الباحث القرآني

ثم قال الله عز وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ وهذا أمرٌ فوق الإيمان والتقوى وهو إقامة التوراة والإنجيل، وذلك بتصديق أخبارهما، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما. والتوراة هي الكتاب المنزل على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى. ﴿لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾، وهذا يشمل الصنفين من أهل الكتاب؛ يعني اليهود والنصارى، كل منهما يجب عليه إقامة التوراة والإنجيل. ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ وهو القرآن الكريم، وقوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ يدل على أن هؤلاء ملزَمون بالإيمان بالقرآن وإقامته، ويدل على أن قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ هو القرآن قولُه تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل عمران ٣، ٤]، وأما قول بعض العلماء: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يشمل حتى الكُتُب السابقة. ففيه نظر؛ لأن الكُتُب السابقة نزلت على من قبلهم لكنهم مكلفون بالإيمان بها. ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ هذا جواب الشرط، جواب الشرط (لو)، وقد سبق البحث في أن (لو) الشرطية تختص بالأفعال، وأن النحويين قدَّروا في مثل هذا ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ﴾ قدَّروا فعلًا وهو: ولو ثبت أنهم أقاموا التوراة، أو: ولو حصل أنهم أقاموا التوراة. وقوله: ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ هذه تشمل عدة أشياء: أولًا: ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ وذلك بنزول الأمطار التي تكون سببًا للنبات الذي يأكلونه، والأمطار تنزل من السماء، ﴿وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ يعني نبات الأرض، فيكون الله تعالى ذكر سببَ النبات والنباتَ، وهذا كقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف ٩٦]، هذا وجهٌ ويدخل في الآية. وقيل: المعنى: ﴿أَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ من ثمار الأشجار؛ لأن الأشجار تكون عالية فوق فيأكلون من ثمارها. ﴿مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ من الزروع ونحوها التي تكون بالأرض ليس لها ساق، فيكون الله تعالى بيَّن أنهم سيبارَك لهم في الأشجار والزروع. وقيل: المعنى: لأكلوا من كل وجهٍ؛ كما تقول: هذا الرجل في نعمة من هامِهِ إلى إبهامه، والمراد أن النعمة تغمره. وعلى كل حال فالآية تشمل هذا وهذا، كل هذه الأوجه يصحُّ أن تفسَّر به الآية، وقد سبق لنا قاعدة في هذه المسألة مهمة؛ وهي أن الآية إذا احتملت معنيين فأكثر على السواء ولا منافاة بينهما فإنها تُحمَل عليهما جميعًا، وهكذا الأحاديث أيضًا. ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾، ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ قسمهم الله تعالى إلى قِسمين، ﴿أُمَّةٌ﴾ هنا بمعنى طائفة، وأُمَّة في اللغة العربية لها معانٍ متعددة جاءت في القرآن؛ فتكون بمعنى طائفة كما في هذه الآية، وتكون بمعنى الدِّين مثل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المؤمنون ٥٢]، وتكون بمعنى الزمن كقوله: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف ٤٥]، وتكون بمعنى الإمام كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل ١٢٠]. ومما جاء بمعنى الدِّين قوله تعالى عن المشركين: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف ٢٢] أي: على مِلَّة، وهذه أوضح من تمثيلنا بقوله: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المؤمنون ٥٢]؛ لأنه يحتمل المعنى: الأُمَّة: جماعة من الناس. على كل حال الأُمَّةُ جاءت في القرآن على أربعة معانٍ؛ الأول: الطائفة، الثاني: الدِّين، الثالث: الزمن، الرابع: الإمام. يقول: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ﴾ أي: طائفة ﴿مُقْتَصِدَةٌ﴾ أي: قائمة بالواجب لا تزيد ولا تنقص. ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ أي: كثير منهم سيئة غير مقتصدة بل هي مُفَرِّطة ومُفْرِطة، ولهذا وَصَف العملَ المشار إليه بقوله: ﴿سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾؛ فكلمة ﴿سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ تبيِّن أن المعنى: وكثيرٌ منهم غيرُ مقتصدٍ بل مسيءٌ في عمله فساء ما كانوا يعملون، وعليه فيكون ﴿سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ ليس خبر ﴿كَثِيرٌ﴾، بل خبرها محذوف؛ أي: كثيرٌ منهم سيِّئ العمل لم يقتصد، فساء ما يعملون. بقي قسم ثالث خصَّ الله به هذه الأُمَّة وهو السابق بالخيرات كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر ٣٢] يعني هذه الأُمَّة -جعلنا الله وإياكم منهم- ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر ٣٢]، فكأنَّ بني إسرائيل السابقُ بالخيرات منهم قليلٌ بحيث لا يُقام له وزن ولا يُذكَر في التقسيم، وإلا فلا شكَّ أن فيهم سابقٌ بالخيرات، منهم من أدرك الإسلامَ فأسلم، هذا سابقٌ بالخيرات، لكن لما كان السابق بالخيرات قليلًا في بني إسرائيل لم نجد له ذِكرًا؛ لأن الذِّكر إنما يكون لمن كان له شأنٌ في التقسيم، ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾. * في هذه الآية فوائد؛ منها: أن إقامة الشريعة في كل زمانٍ سببٌ لكل خير؛ لقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ إلى آخره. * ومنها: أن من أقام الشريعة جُوزِيَ بأمرين: جزاءً في الدنيا، وجزاءً في الآخرة. * ومنها: أنه يجوز ترغيب النفوس البشرية في فعل الطاعات بما يُذكَر من ثواب الدنيا، وانتبه لهذه النقطة، وعلى هذا فلو أن الإنسان عَمِل عملًا صالحًا يريد أن ينال حُسْن الدنيا والآخرة فإنه لا يُلام؛ لأنه لو كان هناك لومٌ ما ذكر الله سبحانه وتعالى ما يحصل من ثواب الدنيا، يعني يبقى ذكره شبيهًا باللغو. ولهذا على العكس المحارم -يعني المحرَّمات- تجد أن الله تعالى جعل لها روادع تردع عنها حتى لا يفعلها الإنسان؛ فتجد الرجل قد يترك الزنى مثلًا خوفًا من العقوبة، ولولا هذا لَمَا كان للعقوبة فائدة. فعلى كل حال نقول: إن الإنسان إذا قام بقلبه إرادة الدنيا لكن لا على أنها هي الباعث للعمل فلا حرج عليه؛ أليس الإنسان يقرأ الأوراد؟ لماذا؟ ليتحصَّن بها من شرور الإنس والجن، تجد الذي يقرأ الورد قد يغيب عن باله أنه يريد أن يتقرب إلى الله بالتلاوة، وإنما يريد التحصن، لماذا؟ لأن النفوس البشرية ضعيفةٌ تحتاج إلى أمرٍ ماديٍّ يساعدها على فعل الخيرات، ويدل لهذا الأصل أن الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض المغازي يجعل سَلَب القتيل لمن قتله تشجيعًا له[[متفق عليه؛ البخاري (٣١٤٢)، ومسلم (١٧٥١ / ٤١) من حديث أبي قتادة.]]، فقول بعض الناس: إنه لا يجوز للإنسان أن يريد بعمل الآخرة شيئًا من الدنيا. هذا غير صحيح، بل قال الله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ [الشورى ٢٠] يعني نعطيه في الدنيا والآخرة. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه يجب على أهل الكتاب أن يُقيموا القرآن كما يجب أن يُقيموا التوراة والإنجيل؛ لقوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، وهو كذلك؛ ولهذا نقول لأهل الكتاب الذين يدَّعون أنهم مؤمنون بالله واليوم الآخر نقول: إنكم إن لم تؤمنوا بالرسول ﷺ ما نفعكم ذلك الإيمان؛ لأنكم لم تُتِمُّوا إيمانَكم. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن القرآن كلام الله؛ لقوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، ووجه ذلك أن القرآن صفةٌ؛ لأنه كلامٌ، والكلام لا بد له من متكلم؛ لأن الصفة لا بد لها من موصوف، وإذا كان لا بد للقرآن من المتكلم به فمَن الذي تكلم به؟ هو الله عز وجل. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات علوِّ الله تعالى؛ لقوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾؛ لأنه إذا كان القرآن صفة الله نازلًا منه لزِم أن يكون الله تعالى عاليًا، وهذا والحمد لله -عند من أنار الله بصيرته ولم تحتوشه الشياطين وكان على الفطرة التي فطره الله عليها- أمرٌ لا يحتاج إلى دليل؛ لأنه أمرٌ فطريٌّ، وهو علوُّ اللهِ تعالى علوَّ الذات، ومرَّ علينا كثيرًا أن المنكرين لعلوِّ الذات انقسموا إلى قِسمين: قسمٌ قال: إن الله تعالى في كل مكان، في السماء والأرض، هو نفسه ذاته في كل مكان. وقسمٌ آخرُ قالوا: لا يجوز أن يُوصَف بأنه فوق ولا تحت ولا يمين ولا شِمال ولا منفصل عن العالم ولا متصل بالعالم. فالأوَّلون غلوا في إثبات صفةٍ من الصفات وهي المعيَّة، والآخرون غلوا فيما يدَّعونه تنزيهًا للرب عز وجل، إذن نأخذ من هذا أنه يجب علينا أن نؤمن بعلوِّ الله عز وجل. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إقامة الدليل على أهل الكتاب أنه يلزمهم أن يؤمنوا بالقرآن؛ لقوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾، فإنَّ لازِمَ كونه ربًّا لهم أن يقوموا بأمره ويلتزموا حُكمه لأنه ربٌّ، والربُّ لا بد له من مربوب، وهو سبحانه وتعالى السَّيد، والإنسان عبدٌ، فلا بد أن يقوموا بمقتضى هذه الربوبية فيؤمنوا بما أنزل الله تعالى على محمد ﷺ. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّ نِعَم الله عز وجل التي في الأرض منها ما هو عالٍ ومنها ما هو نازلٌ؛ لقوله: ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾، وهذا شيءٌ مشاهَدٌ، بل منها ما هو ظاهر ومنها ما هو خفيٌّ؛ فالمعادن التي في الأرض خَفِيَّة، والأشياء الظاهرة على وجه الأرض ظاهرة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: انقسام أهل الكتاب إلى قِسمين: قِسمٌ أيش هو؟ مقتصدٌ، قائمٌ بالواجب، تاركٌ للمحرَّم، لكن ليس عنده سبقٌ إلى الخيرات، وقِسمٌ آخرُ سيِّءٌ مسيءٌ في عمله؛ إما بترك الواجبات وإما بفعل المحرَّمات؛ لقوله: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان منقبة عظيمة لهذه الأُمَّة، وهي أن هذه الأُمَّة قسَّمها الله إلى ثلاثة أقسام: منهم ظالِمٌ لنفسه، ومنهم مقتصدٌ، ومنهم سابقٌ بالخيرات، أمَّا أهل الكتاب فلم يُقسَّموا إلا إلى قسمين: المقتصد، ومسيء العمل ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب