الباحث القرآني

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. نبدأ هذا اللقاء بتفسير سورة ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾، حيث انتهينا -ولله الحمد- من تفسير سورة الحجرات. أولًا: البسملة، سبق الكلام عليها، وأنها آية مستقلة يُؤْتَى بها في ابتداء كل سورة، إلا سورة براءة، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يكتبوا أمامها بسملة، ولكنهم جعلوا فاصلًا بينها وبين آخر سورة الأنفال. وليس هناك ذِكْر يُذْكَر بدلًا عن البسملة، كما يوجد في هوامش بعض المصاحف، حيث كُتِبَ: أعوذ بالله من النار، ومن كيد الفجار، ومن غضب الجبار، العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. وهذا لا شك أنه كلام بِدْعِي لا أصل له ولا صحة له. يقول الله عز وجل، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق ١]، ﴿ق﴾ حرف من الحروف الهجائية التي يتركب منها الكلام العربي، وهي كسائر الحروف ليس لها معنى في حد ذاتها، ومن المعلوم أن القرآن نزل باللسان العربي، وإذا كانت هذه الحروف ليس لها معنى باللسان العربي فهي كذلك ليس لها معنى في كتاب الله عز وجل من حيث المعنى الذاتي (...). وأما بالنسبة للمغزى العظيم الكبير فلها مغزى عظيم كبير، ألا وهو أن هذا القرآن الذي أعجز العرب مع بلاغتهم وفصاحتهم لم يأتِ بشيء جديد من حروف ليسوا يعرفونها، بل هو بالحروف التي يعرفونها، ومع ذلك عجزوا عن أن يأتوا بمثله، فدلَّ ذلك على أنه من كلام العزيز الحميد جل وعلا، ولهذا لا تكاد تجد سورة ابتُدِئت بهذه الحروف الهجائية إلا وبعدها ذِكْر القرآن. هنا قال عز وجل: ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾، (الواو) هنا حرف قسم، أقسم الله تعالى بالقرآن؛ لأن لله تعالى أن يقسم بما شاء، وإقسامه هنا بالقرآن إقسام بكلامه، وكلام الله تعالى من صفاته. وقد ذكر أهل العلم -رحمهم الله- أنه يجوز الإقسام بالله تعالى، أو بصفة من صفاته، وأما آياته فلا يقسم بها إلا إذا قصد الإنسان بالآيات كلماته، كالقرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل، وما أشبه ذلك، وأما الآيات الكونية كالشمس والقمر فلا يجوز لنا أن نقسم بها، أما الله عز وجل فله أن يقسم بما شاء. ﴿الْقُرْآنِ﴾ مأخوذ من (قَرَأ) إذا تلا، أو من (قَرَى) إذا جمع، ومنه: القرية؛ لأن الناس يجتمعون فيها، والقرآن يتضمن المعنيين؛ فهو مَتْلُوٌّ، وهو مجموع أيضًا. ﴿الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾، أي: ذو المجد، وهي العظمة والسلطان المطلق، فالقرآن له عظمته العظيمة، مهيمن مسيطر على جميع الكتب السابقة، حاكم عليها، ليس محكومًا عليه. وهو أيضًا مجيد، به يمجد ويعلو ويظهر مَن تمسك به، وهذا كقوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج ٢١، ٢٢] . ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ [ق ١، ٢]، هنا لا يتراءى للإنسان التالي جوابُ القسم، فاختلف العلماء -رحمهم الله- في مثل ذلك؛ هل له جواب، أو جوابه يُعْرَف من السياق، أو يُعْرَف مِن الْمُقْسَْم به؟ فيه أقوال متعددة للعلماء، وأظهر ما يكون أن نقول: إن مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب للقسم؛ لأنه معروف من عظمة الْمُقْسَم عليه، فكأنه أقسم بالقرآن على صحة القرآن. فالقرآن المجيد لكونه مجيدًا كان دليلًا على أنه حق، وأنه مُنَزَّل من عند الله عز وجل، وحينئذ لا يحتاج القسم إلى جواب؛ لأن الجواب في ضمن القسم. ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ ، ﴿عَجِبُوا﴾ (الواو) تعود على المكذِّبين للرسول عليه الصلاة والسلام الذين كذَّبُوا رسالته، كذَّبُوا بالقرآن، كذَّبُوا بالبعث، كذَّبُوا باليوم الآخر، ولهذا ﴿عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾، ﴿عَجِبُوا﴾ عجب استغراب واستنكار، وإنما قلنا ذلك لأن العجب تارة يراد به الاستنكار والتكذيب، وتارة يراد به الاستحسان، فقول عائشة رضي الله عنها: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٦٨)، ومسلم (٢٦٨ / ٦٦).]]، المراد بالعجب هنا الاستحسان. وقوله هنا: ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾، المراد به الاستنكار والتكذيب. ﴿أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ ليس بعيدًا عنهم، هو منهم، نسبًا، وحَسَبًا، ومسكنًا، يعرفونه، ومع ذلك قالوا: ﴿هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾. ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ [ق ٣]، لما جاءهم محمد رسول الله ﷺ أخبرهم بأن الناس سوف يُبْعَثُون، وسوف يُجَازَوْنَ ويُحَاسَبُون تَعَجَّبُوا كيف هذا؟ أيحيا الإنسان بعد أن كان رُفَاتًا؟! ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا﴾، ﴿إِذَا﴾ من المعروف أنها ظرفية، وكل ظرف يحتاج إلى عامل، فما عاملها؟ العامل محذوف دَلَّ عليه ما بعده، والتقدير: أئذا متنا وكنا ترابًا نرجع ونُبْعَث؟! ثم قال: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾، ولهذا يحسن عند التلاوة أن تقف على قوله: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا﴾؛ لأن قوله: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ جملة استئنافية لا علاقة لها من حيث الإعراب بما قبلها. إذن ﴿إِذَا﴾ ظرف، وكل ظرف يحتاج إلى عامل، فأين العامل في الآية؟ محذوف، التقدير: أئذا متنا وكنا ترابًا نرجع ونُبْعَث؟! والاستفهام هنا بمعنى الإنكار والتكذيب، كأنهم يقولون: لا يمكن أن نرجع ونُبْعَث بعد أن كنا ترابًا وعظامًا، ولكن بَيَّنَ الله عز وجل أنه قادر على ذلك، فلما قالوا: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾، ومرادهم بالبعد هنا الاستحالة، هم يَرَوْنَ أن ذلك مستحيل، وربما تَلَطَّف بعضهم وقال: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾، فهم تارة يُنْكِرُون إنكارًا مطلقًا، ويقولون: هذا محال، وتارة يقولون: هذا بعيد.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب