وتكون ﴿إِلَّا﴾ بمعنى: لكن، والمعنى الثاني أقرب من حيث التقسيم؛ لأن الله ذكر الكبائر والفواحش والصغائر، وعلى هذا فيكون معنى: ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ يعني: إلا أن هؤلاء الذين أحسنوا يأتون الصغائر، والصغائر -والحمد لله- مكفرة بالحسنات، قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء ٣١] وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»[[أخرجه مسلم (٢٣٣ / ١٦) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ كان يقول: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتُنِب الكبائر».]]، وقال عليه الصلاة والسلام: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا»[[متفق عليه؛ البخاري (١٧٧٣)، ومسلم (١٣٤٩ / ٤٣٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، وعلى هذا فيكون المعنى: أن الصغائر تقع مكفرة إما باجتناب الكبائر، أو باجتناب الكبائر مضمومًا إليها فعل هذه الحسنات العظيمة؛ الصلوات الخمس، الجمعة إلى الجمعة، رمضان إلى رمضان. والخلاصة: الصغائر تقع مغفورًا للإنسان منها إذا اجتُنِب الكبائر، وإذا أحسن في الصلوات الخمس والجمعة ورمضان. ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [النجم ٣٢] في هذه الجملة إشارة إلى قوله: ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ يعني: أن اللمم يقع في سعة مغفرة الله عز وجل فيغفره الله عز وجل، والمغفرة: هي ستر الذنب مع التجاوز عنه، إن الله يستر عليك الذنب ويتجاوز، ولا يكفي ستر الذنب، لا بد من تجاوز، والدليل على هذا أمران: لغوي، وسمعي؛ أما اللغوي: فلأن المغفرة مشتقة من المغفر؛ المغفر: هو ما يوضع على الرأس عند القتال، ويُسمى خوذة، ويُسمى بيضة، يوضع على الرأس على أساس يتقي السهام، هذا الذي يوضع على الرأس جمع بين أمرين: الوقاية والستر، فإذن المغفرة لا بد من ستر ووقاية. أما السمعي: فهو «قوله تبارك وتعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة وقرره بذنوبه وأقر، قال: «قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٤٤١)، ومسلم (٢٧٦٨ / ٥٢) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.]] فدل هذا على أن الوقاية من الذنوب وعدم المؤاخذة من المغفرة. ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [النجم ٣٢]، وتقدم قوله: ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ أن لها معنين إلا اللمم: يعني الصغائر، هذه واحد. والثاني: القليل من الكبائر والفواحش، ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ يعني: إلا القليل، ذكرنا بناء على اختلاف القولين الاختلاف في ﴿إِلَّا﴾ هل هي متصلة أو منقطعة؟ ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ متى تكون منقطعة؟ إذا فسرنا ﴿اللَّمَمَ﴾ بالصغائر صارت منقطعة، والمنقطعة علامتها أن ما بعدها ليس من جنس ما قبلها، علامة (إلا) المنقطعة أن ما بعدها ليس من جنس ما قبلها، فمثلًا: ﴿كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ [النجم ٣٢] إذا قلنا: اللمم الصغائر، فهل الصغائر من الكبائر والفواحش؟ لا، إذا قلنا: المراد باللمم القليل من الكبائر والفواحش صارت (إلا) متصلة؛ لأن اللمم القليل مما سبق، فهو من جنسه، إذن الاستثناء عندنا يكون منقطعًا ويكون متصلًا، فما هو المتصل؟ إذا كان المستثنى من جنس المستثنى منه فهو متصل، وإذا كان من غير جنسه فهو منقطع، وإليك ما مثل به النحويون يقولون: إذا قلت: جاء القوم إلا أميرهم، الاستثناء؟ * طالب: متصل. * الشيخ: لماذا؟ لأن الأمير من الجنس، منهم. وقالوا: إذا قلت: جاء القوم إلا حمارًا، فالاستثناء منقطع؛ لأن الحمار ليس من جنس القوم. ثم قال عز وجل: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [النجم ٣٢]، إشارة إلى أنها الصغائر، وقد ثبت في القرآن الكريم أن الصغائر تُغفر باجتناب الكبائر، فقال جل وعلا: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [النساء ٣١] ، ولهذا قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾. أما إذا قلنا: اللمم: القليل من الفواحش والكبائر، فيكون قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ إشارة إلى أن الكبائر إذا تاب الإنسان منها غفر الله له، وكأنها لم تكن، وإن لم يتب منها فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عاقبه بما تستحق هذه الكبيرة. فيه قومٌ من هذه الأمة يقولون: إن الكبيرة لا تُغفر، مَن هم؟ الخوارج والمعتزلة، شوف الخوارج والمعتزلة يقولون: الإنسان إذا زنى خلاص من أهل النار وهو كافر، إذا سرق كذلك، إذا شرب الخمر كذلك، لكن قولهم باطل، والصواب: أن فاعل الكبيرة داخل تحت قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء ٤٨]. لو قال قائل: أنت إذا قلت هذا، فتحت الباب على مصراعيه لفعل الكبائر؛ لأن أي إنسان يفعل كبيرة يقول: أنا يمكن يغفر الله لي، وهذا فعلًا يحتج به العوام، يقول: إذا كان الله يقول: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أي: ما دون الشرك لمن يشاء، إذن سيفعل الكبائر ويقول: يغفر الله لي، هذه حُجة، كيف تجيبه؟ نجيبه بأن الله قال: ﴿يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ ما قال: لكل أحد، قال: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فهل أنت تتيقن الآن أنك ممن شاء الله أن يغفر له؟ أحدٌ يتيقن هذا؟ لا أحد يتيقن. إذن: لا حُجَّة فيها لأهل المعاصي. ثم إن قوله تعالى: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ نعلم أن الله حكيم، لا يشاء أن يغفر للمذنب غير الشرك إلا إذا اقتضت الحكمة ذلك، ومن منا يستطيع أن يقول: إن حكمة الله تقتضي أن يغفر لي؟! لا أحد يقول هذا، بل لو قال هذا لقلنا: إن قولك هذا من أسباب المؤاخذة والمعاقبة؛ لأنك تأليت على الله. ثم قال عز وجل: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ [النجم ٣٢] أعلم بنا من ذلك الوقت الطويل البعيد، ﴿إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ بماذا؟ بخلق أبينا آدم؛ لأن آدم خُلق من التراب، ثم صار طينًا ثم صار صلصالًا، ثم خلقه الله بيده جسمًا ونفخ فيه الروح فصار آدميًّا إنسانًا، هذا ﴿إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ أول النشء. إذن نحن من الأرض، سبحان الله نحن من الأرض؟! نعم، نحن من الأرض، ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه ٥٥] الإخراج الذي ليس بعده وفاة، يوم القيامة. ﴿إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ ولذلك الآن بنو آدم كالأرض تمامًا، فيهم الحزن الصلب الشديد، وفيهم السهل، وفيهم ما بين ذلك، وفيهم الأبيض، فيهم الأحمر، فيهم الأسود؛ لأن الأراضي تختلف هكذا، وقد ذُكر أن الله لما أراد أن يخلق آدم أخذ من كل الأرض؛ سهلها وحزنها، أسودها وأبيضها، وكلها. ﴿وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [النجم ٣٢]، وهذه النشأة الثانية ﴿أَجِنَّةٌ﴾: جمع جنين وهو الحمل، وسُمِّي الحمل جنينًا؛ لأنه مستتر ﴿وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ﴾ يعني: مستترين في بطون أمهاتكم، من وإلى؟ من حين أن كان الإنسان نطفة، ومن النطفة يُخلق، وهذا معنى قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون ١٣] فمن حين ما يكون نطفة يكون جنينًا، ثم يتطور كم طورًا؟ أربعة. أولًا: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة مُخلَّقة وغير مُخلقة، ثم أنشأناه خلقًا آخر، الطور الأخير الذي فيه تحل الروح. إذن هو عالمٌ بنا حين النشأة الأولى وحين النشأة الثانية في بطون أمهاتنا. ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النجم ٣٢] لا تزكوها، وتقول: عملت كذا وكذا، صليت زكيت صمت جاهدت حججت لا تقل هكذا، تدل بعملك على ربك، هذا لا يجوز، فإن قال قائل: أليس الله يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس ٩]؟ فالجواب: بلى، لكن معنى: ﴿مَنْ زَكَّاهَا﴾ أي: من عمل عملًا تزكو به نفسه، وليس المعنى: ﴿مَنْ زَكَّاهَا﴾ من أثنى عليها ومدحها بأنها عملت وعملت، بل المراد عمل عملًا تزكو به نفسه، فلا معارضة بين الآيتين، ولهذا نقول: من زكى نفسه بذكر ما عمل من الصالحات فإنه لم يزكِ نفسه حقيقة، من زكى نفسه فإنه لم يزكِ نفسه، فرق بينهما، التزكية التي يُحمد عليها الإنسان: أن يعمل الإنسان عملًا صالحًا تزكو به نفسه. والتزكية التي يُذم عليها: أن يدل بعمله على ربه ويمدحه، وكأنه يمُنُّ على الله، يقول: صليت، تصدقت، صمت، حججت، جاهدت، بَرَرْت والدي، وما أشبه ذلك، هذه لا يجوز للإنسان أن يزكي نفسه، ويقول: أنا من أنا. وفي هذا رد على أولئك الصوفية الذين يدعون أنهم أئمة، ويزكون أنفسهم، ويقول: وصلنا إلى حدٍ لا تلزمنا الطاعات؛ لأن فيه الآن ناس يقول: إنه وصل إلى عالم الملكوت ولا عليه صلاة، ولا عليه صدقة، ولا عليه صيام، ولا يحرم عليه شيء، هؤلاء منسلخون من الدين انسلاخًا تامًا، لذلك نقول: هؤلاء الذين يزكون أنفسهم هم أبعد الناس عن الزكاة؛ لأنهم أعجبوا بأعمالهم وأدلوا بها على الله عز وجل، وجعلوا لأنفسهم منصبًا لم يجعله الله تعالى لهم. ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم ٣٢] كأنه يقول: لماذا تزكون أنفسكم؟ أتريدون أن تعلموا الله بما أنتم عليه؟ الجواب: لا، ولهذا قال: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ يعني: إن كنت متقيًا لله فالله أعلم بك، ما حاجة أن تقول لله: إني فعلت وفعلت. في هذا إشارة إلى أن النطق بالنية عند فعل العبادة قد يدخل فيه نوع من التزكية؛ يعني: إذا أردت تتوضأ هل تقول: اللهم إني نويت أن أتوضأ؟ لا، هل تقولها سرًّا؟ لا، بعض العلماء يقول: قلها سرًّا بينك وبين نفسك، وعللوا هذا، قالوا: من أجل أن يطابق اللسان القلب، القلب نوى لكن قل باللسان: اللهم إني نويت أن أتوضأ، نويت أصلي أيضًا، تريد تصلي قل: اللهم إني نويت أن أصلي، متى؟ الظهر ولّا العصر؟ بَيِّن، الظهر، وهل تحتاج إلى عدد الركعات ولّا ما تحتاج؟ لا تحتاج إلى عدد، ما دام عينت يكفي، بعض العلماء يقول هكذا يا إخوان، علماء أجلاء من الفقهاء. التعليل ليش النطق باللسان؟ لتطابق القول القلبي واللساني، فيُقال: هذا غلط، هذا قياسٌ في مقابلة النص، هل الرسول عليه الصلاة والسلام شرع لأمته أن ينطقوا بالنية؟ أبدًا، لا في حديث لا صحيح ولا ضعيف؛ أن الإنسان إذا أراد العمل نطق النية، أبدًا ما يوجد. ومن الطُرَف الطريفة: أن رجلًا في المسجد الحرام عاميًّا سمع شخصًا يريد أن يصلي، فقال بعد أن أقيمت الصلاة: اللهم إني نويت أن أصلي الظهر أربع ركعات في المسجد الحرام، لما أراد يكبر قال له: باقي عليك، قال: ويش الباقي؟ قال: باقي التاريخ، قل: في اليوم الفلاني، أنت الآن ذكرت المكان وذكرت العمل باقي التاريخ، قل: في اليوم الفلاني من الشهر الفلاني من السنة الفلانية. * طالب: مأمومًا؟ * الشيخ: ما أدري عاد مأموم ولا غير مأموم، المهم أنه قال له الكلام هذا، فانتبه الرجل، وقال له: يا أخي، أنت تُعلم ربك بنيتك، الله أعلم بنيتك: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر ١٩] ما حاجة. عند الصيام مثلًا: إذا تسحر الإنسان وأراد أن يصوم يقول: اللهم إني نويت الصيام إلى الليل؟ لا يقول هذا، كان ونحن صغار يلقنوننا هذا، يقول: إذا تسحرت قل: اللهم إني نويت الصيام إلى الليل، ونقوله؛ لأننا ما ندري، لكن في الواقع أن هذا من البدع. بقي أن يُقال في الحج هل تقول: اللهم إني نويت العمرة، أو نويت الحج، أو نويت القران، أو التمتع؟ لا، ما تقوله، حتى في الحج عندما تغتسل وتلبس الإحرام لا تقل: اللهم إني نويت العمرة أو نويت الحج، تكفي التلبية؛ لأنك سوف تقول: لبيك عمرة إن كنت في عمرة، أو لبيك حجًّا إن كنت في حج، أو لبيك عمرة وحجًّا إن كنت قارنًا، فلا حاجة، فكل العبادات لا يُنطق فيها بالنية، ولهذا قال عز وجل: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم ٣٢].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب