الباحث القرآني

﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ﴾ [ق: ١١ - ١٤] ذَكَرَ الله هؤلاء المكذِّبين لفائدتين؛ الفائدة الأولى: تسلية الرسول ﷺ بأنه ليس أول رسول كُذِّبَ، بل قد كُذِّبَت الرسل من قبله، كما قال تعالى: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [فصلت ٤٣]، قيل: إنه شاعر، وقيل: إنه مجنون، وقيل: إنه كاهن، وقد قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات ٥٢]. هذه فائدة لذِّكْر قصص الأمم السابقة، وهي تسلية النبي ﷺ؛ لأن الإنسان إذا رأى غيره قد أصيب بمثل مصيبته يتسلى بلا شك، وتهون عليه المصيبة. الفائدة الثانية: تحذير المكذِّبين للرسول ﷺ، ولهذا قال في آخر ما ذكر: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾، أي: حق عليهم وعيد الله بالعذاب، وقد قال عز وجل: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ [العنكبوت ٤٠]، يعني: كل واحد من هذه الأمم جُوزِيَ بمثل ذنبه فعُوقِبَ بمثل ذنبه، مثلًا ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ﴾، قوم نوح كذَّبوا نوحًا عليه الصلاة والسلام، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، يعني تسعمئة وخمسين سنة وهو يدعوهم إلى الله عز وجل، ولكن لم يستفيدوا من ذلك شيئًا، كلما دعاهم ليغفر الله لهم ﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾: تغطوا، ﴿وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ [نوح ٧]، وبقي فيهم هذه المدة، وقد قال الله تعالى في النهاية: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود ٤٠]. ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ﴾، ﴿أَصْحَابُ الرَّسِّ﴾ قوم جاءهم نبيهم ولكنهم قتلوه بالرَّسّ؛ وهي البئر، أي: حفروا بئرًا ودفنوه، هذا قول، والقول الثاني: أصحاب الرَّسّ يعني أنهم قوم حول ماء، وليسوا بالكثرة الكاثرة، ومع هذا كذَّبُوا رسولهم. ﴿وَثَمُودُ﴾ وهم قوم صالح في بلاد الحجر المعروفة، كذَّبُوا صالحًا وقالوا: ﴿ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف ٧٧]، وهذا تَحَدٍّ، فماذا فعل الله بهم؟ أرسل عليهم صيحة ورجفة، ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [هود ٦٧]. ﴿وَعَادٌ﴾ [ق ١٣]، كذلك أيضًا عادٌ أرسل الله إليهم هودًا فكذَّبُوه، فأهلكهم الله عز وجل بالريح، أرسل الله عليهم ﴿الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾ [الذاريات ٤١، ٤٢]. وكانوا يفتخرون بقوتهم، يقولون: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت ١٥]، فأراهم الله عز وجل قوته، وأهلكهم بالريح اللطيفة التي لا يُرَى لها جسم، ومع ذلك دمرتهم تدميرًا. ﴿وَفِرْعَوْنُ﴾ الذي أرسل الله إليه نبيه موسى عليه الصلاة والسلام، وكان معروفًا بالجبروت والعناد والاستكبار، حتى إنه استخف قومه، وقال لهم: إنه رب، قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات ٢٤]، فأطاعوه، فجاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بالآيات البينات، ولكنهم كذَّبُوا، وأراهم الله تعالى آية، كانوا يفتخرون بما يضاد ما جاء به موسى؛ وهو السحر، فجمعوا لموسى عليه الصلاة والسلام كل السحرة في مصر، واجتمعوا وألقوا الحبال والعصي، وألقوا عليها السحر، فصار الناس يشاهدون هذه الحبال والعصي وكأنها حيات وثعابين، ورهب الناس، كما قال تعالى: ﴿وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف ١١٦]، حتى إن موسى عليه الصلاة والسلام أوجس في نفسه خِيفَة، يعني يشاهد أن كل الجو حوله ثعابين تريد أن تلتهم ما تقابله، فأوحى الله تعالى إلى موسى: ﴿أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ [الأعراف ١١٧]، فألقى العصا، فالتهمت جميع هذه الحيات، وهذا من آيات الله؛ إذ إن الحية -كما هو معروف- ليست بذاك الكِبَر، لكن تأكل هذا وكأن هذا يذهب بخارًا إذا أكلت هذه الحبال والعصي، السحرة رأوا أمرًا أدهشهم، ولم يملكوا أنفسهم إلا أن يؤمنوا، ومع ذلك إيمانًا تامًّا، أُلْقِيَ السحرة ساجدين. وتأمل قوله تعالى: ﴿أُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ [الأعراف ١٢٠]، ولم يقل: سجدوا، كأن هذا شيء اضطرهم إلى السجود، كأنهم سجدوا بغير اختيار؛ لقوة ما رأوا من الآية العظيمة، ومع هذه الآية البينة الواضحة على صدق موسى عليه الصلاة والسلام لم يؤمن فرعون، وقال: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ﴾ [الشعراء ٥٤، ٥٥] فهَمَّ بأن يهجم على موسى ومَن معه من المؤمنين، فأمر الله موسى أن يخرج من مصر إلى جهة المشرق نحو البحر الأحمر، فامتثل أمر الله، خرج من مصر إلى هذه الناحية، فتبعهم فرعون بجنوده على حنق يريد أن يقضي على موسى وقومه، فلما وصلوا إلى البحر قال قوم موسى له: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا﴾، يعني: لن نُدْرَك، ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء ٦٢]، فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه البحر الذي عَرْضُه مسافات طويلة، فضرب البحر فانفلق البحر اثني عشر طريقًا، وصارت قِطَع الماء كأنها الجبال، وصارت هذه الطرق التي كانت ريًّا من الماء وطينًا زلقًا صارت طريقًا يبسًا بإذن الله بلحظة، فدخل موسى وقومه عابرين من أفريقيا إلى آسيا من طريق البحر، فلما تكاملوا داخلين وخارجين إلى الناحية الشرقية دخل فرعون وقومه، فلما تكاملوا في الدخول أمر الله البحر فانطبق عليهم. فلما أدرك فرعون الغرق أعلن: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس ٩٠]، وتأمل أنه لم يقل: (آمنت بالله) قال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، لماذا؟ إذلالًا لنفسه، حيث كان يُنْكِر على بني إسرائيل ويهاجمهم، فأصبح عند الموت يُقِرُّ بأنه تبع لهم، وأنه من أذنابهم، يعني أنه يمشي خلفهم، ولكن ماذا قيل له؟ ﴿آلْآنَ﴾ تؤمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنك من المسلمين؟! ﴿وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس ٩١] فلم تُقْبَل توبته؛ لأنه لم يَتُبْ إلا حين حضره الموت، والتوبة بعد حضور الموت لا تنفع، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ [النساء ١٨]، لا تنفع التوبة إذا حضر الموت، نسأل الله تعالى أن يَمُنّ علينا وعليكم بتوبة قبل الموت. ولكن الله قال: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ [يونس ٩٢] ننجيك ببدنك، يعني لا بروحك، الروح فارقت البدن، لكن البدن بقي طافيًا على الماء، لماذا؟ بَيَّنَ الله الحكمة: ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ [يونس ٩٢]؛ لأن بني إسرائيل قد أرعبهم فرعون، فلو لم يتبين لهم أنه غرق بنفسه لكانت أوهامهم تذهب كل مذهب لعله لم يغرق، لعله يخرج علينا من ناحية أخرى، فأقرَّ الله أعين بني إسرائيل بأن شاهدوا جسمه غارقًا في الماء، ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ (...). * * * انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِخْوَانُ لُوطٍ﴾ [ق ١٣]، ﴿إِخْوَانُ لُوطٍ﴾ يعني قوم لوط أرسل إليهم لوط عليه الصلاة والسلام لأنهم كانوا -والعياذ بالله- يأتون الذُّكْرَان ويَدَعُون النساء، أي أن الواحد يجامع الذَّكَر ويَدَع النساء، كما قال لهم عليه الصلاة والسلام: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾ [الشعراء ١٦٥، ١٦٦]، دعاهم إلى الله عز وجل وأنذرهم وخَوَّفَهم من هذا الفعل الرذيل، ولكنهم أصَرُّوا عليه، فأرسل الله عليهم ﴿حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً﴾ [الذاريات ٣٣، ٣٤]، يعني: مُعَلَّمَة، كل حجارة عليها علم، يعني علامة على مَن تَنْزِل عليه وتصعقه، وهذه الخصلة الرذيلة من أقبح الخصال، ولهذا كان حدها في الشريعة الإسلامية القتل بكل حال، يعني أنها أعظم من الزنا، الزنا إذا كان الزاني لم يتزوج من قبل فإنه يُجْلَد مئة جلدة ويُغَرَّب عن البلد سنة كاملة، وإن كان مُحْصَنًا -وهو الذي قد تَزَوَّج وجامع زوجته- فإنه يُرْجَم حتى يموت، أما اللواط فإن حده القتل بكل حال، يعني لو تَلَوَّط شخص بالغ بآخر بالغ باختيار منهما فإنه يجب أن يُقْتَل الفاعل والمفعول به؛ لقول النبي ﷺ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ»[[أخرجه أبو داود (٤٤٦٢)، والترمذي (١٤٥٦)، وابن ماجه (٢٥٦١)، من حديث عبد الله عباس.]]، قال شيخ الإسلام رحمه الله، أعني ابن تيمية: إن الصحابة أجمعوا على قتله، لكن اختلفوا كيف يُقْتَل، فقال بعضهم: إنه يُحْرَق بالنار لعظم جُرْمِه -والعياذ بالله-، وقال آخرون: إنه يُرْجَم بالحجارة، وقال آخرون: إنه يُلْقَى من أعلى مكان في البلد ويُتْبَع بالحجارة. والشاهد أنه رحمه الله –أعني ابن تيمية- نقل إجماع الصحابة على قتله، وإجماع الصحابة حجة، فيكون مُؤَيِّدًا للحديث: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ»[[أخرجه أبو داود (٤٤٦٢)، والترمذي (١٤٥٦)، وابن ماجه (٢٥٦١)، من حديث عبد الله عباس.]]، ولأن هذه الفاحشة الكبرى -والعياذ بالله- فاحشة مُفْسِدَة للمجتمع؛ لأنه يصبح المجتمع الرجالي مجتمعًا نسائيًّا، وهو أيضًا لا يمكن التحرز منه، الزنا يمكن التحرُّز منه، إذا رؤيت امرأة مع رجل في محل ريبة فإنه يمكن مناقشتهما، لكن إذا رُؤِيَ ذَكَر مع ذَكَر كيف يمكن أن نناقشهما، والأصل أن الرجل مع الرجل يجتمع ولا يتفرق؟! لهذا كان القول بوجوب قتلهما هو الحق، أما قوم لوط فقد عرفتم أن الله تعالى أرسل عليهم حجارة من سجيل مُسَوَّمَة، فدمَّرَهم تدميرًا حتى جعل عالي قريتهم سافلها. ثم قال تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ﴾ [ق ١٤]، ﴿أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ﴾ يعني: الشجرة، أرسل الله تعالى إليهم شُعَيْبًا فدعاهم إلى الله وذَكَّرَهم به، وحَذَّرَهُم من بَخْس المكيال والميزان، لكنهم -والعياذ بالله- بقوا على كفرهم وعنادهم، ﴿فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ [الشعراء ١٨٩]، وهذا العذاب يقال: إن الله تعالى أرسل إليهم حَرًّا شديدًا، ولم يجدوا مَفَرًّا منه، إلا أنه أُرْسِلَت غمامة واسعة باردة، فصاروا يتدافعون إلى ظلها يتظللون بها، فأنزل الله عليهم نارًا فأحرقتهم، وفي هذا يقول تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشعراء ١٨٩]. ﴿وَقَوْمُ تُبَّعٍ﴾ [ق ١٤] أيضًا ممن كَذَّبُوا الرسل، وهم أصحاب تُبَّع، وهو ملك من ملوك اليمن، أرسل الله إليهم رسولًا فكَذَّبُوه ولم ينقادوا له، فيقول عز وجل: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾، يعني أن هؤلاء الأمم الذين حكى الله عنهم الإشارة، بل أشار الله تعالى إلى قصصهم كلهم كَذَّبُوا الرسل، فحق عليهم وعد الله -والعياذ بالله- بعذابه وانتقامه، نسأل الله لنا ولكم الحماية والعافية، إنه على كل شيء قدير (...).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب