الباحث القرآني

نبتدئ هذا اللقاء بما تيسر من الكلام على آيات من سورة (ق) هي قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ [ق ٩ - ١١]. يقول: ﴿نَزَّلْنَا﴾؛ لأن المطر ينزل شيئًا فشيئًا، وربما يُعَبَّر عنه بـ(أنزل)؛ لأنه تجري به الأودية والشعاب. وقوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي: من العُلُوّ؛ لأن هذا المطر ينزل من السحاب، وليس من السماء التي هي السقف المحفوظ، بدليل قوله تعالى: ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة ١٦٤]، إذن هو ينزل من العلو، والحكمة في إنزاله من العلو ليشمل قمم الجبال، ومراتع الإبل، والسهل، والأودية؛ لأنه لو جاء يمشي سيحًا على الأرض ما وصل إلى قمم الجبال، ولكن الله عز وجل جعله من فوق. وقوله: ﴿مَاءً مُبَارَكًا﴾ من بركته أنه ينبت الله به ﴿جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾، الجنات هي البساتين الكثيرة الأشجار، وسُمِّيَت البساتين الكثيرة الأشجار جنات لأنها تُجِنُّ، أي: تستر ما تحتها، وكل بستان ذي شجر مُلْتَفّ بعضه إلى بعض يُسَمَّى جنة. وأما قوله: ﴿حَبَّ الْحَصِيدِ﴾ يعني به الزروع التي تُحْصَد، فذكر الله هنا الأشجار والزروع، فمن الأشجار تجذ الثمار، ومن الزروع تحصد الحبوب. ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾ [ق ١٠]، خَصَّ الله النخل لأنها أشرف الأشجار، ولهذا شبه بها المؤمن، حيث قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ»، قال ابن عمر رضي الله عنهما: فذهب الناس يخوضون في شجر البوادي -كلٌّ يقول: هي الشجرة الفلانية- يقول ابن عمر: فوقع في قلبي أنها النخلة، لكني كنت أصغر القوم -يعني: فاستحيا أن يتكلم وهو أصغرهم- فقال النبي ﷺ: «هِيَ النَّخْلَةُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦١)، ومسلم (٢٨١١ / ٦٣).]]، وهي الشجرة المذكورة في قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم ٢٤]، فلهذا خَصَّهَا هنا بالذِّكْر، فقال: ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ﴾، أي: عاليات. ﴿لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾ أي: منضود، فالطلع في شماريخه تجده منضودًا من أحسن ما يكون من النضد، ومع ذلك تجد هذه الثمرات تُسْقَى بالشمراخ الدقيق اللين مع أنه قد يكون فيه أحيانًا فوق ثلاثين حبة أو أكثر. ﴿لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ [ق ١٠، ١١] أي: فعلنا ذلك؛ أنزلنا من السماء ماء ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ﴾، فعلنا ذلك ﴿رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾، أي: عطاءً وفضلًا للعباد، والعباد هنا يشمل العباد المؤمنين والعباد الكافرين؛ لأن الكافر عبد لله، كما قال الله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣]، والمراد هنا: العبودية الكونية القدرية، أما العبودية الشرعية فلا يكون عبدًا لله إلا مَن كان ممتثلًا لأمره، مجتنبًا لنهيه، مصدِّقًا بخبره. إذن ﴿لِلْعِبَادِ﴾ يشمل الكفار والمؤمنين. ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ [ق ١١]، ﴿أَحْيَيْنَا بِهِ﴾ أي: بالماء الذي نَزَّلْنَاه من السماء، ﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾، ﴿بَلْدَةً﴾ لما كانت مُؤَنَّثَة اللفظ مُذَكَّرة المعنى صح أن تُوصَف بوصف مُذَكَّر، ﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾ أي: بلدًا ميتًا، أحياه بهذا الماء الذي نزل من السماء، كيف إحياؤه؟ تجد الأرض هامدة خاشعة ليس فيها نبات، فإذا أنزل الله المطر عَجَّت بالنبات واخضَرَّت وازدهرت، فهذه حياة بعد الموت. ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾، أي: مثل ذلك الإحياء خروج الناس من قبورهم لله عز وجل، وإنما ذكر الله تعالى الخروج؛ لأن من عباد الله مَن أنكر ذلك، ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾ [التغابن ٧]، وحجتهم أنهم قالوا: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس ٧٨]، كيف تحيي العظام بعد أن رَمَّت وصارت ترابًا؟! هذا مُسْتَنْكَر عندهم بعيد، ولكن الله سبحانه وتعالى بَيَّنَ أنه ليس ببعيد، وأنه كما يشاهدون الأرض الميتة ينزل عليها المطر فتحيا، إذن فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها بنزول المطر قادر على إحياء الأموات بعد موتها، وهذا قياس جلي واضح.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب