الباحث القرآني

قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾ [المائدة ٩٣] (ليس) أداة نفي، وهي فعل ماض جامد، والجامد عند النحويين هو الذي لا يتصرف، والجمود قد يكون جمودًا كليًّا، وقد يكون جمودًا جزئيًّا بحيث يمتنع التصريف فيه من وجه دون آخر، وهنا الجمود كلي، لا يمكن أن تتغير (ليس) وهي للنفي. ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بأبدانهم، وهذا شامل للدين كله؛ لأن الدين كله إيمان وعمل. وقوله: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي عملوا الأعمال الصالحات، والأعمال الصالحات لا يمكن أن تكون بهذا الوصف إلا إذا كانت موافقة للشريعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:« «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢١٦٨)، ومسلم (١٥٠٤ / ٨) من حديث عائشة.]] يعني فاسدًا، فالأعمال الصالحة ما وافقت الشريعة، ولا يمكن أن توافق الشريعة إلا إذا وافقت الشريعة في أمور ستة؛ وهي: السبب، والجنس، والقدر، والكيفية، والزمان، والمكان. يعني لا يمكن أن تكون العبادة شرعية صالحة إلا إذا وافقت الشريعة في هذه الأمور الستة، الأول: السبب، والثاني: الجنس، والثالث: القدر، والرابع: الكيفية، والخامس: الزمان، والسادس: المكان. فإذا خالفت الشريعة في واحد من هذه الستة فليست شرعية ولا مقبولة، هذه شروط الموافقة للشريعة: أولا: السبب، فلو أحدث الإنسان سببًا يتعبد لله تعالى بمقتضاه وليس شرعيًّا فعمله مردود، ونضرب لهذا مثلًا: لو أن الإنسان إذا تجشأ قال: الحمد لله، والجشاء معروف عندكم ولّا غير معروف؟ معروف، هنا أحدث عبادة لله عز وجل؛ وهي الحمد لسبب؛ وهو الجشاء، فهل جاء في الشريعة أن الجشاء سبب للحمد؟ لا. إذن لا يقبل منه؛ لأنه تعبد لله بما لم يشرعه. الثاني قلنا: الجنس، من المعلوم أن الأضاحيّ تكون من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، فلو ضحى الإنسان بفرس لم يقبل منه، لأيش؟ لأنه مخالف للشريعة في الجنس، لو ضحى بنعامة لم يقبل منه، لو ضحى بحمامة لم يقبل منه؛ لأنه مخالف للشريعة في الجنس، وإن كان الشرع قد أوجب في الحمامة إذا قتلها المحرم شاة، لكن لم يأتِ الشرع بأن يضحي الإنسان بحمامة، وبه نعرف خطأ من قال: إنه تجوز التضحية بالدجاج والديكة؛ لأن النبي ﷺ قال في الرجل يغتسل في بيته ويخرج إلى المسجد يوم الجمعة في الساعة الرابعة: «فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً»[[متفق عليه؛ البخاري (٨٨١)، ومسلم (٨٥٠ / ١٠) من حديث أبي هريرة.]]، قالوا: هذا يدل على أن الدجاجة يصح التقرب بها. وجوابنا على هذا أن معناه: تقرب إلى الله بالصدقة بها، لا بذبحها، ولا شك أن الإنسان لو ذبح دجاجة وتصدق بها على الفقراء أنه يجزئه، إذن لا بد من موافقة العمل للشريعة في الجنس. الثالث: القدر، لو تعبد الإنسان لله عز وجل بصلاة سادسة جعلها عند ارتفاع الشمس قِيد رمح، وقال: إنه يتقرب إلى الله تعالى بهذه الصلاة لارتفاع الشمس قيد رمح، لا لأنها صلاة ضحى، فهذه عبادة لا تُقبَل، يعني أراد أن يجعلها أيش؟ أراد أن يجعلها صلاة سادسة مع الخمس، فإنها لا تقبل؛ لأنه زاد صلاة لم ينزل الله بها من سلطان، ولو أنه صلى الظهر خمس ركعات لم تقبل؛ لمخالفة الشريعة في القدر. الرابع: الكيفية، لو تعبد لله تعالى بالوضوء، توضأ وضوءًا كاملًا مشتملًا على الأعضاء كلها، لكنه بدأ بالرجلين ثم الرأس ثم اليدين ثم الوجه، لم تقبل العبادة؛ لأنها مخالفة للشريعة في كيفيتها، وكذلك لو سجد قبل أن يركع لم تقبل الصلاة؛ لأنها مخالفة للشريعة في الكيفية. الخامس: الزمان، لو أن الإنسان ضحى في عيد الفطر وقال: عيد كعيد، فالقياس أن يُضحَّى في عيد الفطر كما يُضحَّى في عيد الأضحى، لم تُقبَل، لماذا؟ لمخالفة الشريعة في الوقت أو في الزمان. المكان، لو أن الإنسان اعتكف في رمضان في بيته، أو امرأة في مصلاها الذي في البيت، لم يجزئ، لماذا؟ لأنه مخالف للشرع في المكان. بقي أن يقال: وهل يأثم الإنسان لو تعبد لله عز وجل بما يخالف الشريعة في واحد من هذه؟ فالجواب: يأثم؛ لقول النبي ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالةٌ»[[أخرجه أبو داود (٤٦٠٧) واللفظ له، والترمذي (٢٦٧٦) من حديث العرباض بن سارية.]]. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إذن الصالحات وصف لموصوف محذوف، التقدير: الأعمال الصالحات. ﴿جُنَاحٌ﴾ أي إثم، وهذا هو المنفي، فليس على المؤمن الذي يعمل الصالحات جناح أي إثم ﴿فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾ فيما طعموا أعم من: فيما أكلوا، فيشمل الأكل والشرب؛ لأن الشرب يطعم ويذاق، فهو طعام، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ يقوله من؟ طالوت ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [البقرة ٢٤٩] ﴿مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ يعني النهر، والنهر يؤكل ولّا يشرب؟ يشرب. إذن قوله: ﴿فِيمَا طَعِمُوا﴾ يعم كل ما له طعم في الفم من مأكول ومشروب، لكن بشروط، ليس عليهم جناح فيما طعموا بشروط: الشرط الأول: ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾، الثاني: ﴿وَآمَنُوا﴾، الثالث: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، الرابع: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾، الخامس: ﴿وَآمَنُوا﴾، السادس: ﴿اتَّقَوْا﴾، والسابع: ﴿أَحْسَنُوا﴾، هذه قيود خمسة وليست متكررة، كل واحد له معنى. قوله: ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾ يعني اتقوا ما حرم عليهم من المأكول وليست التقوى العامة، إذا ما اتقوا ما حرم عليهم من المطعوم، هذه واحدة. ﴿وَآمَنُوا﴾ أي آمنوا بالله؛ لأن الإيمان لا شك أنه أصل في قبول الأعمال. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ هذا شرط، أي عملوا الصالحات فيما يأكلون من المباحات فلم يستعينوا بها على محرم، فإن استعانوا بها على محرم وهي مباحة صارت حرامًا؛ لأن الله اشترط أن يعملوا بها الصالحات. قال: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا﴾، هذا كلمة ﴿ثُمَّ﴾ تدل على أن هذا نوع آخر غير الأول؛ لأن العطف ولا سيما بـ (ثم) الدالة على المهلة والترتيب يدل على أن الثاني غير الأول، فيكون معنى ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا﴾ أي ثم استمروا على تقواهم ما حرم عليهم من هذا الطعام. وقوله: ﴿آمَنُوا﴾ أي استمروا على إيمانهم، والأمر بالإيمان يصح مرادًا به الثبوت عليه والاستمرار فيه، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [النساء ١٣٦]، ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا﴾ هذه التقوى العامة، اتقوا جميع المحرمات وأحسنوا بفعل جميع الطاعات، ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. هذه الآية يمكن أن نحملها على حالين: الحال الأولى حال من يذهب إلى التقشف ويخشى من الترف المباح، فيتجنب الفواكه واللحم المندي والشيء اللذيذ تعبدًا لله، ولها محمل آخر فيمن توفوا قبل تحريم الخمر، فهم قد شربوا الخمر وهي حرام ولّا حلال؟ هي في النهاية حرام، لكن حين شربهم إياها حلال؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يحرمها بتاتًا إلا بعد موته، وإن كان قد نزلت آيات تعرض بالتحريم وتقيد الحل؛ كما في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة ٢١٩]، وفي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء ٤٣]، وهؤلاء أشكل على الصحابة حالهم، لما حرمت الخمر أشكل على الصحابة حال الذين توفوا من قبلهم، فأنزل الله هذه الآية؛ أنه ليس عليهم جناح؛ لأنهم لم ينتهكوا ما حرم الله، بل هم مؤمنون متقون محسنون، إذن تحمل على وجهين، على من شرب الخمر قبل تحريمها، وأيضًا لو قلنا: الآن وقبل أن يعلم بتحريمها، فهذا يشمل أنه ليس عليه جناح، الثاني: من تورعوا عما أحل الله لهم خوفًا من الإثم، فيقال لهم: ليس عليكم جناح فيما طعمتم إذا تمت هذه الشروط. وقوله عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ المحبة لو أردنا أن نحدها لم نستطع، ما يستطيع الإنسان أن يحد المحبة أبدًا، أحد منكم يستطيع أن يحدها؟ محبات فيما بيننا أحد يستطيع؟ شيء هو من حياتكم اليومية في داخل البيت وخارج البيت ومع ذلك ما تحدونها؟ * طالب: (...). * الشيخ: نعم، تعريف المعروف يزيده جهالة، أو يزيد به جهلًا، ولذلك لما ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه روضة المحبين تعريف المحبة قال: هذه الأمور الطبيعية لا يمكن تعريفها، ما تستطيع أن تعرف المحبة ولا الكراهة ولا البغضاء ولا الخوف ولا الفرح، ما تستطيع؛ لأن هذه أمور كامنة في النفس، كل إنسان يعرفها، نعم عليها علامات لا شك، فلو قلت مثلًا: المحبة أن تميل للشيء الذي ينفعك أو تدفع به ضررك، أيش تقولون بها التعريف؟ * طالب: (...). * الشيخ: إي، هذا أثر المحبة، المحبة أن ترى الرجل قد استنار وجهه واستبشر فرحًا، أثر ما يمكن تعريفه، إذن المحبة معلومة، وإن شئت قل: معروفة، وتعريف المعروف يزيده جهالة. * في الآية فوائد: أولًا: نفي الجناح في المطعومات من مأكول ومشروب لهذه الشروط. * ومن فوائدها: أن على الكفار جناح فيما طعموا، لماذا؟ وجهه؟ غير مؤمنين، فالكافر لو رفع لقمة إلى فمه أو شرب كأسًا من ماء فإنه محاسَب عليه، وعليه الإثم فيه، ويؤيد هذا قول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الأعراف ٣٢]. وهل هي لغير المؤمنين في الحياة الدنيا؟ أما قدرًا فنعم، أليس كذلك؟ وأما شرعًا فلا، ولهذا قال بالنسبة للمؤمنين: ﴿خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، ولغير المؤمنين غير خالصة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: القيود الشديدة في نفي الإثم عمن أكل أو شرب في مأكوله ومشروبه، وعرفتم الآن التقوى كم ذكرت؟ * طلبة: ثلاث مرات. * الشيخ: والإيمان مرتين، والإحسان مرة، قيود شديدة عظيمة، فاحذر يا أخي المسلم أن يكون في مطعومك عليك إثم لأنك لم تتم هذه القيود. أسأل الله أن يعيننا وإياكم عليها. * من فوائد الآية الكريمة: أن من أكل حلالًا بكسب حرام فعليه الإثم، لماذا؟ لأنه لم يتقِ الله في كسبه، ولا بد أن يتقي الله عز وجل. فهل يكون غير الكاسب كالكاسب في هذا الإثم؟ نقول: أما إذا كان الشيء معيَّنًا، المحرَّم معيَّنًا فهذا يكون الآكل كالكاسب، مثل أن أعرف أن هذه الشاة التي ذبحها إكرامًا لي قد سرقها من فلان، فهذا حرام علي أن آكلها، أما إذا كان هذا الإنسان يتعامل بالربا ويكسب من الربا برضا صاحبه المرابي فإنه لا بأس أن تأكل من ماله، إلا إذا كان امتناعك منه يؤدي إلى توبته فهنا امتنع، أما إذا كان كل على حد سواء فكل ولا حرج عليك، ويدل لهذا أن رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكل من مال اليهود واشترى من مال اليهود مع أنهم معروفون بأكل السحت وأخذ الربا، ولم يستفسر ولم يقل لأي واحد: هل كسبتها بالربا؟ وبناء على ذلك، إذا مات ميت ونحن نعرف أنه يتعامل بالربا ويتعامل بالمباح، فهل يلزم الورثة أن يبحثوا كيف كسب ذلك؟ لا يلزمهم، الإثم على الكاسب، إلا إذا علمنا أن هذا هو عين مال الغير فيجب علينا أن نرده إلى صاحبه، يجب علينا أن نرده لأننا علمنا أنه ليس ملكه، فإن شككت هل هو ملكه وأخذه بطريق شرعي أو سرقة فما الأصل؟ الأصل أنه له، ولا يلزمنا أن نقول لكل من أهدى إلينا هدية: من أين؟ أنت سارقه ولّا جاءتك بطريق مباح؟ لو كنا مكلفين بهذا لشق علينا مشقة شديدة، ولكن -الحمد لله- أن الأمور بظاهرها، مثلما «سأل قوم النبي ﷺ عن أناس يأتونهم بلحم وهم حديثو عهد بالكفر، أسلموا قريبًا، ولا يدري المهدَى إليه اللحم أذكروا اسم الله أم لا؟ فقال لهم: «سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا»[[أخرجه البخاري، (٥٥٠٧) وابن ماجه (٣١٧٤) واللفظ له، من حديث عائشة. ]]؛ لأن الأصل الحل حتى يتبين التحريم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة الإيمان والتقوى وأنها سبب لطيب المطعم وحل المطعم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة الإحسان إلى من؟ الإحسان إلى الخلق، والإحسان في عبادة الخالق، فالإحسان إلى الخلق أن تبذل جاهك، تبذل مالك، تبذلك خدمتك، منفعتك البدنية، والإحسان في عبادة الخالق فسره أعلم الناس بمعناه -وهو النبي ﷺ- بقوله: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠) واللفظ له، ومسلم (٩ / ٥) من حديث أبي هريرة.]]. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات أن الله يحب؛ لقوله: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وهذه الصفة كسائر الصفات يجب على العبد أن يصدق ربه بها، وأن يحمل كلام ربه على ظاهره وعلى ما تقتضيه اللغة العربية؛ لأن الله قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ يعني صيرناه باللغة العربية ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف ٣] لأجل نعقل هذا القرآن ونفهمه، وعليه فيجب أن نؤمن بأن الله يحب، ولو فسرناه بغير ظاهره لكنا معتدين على النص من وجهين: الوجه الأول صرفه عن ظاهره، والوجه الثاني إثبات معنى على خلاف الظاهر، وهذا جناية على النصوص وتحريف للكلم عن مواضعه، فيه من هم مسلمون لا شك في إسلامهم يفسرون المحبة بأنها الثواب، أي يثيب المحسنين، ونقول: عفا الله عمن مات ونسأل عن الهداية لمن بقي، هذا التفسير تحريف للكلم عن مواضعه؛ لأن الإثابة شيء والمحبة شيء آخر، وإن كانت المحبة يلزم منها الثواب لكن لا يمكن أن نفسر شيئًا بلازمه إلا بدليل، ثم أيما أبلغ في الحث على الإحسان: أن نقول: معنى الآية: والله يثيب المحسنين أو أن نقول: والله يحب المحسنين؟ الثاني بلا شك. ولهذا لما قال الله عز وجل: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران ٣١] ولم يقل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني تصدقوا في دعواكم، بل قال: ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾؛ لأن محبة الله هي المقصود -أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أحبابه- هي المقصود، فلذلك نقول أيضًا: في تفسيرها بالثواب نقص في دلالتها ومضمونها؛ لأن النفس لا تتشجع إذا كانت بمعنى الثواب، بل المحبة على ظاهرها، ولا يجوز صرفها عن ظاهرها. فإن قال قائل: فهل تطردون هذه القاعدة في كل النصوص؟ فالجواب: نعم يجب علينا أن نطردها في جميع النصوص؛ لأن الصحابة أجمعوا على ذلك، ما منهم أحد يفسر القرآن بخلاف ظاهره أبدًا، فعلينا فيما يتعلق بصفات الله أن نؤمن بها، لكن على أساس مهم ذكره الله عز وجل في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى ١١] كل شيء أثبته لله فعلى هذه القاعدة، ما هي؟ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وبهذا تستريح وتسلم من اعتراضات كثيرة، من ذلك: أنه يكثر الآن السؤال عن هل نثبت لله الملل أم لا؟ احتجاجًا بقول النبي ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»[[ متفق عليه؛ البخاري (١٩٧٠)، ومسلم (٧٨٢ / ٢١٥)، وأبو داود (١٣٦٨) واللفظ له، من حديث عائشة.]]، فيقال: ما الذي حدك أن تحك الشيء حتى يخرج العظم، ما الذي حدك على هذا: هل تثبت لله الملل أو ما تثبت؟ إن من هو خير منك ممن سبقك من هذه الأمة وخير هذه الأمة لم يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذلك أبدًا، عرفوا المعنى وأبقوا اللفظ على ما هو عليه، ما الذي حدك؟ هل الحديث صريح في أن الله يمل؟ ما هو بصريح، ليس بصريح، سياقه «اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ -يعني تحملوا منه ما تطيقون- فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»[[متفق عليه؛ البخاري (١٩٧٠)، ومسلم (٧٨٢ / ٢١٥)، وأبو داود (١٣٦٨) واللفظ له، من حديث عائشة. ]]، يعني لا يمل من ثوابكم حتى تملوا من العمل، هذا معناه وواضح، فإن كان يدل على ثبوت الملل لله فالملل كسائر الصفات ملل يليق بالله، لا يماثل ملل المخلوقين، ملل المخلوق تعب وإعياء وضيق نفس، لكن لا يثبت هذا لله عز وجل أبدًا، واضح يا جماعة؟ مثل الغضب، الآن الغضب أثبت الله لنفسه غضبًا، ما فيه إشكال، في القرآن في عدة مواضع، وفي السنة كذلك، لو قال قائل: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، الغضب يحمل الغاضب على التصرف السيئ، حتى إنه يكسر الأواني ويطلق النساء ويعتق العبيد ويوقف الأملاك ويمزق الأوراق، أليس كذلك؟ بلى، يعني بعض الناس يصل به الحد إلى هذا، لو قال قائل: هل غضب الله الذي نثبته حقًّا كغضب المخلوق؟ أبدًا، إن الله تعالى إذا غضب فإنه لن يفعل إلا لحكمة، لن يفعل إلا لحكمة، وغضبه دليل على قوته عز وجل وقوة سلطانه؛ لأن الغضب لا يصدر إلا من قادر على الانتقام، أليس هكذا؟ العاجز ما يمكن يغضب، لا يمكن يغضب، لو تضرب صبيًّا يغضب عليك بيجي ينتقم منك؟ أجيبوا يا جماعة، ويش يسوي؟ يبكي ويحزن ويروح لأمه ويقول: هذا دقني وفعل، لكن ذو السلطان هو الذي يغضب وينتقم، فالغضب إذن صفة حميدة لكن بشرط ألا تخرج الغاضب عن طوره، ولهذا نحن نقول: إن الله عز وجل يغضب لكن ليس كغضب المخلوق الذي يخرج عن طوره حتى يتصرف تصرفًا لا يليق، وعلى هذا فقس، وأنت إذا أثبت لله ما أثبته لنفسه وتأدبت مع الله بحيث لا تتجاوز ما ذكر الله عز وجل، وأثبت هذا على حد قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى ١١] فإنك ستسلم في عقيدتك وفكرك، والتشويش الذي يلقيه الشيطان في قلبك، أما إذا قمت تتحرك في هذه النصوص يمينًا وشمالًا فأنت على شفا جُرُف هارٍ. * من فوائد هذه الآية الكريمة: الحث على الإحسان إلى الخلق، وعلى الإحسان في عبادة الخالق؛ لأن الله حين يخبرنا أنه يحب المحسنين ماذا يريد منا؟ أن نفعل لننال هذه المرتبة العظيمة، وهي محبة الله، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أحبابه. فلذلك يستفاد منها الحث على الإحسان. * طالب: الذين ينكرون الرضا والغضب، في قصة موسى، إخراج موسى من فرعون (...)؟ * الشيخ: ما يقدرون يصرفون. * الطالب: (...)؟ * الشيخ: هم عاجزون. * الطالب: (...) لا يتصورها عقل الإنسان، هذا رضا ولّا غضب؟ * الشيخ: لا شك أنه غضب، وإنجاء موسى رضا، هم- بارك الله فيك - هم ليس عندهم عقول، وصفهم شيخ الإسلام رحمه الله وصفًا دقيقًا قال: إنهم أُوتوا فهومًا ولم يؤتَوا علومًا -فهم ما عندهم علم من الكتاب والسنة، عندهم فهم- وأُوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء ما عندهم تقوى لله عز وجل، وإلا لو اتقوا الله عز وجل لاحترموا نصوص الكتاب والسنة، أدنى ما نقول فيهم: إنهم جهلوا، يعني قد لا يكون عدم التقوى عندهم عن عمد، لكن عن ظن أنهم على هدى، ويحسبون أنهم على شيء وهم ضالون. * طالب: المهاجرون من العرب في البلاد الأوربية يعملون أعمالًا مخلوطة الحلال بالحرام كأصحاب الدكاكين.. * الشيخ: أيش؟ * طالب: بعض المسلمين يعملون في البلاد الأوربية فيبيعون مثلًا أشياء في الدكاكين فيها الحرام وفيها الحلال، كالخمر والخنزير وما أشبه ذلك، فإذا دُعي الإنسان عندهم مثلًا أو إذا أكل عندهم فهل عليه شيء؟ * الشيخ: ليس عليه شيء إذا أكل المباح، إذا أكل المباح ليس عليه شيء، لكن كما (...) إذا كان في عدم إجابة الدعوة مصلحة فهنا لا تجب الدعوة. * طالب: ما رأيكم يا شيخ فيمن يقول: إن النبي ﷺ أكل طعام اليهود وقبل هداياهم لأنهم يهود كفار ليسوا على ملة صحيحة، أما الآن المسلمون فعلموا من الكتاب والسنة تحريم ذلك عليهم؟ * الشيخ: هذا جواب غير صحيح؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم يأكلون السحت ويأخذون الربا مدحًا لهم أو ذمًّا لهم؟ * طالب: ذمًّا لهم. * الشيخ: ولهذا قال: ﴿وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء ١٦١] فهم منهيون عنه، لكن بعض الناس يريد أن يحرم مال من أكله مختلط بالحرام، ثم يدفع بهذا الدفاع الضعيف. * طالب: هل ماله يعتبر (...) محرم؟ * الشيخ: لا ما هو محرم، كسب محرم. * * * * الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [المائدة ٩٤، ٩٥]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ﴾ وقبل أن نشرع في درس الليلة نود أن نبحث عن قوله تعالى: ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا﴾ ما معنى الأولى؟ * الطالب: ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾ أي المحرمات، ﴿وَآمَنُوا﴾ أي بقلوبهم.. * الشيخ: أنا أريد التقوى الأولى معناها. * الطالب: اتقوا المحرمات. * الشيخ: نعم. * الطالب: المحرمات من المطعمات. * الشيخ: والثانية؟ * الطالب: استمروا في تقواهم. * الشيخ: استمروا في التقوى وترك المحرمات، والثالثة؟ * الطالب: التقوى العامة. * الشيخ: التقوى العامة، إذن لا تكرار؛ لأن كل واحدة محمولة على معنى. قوله: ﴿وَآمَنُوا﴾، ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا﴾ ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا﴾ الأولى؟ * طالب: الأولى آمنوا بحل هذه المذكورات. * الشيخ: بحلها؟ * طالب: آمنوا يما يجب الإيمان به. * الشيخ: نعم يعني للعموم. آمنوا الثانية؟ * طالب: أي استمروا على إيمانهم. * الشيخ: أي استمروا على إيمانهم. سبق أن من فوائد الآية إثبات صفة من صفات الله عز وجل؟ * طالب: إثبات المحبة. * الشيخ: إثبات المحبة لله صفة من صفات الله. لعلكم عرفتم فيما سبق أن المحبة من الصفات الذاتية أو الفعلية؟ * طالب: الفعلية. * الشيخ: الفعلية، لماذا؟ * الطالب: الله إذا أراد أن يحب شخصًا أحبه. * الشيخ: لأنها تتعلق بمشيئته، وكل صفة لها سبب فهي من الصفات الفعلية؛ لأنها معلقة بهذا السبب.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب