الباحث القرآني

ثم قال عز وجل: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [المائدة ٧٨]. ﴿لُعِنَ﴾ مبني للمجهول، أو إن شئت فقل: مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله، وهذا هو الأدق، الأدق أن يقال: مَبْنِيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله؛ لأنك لو قلت: مبني للمجهول لأشكل علينا قول الله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء ٢٨] فإن هنا الفاعل غير مذكور، لكنه معلوم ولَّا غير معلوم؟ * الطلبة: معلوم. * الشيخ: معلوم. إذن التعبير بقولنا: فعل ماض -في الغالب- مَبْنِيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله، أولى من مبني للمجهول، فمَن الذي لعنهم؟ * طالب: الله. * الشيخ: إذا كان هنا مبني لما لم يسم فاعله فمن الذي لَعَن؟ * الطلبة: الله. * الشيخ: الله والملائكة والناس أجمعين؛ لأن كل مَنْ لعنه الله فإن أولياء الله يلعنونه، بل إن الناس حتى غير أولياء الله يلعنونه كما قال عز وجل في أهل النار: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف ٣٨]. ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ والذين كفروا هم الذين لم يثبتوا على الدين الذي كُلِّفوا به، فمثلًا بنو إسرائيل قبل بَعْثَة عيسى دينهم هو دين موسى فإذا خالفوه فقد كفروا، والنصارى بعد بعثة عيسى وقبل بعثة محمد ﷺ دينهم النصرانية فمن خالفها فهو كافر. قال: ﴿عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ يعني: أن داود عليه الصلاة والسلام وعيسى بن مريم دعوا عليهم باللعنة فقالا: اللهم العنهم. وقوله: ﴿عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ داود من أنبياء الله لا شك، لكنه أعطيَ النبوة وشيئًا من الملك ولكن الملك الأتم لابنه سليمان. ﴿دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ﴾ المشار إليه اللعن الذي دل عليه الفعل ﴿لُعِنَ﴾، وهنا عاد الضمير على ما اشتُق منه الفعل أي ذلك اللعن بما عصوا. وقوله: ﴿بِمَا عَصَوْا﴾ الباء هنا للسببية و(ما) مصدرية أي: بعصيانهم، والمعصية خلاف الطاعة، والطاعة: موافقة الآمر باجتناب ما نهى عنه وفعل ما أَمر به. ﴿وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ قوله: ﴿وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ معطوفة على: ﴿عَصَوْا﴾ أي: على صلة الموصول أي: بعصيانهم واعتدائهم، اعتدائهم على مَن؟ اعتدوا على الخالق عز وجل فقالوا في حقه ما لا يليق به واعتدوا أيضًا على المخلوق فقتل بعضهم بعضًا. وقوله: ﴿وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ لو قال قائل: أليس الاعتداء من المعصية؟ فالجواب: بلى، هو من المعصية، لكن قد يخص بعض الأفراد بالذكر لأهميته والعناية به أو لكونه أشد وأقبح، ثم بيّن ذلك العدوان والمعصية قال: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ ﴿لَا يَتَنَاهَوْنَ﴾ أي: لا ينهى بعضهم بعضًا؛ لأن المفاعلة تدل على الاشتراط من الجانبين، والنهي هو طلب الكف على وجه الاستعلاء، هذا هو النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء، وعلى هذا فلو أمر العبد سيده بأمر أو نهاه عن شيء لم يكن آمرًا ولا ناهياً؛ لأنه طلب الكف على وجه الاستعلاء، اللهم إلا أن يَدَّعِي العبد أنه أعلى من سيده فهذه دعوى يعني قد يتخيل أنه أعلى من سيده فيوجّه إليه الأمر والنهي. وقوله: ﴿عَنْ مُنْكَرٍ﴾ المنكر هو ما أنكره الشرع من تفريط في واجب أو انتهاك لمحرم، هذا هو المنكر، وهل المرجع فيها إلى العُرف أو إلى الشرع؟ إلى الشرع؛ لأن الناس قد ينكرون ما ليس بمنكر وقد يقرون ما هو منكر، فالمرجع إذن إلى الشريعة لا إلى عُرْف الناس. وقوله: ﴿عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ كيف يقول: ﴿لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ لأن المفعول لا يتوجه إليه النهي إذ إنه تَمَّ وفُعل، لكن الآية أي عن الاستمرار في منكر فعلوه؛ لأن المنكر الذي فُعل لا يمكن أن يَرِد عليه النهي، إذا قام الإنسان هل أقول: لا تقم؟ لا، إن قلت: لا تقم فالمعنى لا تستمر في القيام، إذن ﴿عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ أي: عن الاستمرار في منكر فعلوه. ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ اللام هنا موطِئة للقسم؛ يعني: والله لبئس، و(بئس) فعل ماض لكنه إنشاء في الواقع؛ إذ إنه فعل يدل على إنشاء الذم، و(نِعْم) تدل على إنشاء المدح. ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (ما) فاعل وهي اسم موصول، و﴿كَانُوا﴾ صلة الموصول، أين العائد على الموصول؟ محذوف، والتقدير: لبئس ما كانوا يفعلونه. * * * أعوذ بالله من الشطيان الرجيم، ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [المائدة ٧٨ - ٨٠] أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾. * في هذه الآية فوائد؛ منها: لَعنُ الكافرين من بني إسرائيل؛ لقوله: ﴿لُعِنَ﴾ واللعن معروف هو الطَّرْد والإبعاد عن رحمة الله عز وجل وعدم التوفيق. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من بني إسرائيل مَنْ هو كافر ومنهم من هو مؤمن؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وهذا هو الواقع فإن منهم مؤمنين كالحواريين لعيسى عليه الصلاة والسلام وكالقوم الذين اختارهم موسى سبعين رجلًا وغير ذلك. * ومن فوائده هذه الآية الكريمة: أن الذي لَعَن بني إسرائيل رسولان كريمان، لُعِنُوا على لسانهما وهما: داود وعيسى بن مريم؛ داود من أنبياء بني إسرائيل لكنه ليس من آخرهم، آخرهم عيسى بن مريم، فيكون لعنتهم في أول الرسالات وفي آخر الرسالات. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات الأسباب؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا﴾ فإن الباء للسببية، وسبق تقرير هذا وبيان اختلاف الناس في الأسباب وبَيَّنَا الصحيح فيها وأن الأسباب نوعان: حسية، وشرعية. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن العدوان على الغَير أشد من مجرد المعصية مع أنه من المعاصي؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئًا، وأنه لا يعاقب أحدًا بعقوبة إلا بذنب؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا﴾. * ومن فوائد الآية التي بعدها: إحجام بني إسرائيل عن النهي عن المنكر؛ لقوله: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾. * ومن فوائدها: أن ترك التناهي عن المنكر سبب للعنة الله وطرده وإبعاده، والعياذ بالله. واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى شروط؛ الشرط الأول: العلم بأن هذا معروف يُؤمر به وهذا منكر يُنْهَى عنه فلا يجوز الأمر بما لا يعلم أنه مأمور به ولا النهي عما لا يُعلم أنه منهيٌّ عنه لما في ذلك من الافتراء على الله وصَدِّ عباد الله عن ما أحل الله لهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب