الباحث القرآني
ثم قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
* طالب: يا شيخ، أحسن الله إليك، فيما يتعلق بالنسخ، بعض العلماء يقول: إن اصطلاح المتقدمين من الصحابة وبعض التابعين للنسخ أوسع من اصطلاح المتأخِّرين.
* الشيخ: صحيح، بعض السلف يطلق التخصيص على النسخ، مثل قوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون ٦]، أجاز بعض السلف أن يجمع الإنسان بين الأختين في ملك اليمين، يعني يطأهما، وقال: الآية عامة، لكن عبَّر بعض السلف قال: هذه الآية نسختها آية: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ [النساء ٢٣]، فقال: نسختها، ويريد بذلك التخصيص، وله وجه؛ لأن التخصيص نَسْخٌ للعموم، فله وجه.
* الطالب: سورة البقرة، آخر آية هل هي نسخ أو بالتخصيص ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة ٢٨٦]؟
* الشيخ: لا، الظاهر -والله أعلم- إطلاق النسخ عليها من باب التخصيص، أو التبيين أيضًا؛ لأن الله يقول: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة ٢٨٤] هذا من الأمور العملية والقلبية، أما مجرد الفكر فقد تجاوز الله عنه.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، هل نسخ القرآن بالسنة، هل السنة نسخت الـ..؟
* الشيخ: فيه مثال وهو قول الله تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا﴾ أي: الفاحشة، ﴿مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء ١٦]، والحديث الذي صحَّحه كثير من الأئمة: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ»[[أخرجه أبو داود (٤٤٦٢)، والترمذي (١٤٥٦) من حديث عبد الله بن عباس.]]، فهذا الحديث ينسخ قوله تعالى: ﴿فَآذُوهُمَا﴾، الحديث ينسخ الآية، هذا نسخ القرآن بالسنة، والمثال عزيز جدًّا، يعني قليل جدًّا جدًّا.
كما أن القرآن يخصِّص السنة، مثل اشتراط النبي عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية أن مَن جاء من المشركين مسلمًا فإنه يُرَدُّ عليهم[[أخرجه البخاري (٢٧٣٢) من حديث المسور بن مخرمة.]]، وهذا عام للرجال والنساء، فقال الله عز وجل: ﴿إِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ [الممتحنة ١٠]، وهذا من الأمور العزيزة النادرة؛ أن يكون القرآن يخصِّص عموم السنة.
* طالب: أحسن الله إليك، قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً﴾، ﴿أَشَدَّ﴾ هذا إذا جعلناه مفعول أول أبلغ من لو جعلناه مفعولًا ثانيًا، أحسن الله إليك، ما فهمت وجه إنه أبلغ.
* الشيخ: تفهم إن شاء الله هذا في وقت آخر؛ لأنه تكلمنا عليها كثيرًا.
* طالب: أسأل الله أن يحسن إليك، كما لا يخفى أن الخوف والرجاء من العبادات القلبية، فكيف يستطيع الإنسان يحقق الخوف والرجاء ويعرف أنه يمشي بين هذين؟
* الشيخ: وهذا ليس انفعالًا في الواقع، وإذا قُدِّر انفعالًا فإننا نقول: الإنسان إذا مُنِّيَ بشيء يحبه أيرجوه أو لا؟ يرجوه، وإذا خُوِّف يخاف، لو أن رجلًا كريمًا قال: من عمل هذا فله كذا وكذا، فعمله إنسان، يرجو أو يخاف؟ يرجو، كذلك بالعكس لو أن رجلًا ظالمًا قال: من فعل كذا عاقبته بكذا، فالإنسان يخاف، وإن كان انفعالًا، لكن لا بد أن يتأثر الإنسان بما يكون أمامه من طمع أو خوف.
* طالب: عفا الله عنك يا شيخ، إذا ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فهموا وقرروا وعملوا به يا شيخ، والحقيقة تقصر عقولنا عنهم فهمًا وعملًا، كيف (...) يا شيخ؟
* الشيخ: مثل أيش؟
* الطالب: مثل كلام عمر رضي الله عنه وأرضاه في آية الرجم، بعض الناس يطالب يقول: الدليل، ما فيه دليل، بعض من الناس الحين، آية الرجم؟
* الشيخ: سبحان الله! عمر رضي الله عنه موفَّق للصواب، وعنده فراسة عجيبة، هو نفسه رضي الله عنه قال: «أخاف إن طال بالناس زمان أن يقولوا: لا نجد الرجم في كتاب الله»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٨٢٩)، ومسلم (١٦٩١ / ١٥).]]، وهذا الذي ذكرت الآن هو ما توقعه عمر، وإلا هو يُعلِن على منبر الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الكلام، هل يمكن أن يعلن على منبر الرسول ويكون الأمر على خلاف ما قال ويسكت الصحابة؟ لا يمكن.
* طالب: شيخ، بارك الله فيك، ما مدى صحة قول من يقول: إن النار دركات، وكل دركة لها اسم؟
* الشيخ: يعني معناه يجعل الأسماء هذه بحسب الدركات، ما هو صحيح، الصحيح أنها أسماء لمسمى واحد.
* الطالب: (...) الدرك الأسفل من النار؟
* الشيخ: إي نعم، كما أن البيت اسم واحد، وفيه سطح، وفيه مصباح، وفيه بدروم، وغيره.
إذا خُوّف يخاف، لو أن رجلًا كريمًا قال: من عمل هذا فله كذا وكذا، فعمله إنسان يرجو أو يخاف؟ يرجو، كذلك بالعكس لو أن رجلًا ظالمًا قال: من فعل كذا عاقبته بكذا، فالإنسان يخاف، وإن كان انفعالًا، لكن لا بد أن يتأثر الإنسان بما يكون أمامه من طمع أو خوف.
* طالب: عفا الله عنك يا شيخ، إذا ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم حكم وأقروه وعملوا به يا شيخ، تقصر عقولنا عنه فهمًا وعملًا، كيف العدول عنه يا شيخ؟
* الشيخ: مثل أيش؟
* الطالب: مثل كلام عمر رضي الله عنه وأرضاه في آية الرجم، بعض الناس يطالب يقول: الدليل؟ ما فيه دليل (...) آية الرجم؟
* الشيخ: سبحان الله! عمر رضي الله عنه موفّق بالصواب، وعنده فراسة عجيبة، هو نفسه رضي الله عنه قال: «أخاف إن طال بالناس زمان أن يقولوا: لا نجد الرجم في كتاب الله»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٨٢٩)، ومسلم (١٦٩١ / ١٥) من حديث عمر بن الخطاب.]]، وهذا الذي ذكرت الآن هو ما توقعه عمر فهمت؟ وإلا هو يُعلن على منبر الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الكلام، هل يمكن أن يعلن على منبر الرسول ويكون الأمر على خلاف ما قال ويسكت الصحابة؟ لا يمكن.
* طالب: ما مدى صحة قول من يقول: إن النار دركات؟
* الشيخ: يعني معناها يجعل أسماء هذه بحسب الدركات؟ ما هو صحيح، الصحيح أنها أسماء لمسمى واحد.
* طالب: في الدرك الأسفل من النار.
* الشيخ: إي، كما أن البيت اسم واحد، وفيه سطح، وفيه مصباح، وفيه بدروم وغيره.
الفرق بينهما أن مطلق الشيء يعني الجزء منه والشيء منه؛ يعني معناه أنه يسمى شيئًا، مطلق الشيء يسمى شيئًا، والشيء المطلق يعني الشيء الكامل، المطلق يعني من غير قيد اللي ما يُقال: إنه قليل، ولا يقال: إنه ضعيف، ولا شيء، فالشيء المطلق الكامل من الشيء، ومطلق الشيء يعني الذي يصدق عليه أنه شيء وإن لم يكن كاملًا.
* طالب: لذلك قلنا: فيه إطلاق.
* الشيخ: لا، بس فرق بين أن تضيف الإطلاق إلى النوع أو إلى الجنس، وأن تصف النوع بالإطلاق، الشيء المطلق يعني الكامل، مطلق الشيء يعني معناه أنه ما يصدق عليه الشيء وإن لم يكن كاملًا.
* * *
نكمل ما تقدم في النسْخ حتى يكمل البحث فيه. ذكرنا أمس أن النسخ جائز عقلًا وواقع شرعًا، علل لجوازه عقلًا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا.
* طالب: يقال في معظم الأحكام: إذا شرعت في زمان معين لأمة معينة، فتصلح له، وقد لا تصلح لغيرها، فيكون من الحكمة أن يشرع لمن بعدها خلاف ما شرع لمن قبلها حيث..
* الشيخ: لأن أحكام الله تعالى يُراد بها مصالح العباد، وهي تختلف في كل زمان أو مكان أو حال، فلذلك كان مقتضى الحكمة أيش؟
* الطالب: نسخ الأحكام.
* الشيخ: نعم، نسخ الأحكام. واقع شرعًا هات مثالًا؟
* طالب: قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا﴾ [البقرة ١٠٦] ودليل وقوعه؟
* الشيخ: إي، وقوعه.
* الطالب: ﴿الْآنَ خَفَّفَ﴾ [الأنفال ٦٦].
* الشيخ: واقع شرعًا.
* الطالب: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾.
* الشيخ: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ بعد أن قال؟
* الطالب: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا﴾ [الأنفال ٦٥].
* الشيخ: ﴿مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآن﴾ [الأنفال ٦٥، ٦٦].
* الطالب: ﴿خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾.
* الشيخ: كمِّل.
* الطالب: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ﴾.
* الشيخ: صحيح ﴿صَابِرَةٌ﴾.
* الطالب: ﴿يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾.
* الشيخ: ﴿وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [الأنفال ٦٦] بارك الله فيك.
النسخ يكون نسخ لفظ، أو نسخ حكم، أو نسخهما، نسخ اللفظ؟
* طالب: أن يُنسخ اللفظ ويبقى الحكم.
* الشيخ: نعم، أن يُنسخ اللفظ ويبقى الحكم، مثاله؟
* الطالب: آية الرجم التي نُسخت فكانت..
* الشيخ: الرجم يعني رجم أيش؟
* الطالب: رجم المحصَن.
* الشيخ: الزاني المحصن، نعم.
* الطالب: نُسخت، وبقي حكمها.
* الشيخ: كانت تُقرأ في كتاب الله، ثم نسخ لفظها، وبقي حكمها، ما هو الدليل؟
* الطالب: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن مما أنزل من القرآن آية الرجم»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٨٣٠)، ومسلم (١٦٩١ / ١٥) من حديث عمر بن الخطاب.]] (...) هذا الدليل.
* الشيخ: كمّل: «إن مما أنزل الله تعالى على رسوله آية الرجم قرأناها، وحفظناها، ووعيناها، ورجم النبي ﷺ ورجمنا بعده. وإن الرجم حق ثابت في كتاب الله على من زنى إذا أحصن، وكان الحبَل أو الاعتراف»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٨٣٠)، ومسلم (١٦٩١ / ١٥) من حديث عمر بن الخطاب.]]. أفهمت؟ إذا قامت البينة وكان الحبل أو الاعتراف.
ما هي الحكمة من نسخ اللفظ دون الحكم؟
* طالب: نسخ اللفظ دون الحكم لتذكير العباد بنعمة الله عز وجل.
* الشيخ: لا.
* الطالب: أو لتبيين فضل هذه الأمة على غيرها.
* الشيخ: نعم؛ لتبيين فضل هذه الأمة على غيرها؛ حيث عملت بالرجم مع أنه لا يوجد لفظه في كتاب الله، واليهود بالعكس جحدوا آية الرجم حتى إنهم لما جاؤوا بالتوراة وضع الذي يقرأ يده على آية الرجم حتى لا تَبين.
الثاني: نسخ الحكم وبقاء اللفظ، مثاله؟
* طالب: ﴿الْآنَ خَفَّفَ﴾، الآية في الأول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال ٦٥، ٦٦].
* الشيخ: أين المنسوخ؟
* الطالب: الأول.
* الشيخ: الآية الأولى نُسخ حكمها، وبقي لفظها، بارك الله فيك، الحكمة؟
* طالب: أن بقاء اللفظ فيه (...) أخرى مثل زيادة الأجر كما في الصلاة.
* الشيخ: أن في بقاء اللفظ زيادة الأجر.
* الطالب: وأيضًا تذكُّر نعمة الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: التذكير بنعمة الله عز وجل، الثالث؟
* الطالب: نسخ الحكم واللفظ معًا.
* الشيخ: نعم، نسخ اللفظ والحكم معًا، مثاله؟
* طالب: العشر رضعات.
* الشيخ: مثل العشر رضعات؟ يعني عشر رضعات نُسخت إلى خمس عشرة رضعة؟!
* الطالب: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «ما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله ﷺ وهي فيما يقرأ من القرآن»[[أخرجه مسلم ( ١٤٥٢ / ٢٤) من حديث عائشة.]]، العشر إلى خمس، الأولى منسوخة لفظًا وحكمًا.
* الشيخ: العشر منسوخة لفظًا وحكمًا؛ لأن حكمها نُسخ بخمس ولفظها لا يوجد.
فيه تقسيم آخر للنسخ: النسخ تارة يُنسخ إلى أثقل، وتارة ينسخ إلى أخف، وتارة ينسخ إلى مساوٍ، ثلاثة أقسام: تارة ينسخ إلى أثقل، مثال ذلك: الصوم، أول ما فرض الصوم (...) الناس مخيرون بين أن يصوم الإنسان أو يفدي، ثبت ذلك في الصحيحين من حديث سلمة بن عقبة رضي الله عنه، أول ما نزل الصيام صام من شاء صام ومن شاء افتدى، ثم تعيّن الصوم، أيهما أثقل؟
* طالب: الناسخ.
* الشيخ: تعيين الصوم؛ لأن المخيّر إن شاء هذا أو هذا، فإذا تعين الصوم صار أثقل.
الثاني: إلى أخف، مثاله: آية المصابرة التي قرأنا ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ [الأنفال ٦٥] إلى آخره، هذه نسخت إلى أخف، ومما نسخ إلى أخف؛ الصلوات الخمس نُسخت من خمسين إلى خمس.
الثالث: النسخ إلى مساوٍ، بالنسبة لفعل المكلف لا فرق بين هذا وهذا كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة، فهنا الفعل بالنسبة للمكلف واحد، الإنسان لا فرق أن يتجه يمينًا أو شمالًا، فلننظر إذا نسخ من أخف إلى أشد ففيه فائدتان؛ الفائدة الأولى: زيادة الأجر؛ لأن العمل إذا شق على المكلف لا بفعل نفسه واختياره فله أجر يزداد أجره. انتبه للقيد! إذا شق على المكلف أيش؟
* طالب: لا بفعله واختياره.
* الشيخ: لا بفعله واختياره فهو أفضل، ولهذا قال النبي ﷺ لعائشة: «أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٧٨٧)، ومسلم ( ١٢١١ / ١٢٦) من حديث عائشة بلفظ: «وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أَوْ نَصَبِكِ».]]. يعني على قدر المشقة، أما ما كان بفعل المكلف واختياره فهو إلى الإثم أقرب منه إلى الأجر، مثال الأول: إنسان قام يتوضأ في البر، وليس عنده إلا ماء بارد، وليس عنده ما يسخن به، فتوضأ بالماء البارد، فيه مشقة ولَّا لا؟
* طلبة: فيه.
* الشيخ: فيه مشقة، آخر قام يتوضأ وعنده ماء ساخن، وماء بارد فتوضأ بالماء البارد، أيكون أفضل مما لو توضأ بالماء الساخن؟
لا، بل هو إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة؛ لأن هذا باختياره، إذن النسخ من الأخف إلى الأشد فيه أيش؟
* طلبة: زيادة الأجر.
* الشيخ: زيادة الأجر، فيه أيضًا بيان حكمة التشريع، حيث يتبين للإنسان أن التشريع في هذه الشريعة الإسلامية يأتي بالتدريج الأسهل فالأسهل حتى لا يصطدم الناس بالشريعة الكاملة، وانظر إلى تحريم الخمر، تحريم الخمر جاء على درجات: درجة تعريض، درجة مؤقتة بوقت معين، درجة محرمة نهائيًّا، التعريض يبينه لنا الأخ، تحريم الخمر بالتعريض؟
* طالب: قال الله تعالى: (...).
* الشيخ: لا.
* طالب آخر: قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة ٢١٩].
* الشيخ: قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ التحريم ما هو الإباحة.
* طلبة: التعريض.
* الشيخ: التعريض ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، فهنا لما قال: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ العاقل ما يفعل.
التحريم في وقت معين في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؟
* طالب: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء ٤٣].
* الشيخ: نعم، ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، فهنا حرم شرب الخمر في وقت قريب من الصلاة؛ لأنه إذا شرب في وقت قريب من الصلاة لزم أن تأتي الصلاة وهو سكران.
الثالث: التحريم النهائي في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة ٩٠].
إذن يتبين بذلك أيش؟
* طلبة: حكمة التشريع.
* الشيخ: حكمة التشريع في الشريعة الإسلامية، هل هذه الحكمة باقية إلى الآن؟ بمعنى لو رأينا شخصًا يشرب الخمر، هل لنا أن نقول: اترك الخمر بالتدريج أو نقول: الآن؟
* الطلبة: الثاني.
* الشيخ: إذا أمكن الثاني لا بأس، لكن قال: لا يمكن، فإذا قلنا له بالتدريج، وكذلك شرب الدخان بالتدريج، فهذا لا بأس به إذا لم يمكن إلا ذلك؛ لأنه إذا تعذّر الكمال أخذنا به شيئًا فشيئًا. بقينا بأيش؟
القسم الثالث: المساوي، مثل الاتجاه من بيت المقدس إلى الكعبة، قد يقول قائل: ما الفائدة من ذلك؟
نقول: الفائدة لا يمكن أن يكون هذا النسخ إلا لسبب، فمثلًا أيهما أشرف الكعبة أو بيت المقدس؟
لا شك أن الكعبة أفضل، لكن لو فرضنا أنه لا فرق بينهما إطلاقًا فإن فائدته امتحان المكلَّف واختباره، هل هو تابع لشريعة الله أو هو تابع للهوى؟
فيقول: ليش إن الله ينسخ هذا إلى هذا وهما سواء؟ أنا سأفعل ما شئت.
ففائدة النسخ إلى المماثل أيش؟ اختبار المكلَّف هل يكون منقادًا تمامًا لشريعة الله أو هو متبع لهواه، وبهذا انتهى ما أردنا أن نتكلم عنه في باب النسخ.
* طالب: الحكمة من النسخ إلى الأخف.
* الشيخ: ما ذكرناها؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: إي، الحكمة من النسخ من الأشد إلى الأخف واضحة جدًّا؛ وهي التخفيف على الأمة.
* * *
قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [المائدة ٨٧].
هذه ثلاث جمل، بل أربع جمل؛ الأولى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وتصدير الخطاب بالنداء يدل على أهميته؛ لأن النداء يستلزم انتباه المخاطب، وإصدار الخطاب بوصف الإيمان يدل على أن ما سيُذكر من خصال الإيمان، وأن مخالفته نقص في الإيمان، ثم إن فيه إغراء للامتثال؛ لأنك إذا وصفت شخصًا بوصف لتأمره أو تنهاه فهذا من باب الإغراء بهذا الوصف، ولذلك تقول لشخص: أنت رجل كيف تفعل كذا وكذا؟!
قولك: أنت رجل؛ يعني مقتضى الرجولة أيش؟ ألَّا تفعل. وتقول: يا فلان، أنت كريم، وهذا سائل؛ يعني فأعطه.
الجملة الثانية: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ هذه ناهية ﴿لَا تُحَرِّمُوا﴾ أي: لا تجعلوه حرامًا، وتحريم ما أحل الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام، فلننظر أيها المراد: خبر، وإنشاء، وامتناع، فالخبر أن يقول: الضأن حرام، يخبر، هذا نقول له: إنك كاذب، لماذا؟ لأن الضأن حلال، وهو قال: إنه حرام كاذبًا.
الإنشاء أن يحرم ما أحل الله كما فعل أهل الجاهلية بالسائبة والوصيلة والحام، ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾ [الأنعام ١٣٩]. هذا التحريم أيش؟ إنشاء؛ يعني أراد أن يحكم بأن هذا الشيء حرام على جميع الناس، هذا هو الذي يراد بالآية الكريمة، وحقيقته الحكم بغير حكم الله عز وجل.
الثالث: الامتناع؛ يعني أن يقصد الامتناع، هو ما مقصد أنه حرام وما قصد إنشاء الحكم عليه بالتحريم، ولا قصد الخبر، وإنما قصد الامتناع، فهذا حكمه حكم اليمين؛ لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم ١]. أفهمتم الآن ولَّا؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: واضح؟ إذا قال: هذه الخبزة عليَّ حرام، يريد الامتناع، ما قصده أن حكمها حرام في شرع الله، ولا أن يخبر أنها حرام، لكن أراد أن يمتنع، فهذا حكمه حكم اليمين؛ الدليل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم ١، ٢].
هذه ثلاثة أقسام في التحريم: إخبار، وإنشاء، وامتناع، أيها المراد؟ الإنشاء، ولهذا قال: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾؛ لأنه طيب، ولأنه حلال فكيف تحرّمونه؟!
﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ أي: تجاوزوا حدودكم؛ لأن الإنسان له حد، فكونه يحلِّل ويحرِّم هذا اعتداء، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [النحل ١١٦].
﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ هذه الجملة الثالثة، أخبر عز وجل أنه لا يحب المعتدين في حقه ولا في حق عباده؛ لأن الله عدل أحكم الحاكمين، فلا يحب أن يعتدي أحد لا في حقه ولا في حق العباد.
﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [المائدة ٨٨].
﴿كُلُوا﴾ فعل أمر، وهو في معناه مشترك بين الإباحة وبين الوجوب وبين الندب، فمن توقّفت حياته على الأكل فأكله واجب، ومن احتاج، ولكن لا ضرورة فأكله مستحب، ومن كان لا يحتاج، وليس بمضطر فالأمر للإباحة.
﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ أي: مما أعطاكم.
﴿حَلَالًا﴾ أي: حال كونه حلالًا أي محلَّلًا، فهو مصدر بمعنى اسم مفعول.
﴿طَيِّبًا﴾ أي: لا خبيثًا، وهل الوصف هنا وصف ملازم يعني لأن كل حلال طيب، أو المعنى حلالًا طيبًا في كسبه، فالمعنى أنه حلال في ذاته طيب في كسبه؟
الثاني أولى؛ لأنه إذا دار الأمر بين أن يكون الكلام مؤسِّسًا أو مؤكِّدًا فحمله على أن يكون مؤسسًا أولى، فنقول: ﴿حَلَالًا﴾ أحله الله، ﴿طَيِّبًا﴾ أي: من حيث الكسب.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي: الزموا تقوى الله عز وجل.
﴿الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ هذا من باب الحث على التقوى؛ يعني ما دمتم مؤمنين بالله عز وجل فاتقوه، وفي قوله: ﴿الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ جملة اسمية تدل على الثبوت؛ يعني أنه قد تقرر عندكم الإيمان بالله، فإذا كان كذلك فاتقوا الله.
* في هاتين الآيتين فوائد؛ منها: النهي عن تحريم طيبات ما أحل الله؛ لقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة ٨٧]. وهذا التحريم هل يعم الأقسام الثلاثة التي ذكرناها؟
نعم، يعمها لكن بعضها أشد من بعض، فالتحريم الإنشائي أشدها؛ لأنه مشاركة لله في حكمه، والتحريم الخبري محرم؛ لأنه كذب، والتحريم الامتناعي أيضًا محرّم؛ لأن الله عاتب نبيه عليه الصلاة والسلام عليه في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم ١]؛ ولأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٧٩)، ومسلم (١٦٤٦ / ٣) من حديث عبد الله بن عمر.]].
* ومن فوائد هذه الآية: النهي عن العدوان؛ يعني الاعتداء في حق من؟ في حق الله وفي حق العباد.
* ومنها: الإشارة إلى أن تحريم ما أحل الله من باب العدوان؛ لأن الله قال: لا تُحرّموا ولا تعتدوا، وهو إشارة إلى أن هذا من باب العدوان، وأيهما أشد أن يحرِّم الحلال، أو أن يحلّل الحرام؟
* طلبة: الأول.
* الشيخ: أن يحرم الحلال؛ لأن تحريم الحلال تضييق على عباد الله بدون علم، وتحليل الحرام إن قُدّر أنه حرام بناء على الأصل، الأصل في الأشياء أيش؟ الحِلّ إلا الشرائع فالأصل فيها الحذر.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الإشارة إلى مِنّة الله تبارك وتعالى على عباده فيما أحل لهم.
﴿طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ ولو شاء الله عز وجل لحرم علينا، لحرّم علينا طيبات أُحلّت لنا كما حرم ذلك على بني إسرائيل حيث قال عز وجل: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء ١٦٠]؛ يعني بسبب ظلمهم وعصيانهم حرم الله عليهم الطيبات، وتحريم الطيبات الشرعي بسبب الظلم مثله التحريم القدري بسبب الظلم، فإن الإنسان قد يُحْرَم الطيبات تحريمًا قدريًّا لمعصيته، مثل أن يكون رجل إذا أكل اللحم تأثّر، مرض، هذا يعني أنه يجب عليه أن يجتنب أكل اللحم، وهذا تحريم قدري ولَّا شرعي؟
* الطلبة: قدري.
* الشيخ: قدري، إنسان مثلًا فيه السكر، إذا أكل الحلو ازداد عليه السكر وآلمه، يجتنب السكر، هذا التحريم أيش؟
* طلبة: قدري.
* الشيخ: قدري، فلا تظن أن التحريم بسبب المعاصي هو التحريم الشرعي فقط بل حتى القدري.
ومن التحريم القدري: أن يمنع الله نبات الأرض بسبب المعاصي كما قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم ٤١].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات المحبة لله عز وجل؛ لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
فإن قال قائل: هذا نفي وليس بإثبات؟
قلنا: نفيه محبة المعتدين يدل على ثبوت أصل المحبة، ولو كان لا يحب مطلقًا لم يكن لنفي محبته المعتدين فائدة؛ لأنه أصلًا لا يحب، والذين قالوا: إن الله لا يحب لم ينكروا المحبة، لكن حرّفوها، ففي الآية إذن ردّ على منكري محبة الله عز وجل مثل من؟
الأشاعرة -الذين هم أقرب أهل التعطيل لأهل السنة- ينكرون محبة الله، يقولون: إن الله لا يحب أحدًا، لا يحب ولا الرسول؟! قالوا: ولا الرسول، أليس رسولنا قال: إن الله اتخذني خليلًا؟! قالوا: نعم، لكن زاد ثوابه؛ لأن المحبة هي الثواب أو إرادة الثواب، وفسّروها بالإرادة؛ لأنهم يثبتون الإرادة، والحقيقة أننا نسأل الله لهم العفو، وأن يهدي أحياءهم؛ أنهم حُرِموا لذة محبة الله عز وجل، الإنسان إذا شعر بأن الله يحبه يفرح ويزداد في محبة الطاعات وكراهة المعاصي؛ لأنه يعلم أن ربه عز وجل يحبه من فوق سبع سماوات، وإذا كان المعنى يُثيبه فهو يثيب أي واحد من العباد ممن يستحق الثواب، فحُرموا لذة محبة الله؛ لأنهم أنكروها.
إذن المهم أن في الآية إثبات المحبة، وإذا قال قائل: ما طريق إثباتها؟
قلنا: لأن نفيها عن المعتدين أيش؟ يدل على ثبوت أصلها؛ إذ لو لم يكن أصلها ثابتًا لم يكن فائدة في نفيها عن المعتدين، وهذا نظير استدلال الشافعي رحمه الله على رؤية الله في نفي الرؤية عن الفجار حيث قال عز وجل: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين ١٥].
قال: لو كانت الخلائق محجوبة عن الله كلها لم يكن في نفي حجب الرؤية عن الفجار فائدة، نفي الرؤية عن الفجار دليل على إثباتها لمن؟
* طلبة: للأبرار.
* طالب: للمتقين.
* الشيخ: للأبرار.
* ومن فوائد الآية التي تليها: أمر الإنسان بالأكل مما رزق الله، ضده عدم الأكل، عدم الأكل مما رزق الله ثلاثة أقسام؛ الأول: أن يترك الأكل مع خوف الهلاك إذا لم يأكل، فهنا ترك الأكل حرام؛ لأنه يجب على الإنسان أن ينقذ نفسه، وبهذا نعرف سفه أولئك الذين يُضربون عن الطعام، نعرف سفههم في عقولهم وضلالهم في دينهم، بعضهم يُضرب عن الطعام حتى يحمل إلى المستشفى كالميت، هذا حرام لا شك في هذا، وإذا كان ليس به ضرورة للأكل، لكنه يحتاج إلى الأكل لتقوية البدن، فهنا الأكل أيش؟ مستحب؛ لأنه لو ترك لم يهلك، لكنه في حاجة نقول: لا تمنع نفسك، والثالث: أيش؟ أن يترك الأكل تنزهًا، فهذا يُنهى عنه، ويقال: كل مما أباح الله لك، بعض الناس لا يأكل من طيّب الطعام تزهدًا وورعًا، فماذا نقول عنه؟
نقول: هذا خطأ، أفضل الخلق محمد عليه الصلاة والسلام كان يختار الطيب من الطعام، أليس قد جاؤوا له بالتمر الطيب بدل التمر الرديء؟ بلى، ومع ذلك ما نهاهم، ما قال: ليش تأتون لي بالطيب؟ بل أرشدهم إلى أن يأتوا بالطيب لكن بطريق مباح.
فتنزه بعض الناس عن الطيبات تورعًا وتزهدًا، نقول: لا، أنت الآن مجانب للورع؛ لأن الورع اتباع الشرع، الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، واتباع الشرع مما ينفع في الآخرة، فأنت الآن لا زاهد ولا ورع، نعم، لو فرض أن الإنسان -بصفة خاصة- يجد من نفسه أنه لو اختار الطيبات لحصل الأشر والبطر، فهنا قد نقول: أيش؟ اترك الطيبات لئلّا تصاب بالأشر والبطر، لكننا نعالجه قبل ذلك بعلاج آخر، نقول: لا يجوز أن يحملك التمتع بنِعم الله على الأشر والبطر، فإن عجزت وأبيت إلا أن يحملك نقول: الآن اترك؛ لأن حقيقة بعض الناس إذا لبس ثياب الزينة، المشلح الزين، الغطرة الزينة انتفخ، وصار فيه علو واستكبار، هذا نقول له: اترك هذا ولَّا لا؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: نقول: اتركها، بينما نقول: لا يتكبر، لكنه يقول: أنا أعجز، نأمره أولًا ألَّا يتكبر، لكن إذا قال: أنا أعجز، نقول: الحمد لله، اترك هذه لمن لا يتكبر إذا لبسها، ولكن هذا علاج خاص كما أننا نعالج الإنسان الذي يتأثر بأكل الطيبات من جهة أخرى فنقول: اتركها ودعها لمن لا يتأثر بها.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أنه يجب على الإنسان أن يكون مأكله طيبًا؛ لقوله تعالى: أيش؟ ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ فالكسب الحرام وإن كان في ذاته حلالًا؛ يعني مثلًا كسب دراهم، الدراهم الأصل فيها أنها اكتساب حلال، فإذا كسبها بحرام قلنا: هي حرام عليك، يحرم عليك أن تأكل منها، لماذا؟
لأنها ليست طيبة، ولهذا قال النبي ﷺ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِطَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٤١٠)، ومسلم ( ١٠١٤ / ٦٣) من حديث أبي هريرة بنحوه.]].
قوله: «بطيّب»؛ يعني بطيب في كسبه وفي ذاته، فإن الله يقبل هذه الصدقة.
طيب إذا كان المال محرمًا لكسبه، فهل يحل لغير الكاسب إذا اكتسبه بطريق مباح؟
الجواب: نعم، وهذه القاعدة دل عليها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «أكل من طعام اليهود»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦١٧)، ومسلم (٢١٩٠ / ٤٥) من حديث أنس بلفظ: أن امرأة يهودية أتت رسول الله ﷺ بشاة مسمومة فأكل منها.]] وهم معروفون بأيش؟
* طلبة: بالربا.
* الشيخ: بأكل الربا والسحت، والرشوة، وأكل منه؛ لأنه يأكل بطريق مباح بالإذن؛ أُذن له في ذلك أو أهدي إليه، إلا إذا علمت أن هذا المال هو عين مال رجل آخر، كالسارق إذا سرق شاة وذبحها لك ضيافة وأنت تعرف أنه سرقها، فهنا لا يجوز أن تأكلها؛ لأن هذا محرّم لعينه؛ يعني لعينه من حيث إن هذا الكاسب لم يملك هذه العين، لم يملكها فلا يجوز أن تأكلها، لكن لو يدعوك إلى وليمة من عُرف بأن ماله كله حرام، اكتسبه عن طريق الربا الصريح أو عن طريق الربا الذي اتُّخذ بالحيلة، فهل لك أن تأكل منه؟
نعم، لي أن آكل منه، إلا إذا علمت أنني إذا امتنعت من إجابة دعوته وأكل طعامه صار ذلك سببًا لتوبته فحينئذٍ، نعم، لا يجوز أن أجيبه، ولا يجوز أن آكل من طعامه؛ لأنه إذا رأى الناس قد هجروه فلا يجيبون دعوته، ولا يأكلون طعامه لا شك أن هذا سيؤثر عليه إلا أن يكون قلبه ميتًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإيمان بالله عز وجل مستلزِم لتقواه؛ لقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ أي: فلإيمانكم يلزمكم التقوى، فالإيمان الحقيقي مستلزِم للتقوى، فمن قال: إنه مؤمن، ولكنه لم يتقِ الله فهو إما فاقد الإيمان بالكلية وإما ناقص الإيمان.
فإن قال قائل: إنه يفعل المعاصي، وإذا قيل له: يا فلان، اتقِ الله لا تعصِ الله، قام يضرب على صدره ويقول: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، ماذا نقول له؟
نقول: هذا كلام الرسول ﷺ لا شك فيه، وليس عندنا في هذا شك، ولكن لو اتقى ما هاهنا لاتقت اليد والرجل والعين واللسان؛ لأن النبي ﷺ يقول: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»[[ متفق عليه؛ البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩ / ١٠٧) من حديث النعمان بن بشير.]]. فلو كان فيما هاهنا تقوى لظهر ذلك على جوارحه (...).
{"ayahs_start":87,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحَرِّمُوا۟ طَیِّبَـٰتِ مَاۤ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ","وَكُلُوا۟ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلࣰا طَیِّبࣰاۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِیۤ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ"],"ayah":"وَكُلُوا۟ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلࣰا طَیِّبࣰاۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِیۤ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق