الباحث القرآني

أما قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي: ما أوجدتهم بعد العدم إلا لهذه الحكمة العظيمة، وهي عبادة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، إلا لعبادة الله تعالى وحده كما سنبين، اللام في قوله: ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ للتعليل، لكن هذا التعليل تعليل شرعي، أي: لأجل أن يعبدوني، حيث آمرهم فيمتثلوا أمري، وليست اللام هنا تعليلًا قدريًّا؛ لأنه لو كان تعليلًا قدريًّا لزم أن يعبده جميع الجن والإنس، لكن اللام هنا لبيان الحكمة الشرعية في خلق الجن والإنس، فالجن عالم غيبيٌّ خُلُقوا من نار؛ لأن أباهم هو إبليس كما قال الله تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ [الكهف ٥٠]. وسموا جِنًّا؛ لأنهم مستترون عن الأعين؛ حيث إنهم يروننا ولا نراهم، هذا هو الأصل أنهم عالم غيبي لكن قد يظهرون أحيانًا، والأصل فيهم أنهم كالإنس منهم المسلمون ومنهم غير المسلمين، ومنهم الصالحون ومنهم دون ذلك، لكن الإنس يفضلونهم؛ لأنهم أحسن منهم من حيث الابتداء، حيث إنهم خلقوا من الطين، من التراب، من صلصال كالفخار، وأما أولئك الجن فخُلقوا من النار، كذلك يمتاز الإنس عنهم بأن منهم الرسل والنبيين، وأما الجن فليس منهم رسل، نعم منهم نُذُرٌ يُبَلِّغون الرِّسالاتِ من الإنس كما في قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الأحقاف ٢٩] فانظر إلى أدبهم في قولهم: ﴿أَنْصِتُوا﴾، ثم بقائهم حتى انتهى المجلس، ثم ذهبوا دعاة لما سمعوا: ﴿قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ [الأحقاف ٢٩، ٣٠] إلى آخر الآية. وأما الإنسُ فهم بنو آدم البشر، هؤلاء خلقوا لشيء واحد لعبادة الله، لا لأجل أن ينفعوا الله بطاعاتهم، ولا أن يضروه بمعاصيهم، ولا أن يطعموه ولهذا قال: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات ٥٧] يعني: ما أطلب منهم رزقًا، أي: عطاء أنتفع به، ولا أن يُطْعِمون أنتفع بإطعامهم؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام ١٤] فهو سبحانه وتعالى له الغنى والجود والكرم، وهو غَنِيٌّ عما سواه. إذن لو سألنا: ما الحكمة مِن خلق الجن والإنس؟ ما هي الحكمة؟ العبادة، يعني: ما خلقوا لأجل أن يعمروا الأرض، ولا لأجل أن يأكلوا، ولا لأجل أن يشربوا، ولا لأن يتمتعوا كما تتمتع الأنعام، وإنما خُلِقوا لعبادة الله، وخلق لهم ما في الأرض، نحن مخلوقون للعبادة، وما في الأرض مخلوق لنا؛ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة ٢٩]، والعجب أن قومنا الآن اشتغلوا فيما خُلِقَ لهم عما خُلِقوا له، ما الذي خلق لهم؟ ما في الأرض، عما خلقوا له وهو العبادة، وهذا من السفه أن يشتغلوا بشيء خلق لهم عن شيء خلقوا من أجله. فما هي العبادة؟ العبادة نقول: إنها تُطْلَق على معنيين: المعنى الأول التعبد، يعني: فعل العبد، فيقال: تعبد لله عبادة، والثاني: المتعبد به، وهذا المعنى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وكل ما يقرب إلى الله، فهي اسم جامع لكل شيء، فالصلاة عبادة، والصدقة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والأمر بالمعروف عبادة، والنهي عن المنكر عبادة، كل ما يُقرِّب إلى الله من قول أو فعل فإنه عبادة. فإذن العبادة تُطلَق على معنيين: المعنى الأول: التعبد الذي هو فعل العبد. والمعنى الثاني: المتعبد به الذي هو العبادة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب