الباحث القرآني

الشيخ: أحسنت، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قال الله تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات، وهي: القسم المقدر، واللام، و(قد). والضمير في قوله: ﴿أَخَذْنَا﴾ يعود إلى الله عز وجل، وجاء بهذه الصيغة تعظيمًا لنفسه تبارك وتعالى؛ لأنه أعظم العظماء. وقوله: ﴿مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الميثاق هو العهد الثقيل، كأنه وثق به المعاهد. وقد بين الله في هذه السورة ما هو العهد الذي أخذ عليهم، وما هو العهد الذي لهم عند الله، فقال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ هذا العهد الذي أخذ عليهم ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ خمس مواد في هذا الميثاق أخذه الله تعالى على بني إسرائيل، وجعل لهم عهدًا على الله، ما هو؟ ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أخذ الله ميثاق بني إسرائيل. ﴿وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا﴾ رسلًا منهم من كان من أولي العزم؛ كموسى وعيسى، ومنهم من دون ذلك، أرسل الله إليهم الرسل. قد قال بعض العلماء: وتحتمل الآية أن العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل هو ما فطر الله الخلق عليه من توحيده تبارك وتعالى، فيكون في قوله: ﴿لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ بالتوحيد، ﴿وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا﴾ بالرسالة للجمع بين الإيمان بالله والإيمان بالرسل. ﴿أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا﴾ ولم يبين الله تبارك وتعالى عددهم؛ لأن المهم الجنس وليس العدد، فماذا كان موقفهم من الرسل؟ قال الله تعالى: ﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾. زعم بعض العلماء أن في الآية حذفًا والتقدير: وأرسلنا إليهم رسلًا فعصوا. الظاهر أنا أخطأنا. ﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾: (كلما) أداة شرط، وهي مع كونها شرطية تفيد التكرار، انظر إلى قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ [البقرة ٢٠] تفيد؟ * طالب: (...). * الشيخ: والشرطية يعني أنهم لا يمشون إلا إذا أضاء لهم، و﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ هنا كلما جاءهم رسول فريقًا كذبوا، بعض المفسرين زعم أن في الآية حذفا والتقدير: كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم عصوا فريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون. ولكني أرى أنه لا حاجة لهذا التقدير، وإذا لم يكن حاجة للتقدير أيها الإخوة فإن تقديره يكون زيادة لا محل لها. إذن فلا حاجة للتقدير، بل نقول: كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا من الرسل وقتلوا فريقًا من الرسل. فلنعد إلى الآية: ﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ﴾ قلنا: إن (كلما) شرطية تفيد التكرار. ﴿جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى﴾ أي بما لا تريده أنفسهم وتميل إليه، لم يستجيبوا، بل كان رد فعلهم كما يقولون إما قتل وإما التكذيب. ﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا﴾ و(فريقا) هنا مفعول مقدم لـ(كذبوا)، وجملة (كذبوا) جواب الشرط، جواب (كلما)، أي: كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا، ولم يقل: كذبوه؛ لأن منهم من كذب ونجا من القتل، ومنهم من قتل ولن يقتل إلا بعد أن يكذب. ﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ ولم يذكر الله تعالى فريقا ثالثًا، وذلك لقلتهم، وهو الإيمان به، يعني: وفريقًا يؤمنون به لكنه قليل، وكما قلنا لكم فيما سبق: إن القليل لا يعتبر، ولهذا يُهمَل ذِكره دائمًا. ﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا﴾ التكذيب هو رد الخبر، رد خبر المخبر، فإذا قال لك فلان: قام زيد، فقلت: لم يقم، هذا تكذيب؛ لأنك رددت خبره، فهذا هو التكذيب. ﴿وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ القتل معروفة، وأتى بالقتل بكلمة ﴿يَقْتُلُونَ﴾ إشارة إلى استمرار قتلهم للأنبياء؛ لأن الفعل المضارع يدل على الاستمرار، والماضي يدل على الماضي والانتهاء، وربما يكون في هذا -والله أعلم- إشارة إلى أنهم لا يزالون يقتلون الأنبياء حتى آخرهم عليه الصلاة والسلام، وهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. * في هذه الآية فوائد، منها: تأكيد الكلام بالقسم وغيره من المؤكدات، ولو كان المخبر به صادقًا، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، فأكد الله تعالى كلامه بالقسم واللام و(قد). فإن قال قائل: أليس الله تعالى أصدق القائلين بلا توكيد؟ * الطلبة: بلى. * الشيخ: فالجواب: بلى، لكن القرآن الكريم نزل بلغة العرب ومطابقة الكلام لمقتضى الحال؛ لأن مطابقة الكلام لمقتضى الحال هو البلاغة، فإذا كان كذلك فالقرآن أبلغ الكلام، فإذا اقتضت الحال أن يؤكد الكلام أكد، وهنا الحال تقتضي التأكيد، لماذا؟ لتقوم الحجة على بني إسرائيل بأن الله تعالى أخذ منهم الميثاق وانقسموا إلى فريقين. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى أخذ الميثاق على بني إسرائيل ولم يقتصر على ذلك، إذا قلنا: إن المراد بالميثاق الفطرة، بل أرسل إليهم رسلًا تأييدًا للفطرة. * ويتفرع على هذه الفائدة: رحمة الله تبارك وتعالى بعباده، وأنه لم يكلهم سبحانه وتعالى إلى ما علموه بفطرهم، بل أرسل إليهم رسلًا لتؤكد ذلك. * ومن فوائد الآية الكريمة: حكمة الله تعالى بإرسال الرسل أفرادًا وجماعات؛ لقوله: ﴿وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا﴾ بنو إسرائيل فيهم رسل متعددة، فمثلًا إبراهيم ولوط كانا في أيش؟ زمن واحد، ويوسف وأبوه في زمن واحد، ويعقوب وإسحاق في زمن واحد، لكن ببعثة النبي ﷺ لا يمكن أن يكون فيه نبيان أو رسولان، لماذا؟ لأنه خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام. * من فوائد هذه الآية الكريمة: نقض بني إسرائيل للعهد، من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ وحينئذ لم يقوموا بالعهد. * ومن فوائد الآية الكريمة: التحذير مما فعلت بنو إسرائيل من تكذيب الرسل والعدوان عليهم؛ لأن الله لم يقص علينا قصص الأنبياء وقومهم لنعلمها تاريخيًّا فقط، بل لنعتبر بها كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف ١١١]. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن بني إسرائيل لا تؤمن إلا بما وافق هواها؛ لقوله: ﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا﴾ إلى آخره. * ومن فوائدها: أن المتكلمين الذين بنوا أصول عقيدتهم على العقل كالمعتزلة والجهمية والأشعرية وأمثالهم فيهم شبه من اليهود؛ فإنهم إذا أتاهم النص بما لا يرون كذبوه إن استطاعوا إلى ذلك سبيلًا أو حرفوه إن لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلًا؛ لأنهم يرون مرجع ما أخبر الله به عن نفسه أيش؟ العقل، فإذا جاء النص بما لا يهواهم حسب عقولهم كذبوه، كذبوه وأنكروه إن استطاعوا التكذيب، ادعوا أنه كذب أخبار الآحاد الصحيحة الثابتة بالصحيحين وغيرهما، يقولون: أخبار الآحاد لا يمكن أن تثبت بها عقيدة لأنها خبر واحد، وخبر الواحد يلحقه الظن، والظن لا يمكن أن تبنى عليه عقيدة. فإذن يرد أكثر الأحاديث الواردة في الصفات؛ لأن أكثرها أخبار آحاد. ثم نقول لهم: هل تقبلون خبر الواحد في الأحكام كالأوامر والنواهي؟ سيقولون: نعم، نقول: قبولكم ذلك مع أن الخبر يدل على وجوب أو تحريم أو كراهة أو استحباب، وهذا لا بد منه، بمعنى لا بد أن تصلي وأنت تعتقد أنها أيش؟ فريضة واجب، وهذه عقيدة، لكن هذه عقيدة فيما فرض على الإنسان، أو فيما طلب من الإنسان، وتلك عقيدة فيما أثبت الله لنفسه. وعليه فنقول: حتى أخبار الأحكام تستلزم العقيدة؛ إذ إن كل حكم لا بد أن يُعتقَد الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة أو التحريم. المهم أن أهل الكتاب الذين ردوا ما لا تقتضيه عقولهم يشبهون بني إسرائيل الذين إذا جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا. * إذن نقول من فوائد الآية أيضًا: الحذر من هوى النفس، وأن هوى النفس قد يؤدي إلى الهلاك، وإلى فعل ما يقبح شرعًا وعقلًا. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن بني إسرائيل فريقًا منهم كذبوا الرسل وفريقًا يقتلون الرسل ولا يبالون بذلك؛ لقوله: ﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب