الباحث القرآني
طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة ٦٤].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾، اليهود هم الذين يدعون أنهم أتباع موسى عليه الصلاة والسلام، وسموا بذلك قيل: إنه من قوله تعالى: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف ١٥٦] أي من الهود، وهو الرجوع، وقيل: إنه نسبة إلى أبيهم يهوذا، ولكنها عربت فصارت يهود، وأيًّا كان فالمراد به من ينتسبون إلى موسى عليه الصلاة والسلام.
قالوا: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ أولًا قالوا: ﴿يَدُ اللَّهِ﴾ ولم يقولوا: (يدا) بالألف؛ لأنهم يريدون أن ينقصوا صفة الله عز وجل في ذاتها وفي تصرفاتها، أما في ذاتها فمعلوم أن ذا اليدين أكمل من ذي اليد الواحدة، وأما في تصرفاتها فقولهم: إنها مغلولة؛ أي: محبوسة عن الإنفاق، وذلك أن اليد إما أن تكون مغلولة مضمومة إلى العنق بحيث لا تنبسط حتى تعطي، وإما أن تكون مبسوطة تعطي، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء ٢٩]، ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ أي محبوسة عن الإنفاق، كما قالوا أيضًا في وصف آخر: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ﴾ [آل عمران ١٨١]، فوصفوا الله مرة بالبخل ومرة بالفقر -عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة- لأنهم أهل مال وأهل طمع ويريدون أن يغدق الله عليهم المال على حسب ما يريدون، فإذا لم يكن المال على حسب ما يريدون قالوا: هذا بخل من الله أو فقر منه ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾.
قال الله تعالى: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ لأن الجزاء من جنس العمل فغلت أيديهم، وهذا خبر وليس دعاء؛ لأنه صادر من عند الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى يخبر ولا يدعو، فأخبر أن أيديهم غُلت، أي: حُبست عن الإنفاق، ولهذا نقول: إن أشد الناس بخلًا هم اليهود من جميع الأمم، ولا يمكن لليهودي أن يبذل دينارًا إلا وهو يريد أن يعود عليه بدينارين، أو فلسًا إلا وهو يريد أن يعود عليه بفلسين، لا تفكر في غير هذا؛ لأنهم قد غلت أيديهم.
﴿وَلُعِنُوا﴾ أي طردوا عن رحمة الله وأبعدوا عنها بسبب هذا القول، ولهذا قال: ﴿بِمَا قَالُوا﴾، والباء هنا واضح جدًّا أنها للسببية، وأما (ما) فيحتمل أن تكون مصدرية ويحتمل أن تكون موصولة، فإن كانت مصدرية فالتقدير: ولعنوا بقولهم، وإن كانت موصولة فالتقدير: ولعنوا بما قالوه، ولو جاء الضمير (قالوه) لتعين أن تكون اسمًا موصولًا لكنه حذف، على كل حال سواء جعلناها مصدرية أم موصولة فإنها تفيد أن هذه العقوبة التي حلت بهم بسبب قولهم.
قال الله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾: (بل) هنا للإضراب الإبطالي، أي شيء أبطل؟ قولهم: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ فقال: ﴿بَلْ يَدَاهُ﴾، ولم يقل: يده، لأن له يدين اثنتين سبحانه وتعالى، ﴿مَبْسُوطَتَانِ﴾ يعني غير مقبوضتين فضلًا أن تكونا مغلولتين.
﴿مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾: ﴿يُنْفِقُ﴾ يعني يعطي المال ﴿كَيْفَ يَشَاءُ﴾ أي على أي كيفية شاء؛ إن شاء بسط وإن شاء قدر، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ [الرعد ٢٦] فقد يعطي وقد يمنع على حسب ما تقتضيه الحكمة، وليس على حسب ما يريده الإنسان، ولهذا قد يريد الإنسان كسبًا كثيرًا بعمل من الأعمال ولكنه يُخذَل، وقد يعمل عملًا يسيرًا لا يظن أنه يكسب فيه كثيرًا ويكسب فيه شيئًا كثيرًا.
قال الله تعالى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ (زاد) هنا تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، المفعول الأول: ﴿كَثِيرًا﴾ والثاني: ﴿طُغْيَانًا﴾، وأما قوله: ﴿مَا أُنْزِلَ﴾ فـ(ما) هنا فاعل، يعني أن ما أنزل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يزيد كثيرًا منهم وليس كلهم طغيانًا على عباد الله وفي حق الله وكفرًا بالله عز وجل.
اللام في قوله: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ﴾ اللام واقعة في جواب القسم، وعليه فالجملة مؤكدة، مؤكدة بكم؟ بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، تقديره: والله، واللام، ونون التوكيد، وإنما أكد الله ذلك لأهميته، ولئلا ينكر منكر أن يكون النازل شفاء لما في الصدور -وهو القرآن- يزيد هؤلاء طغيانًا وكفرًا، لكن لا تعجب، إذن طغيانًا في حق من؟ في حق الله وحق العباد، وكفرًا أي بما أنزل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فلن ينتفعوا بما أنزل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ يحتمل أن تكون الواو استئنافية، وأن تكون معطوفة على قوله: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾، ومعناها ﴿أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة﴾ أي وضعناها، ﴿بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ العدو ضد الولي، والبغيض ضد الحبيب، أي أن الله سبحانه وتعالى ألقى بينهم البغضاء في القلوب والمعاداة في الأبدان والأقوال، لا أحد ينصر أحدًا ولا أحد يوالي أحدًا ولا أحد يحب أحدًا، ﴿بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ إلى متى؟ ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ يعني إلى آخر الدنيا، واليهود بعضهم عدو لبعض وبعضهم بغيض لبعض؛ لأن الله تعالى أخبر بأنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وخبره حق ووعده صدق.
﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا﴾، ﴿كُلَّمَا﴾ هذه شرطية، فعل الشرط فيها ﴿أَوْقَدُوا﴾ والجواب ﴿أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾، أي كلما أرادوا الحرب وأوقدوا نارها فإن الله يطفئها ولن تقوم لهم قائمة، بل هم مخذولون.
ويدل لهذا قول الله تعالى في آية أخرى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران ١١٢]، قال العلماء: الحبل من الله: الإسلام، والحبل من الناس: العهد والميثاق. وقيل: الحبل من الناس المساعدة، والسبب الذي يعزون به؛ لأن الحبل يطلق على السبب، كما في قول الله تعالى: ﴿اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران ١٠٣]؛ أي: بدينه الذي هو سبب للسعادة.
إذن نقول: إن الله سبحانه وتعالى بين أن هؤلاء اليهود ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ أي لم ينالوا بها مرادهم، وليس المعنى أنها لن تقوم الحرب، تقوم الحرب، وقد قامت بينهم وبين المسلمين في عدة وقائع لكن النتيجة أن الله يطفئها ولا يحقق لهم ما يريدون من أكل هذه النار لعدوهم.
﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾: ﴿يَسْعَوْنَ﴾ أي يلقون فيها الفساد، وعبر بالسعي إشارة إلى مسارعتهم في هذا، ولهذا كان اليهود أفسد أهل الأرض في الأرض؛ لما لهم من الوقائع، ومن أراد أن يطلع على شيء من ذلك فليراجع كتاب: إغاثة اللهفان لابن القيم رحمه الله، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان.
﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ ولم يقل: لا يحبهم، لإرادة العموم وبيان العلة، فمثلًا ﴿لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ من اليهود وغير اليهود، أيضًا يفيد أن الله لا يحب هؤلاء لأنهم مفسدون، فيكون هنا أعم، كل مفسد فإن الله لا يحبه.
* في هذه الآية الكريمة: بيان عدوان اليهود وأنهم يصرحون بالعدوان والاعتداء حتى في حق الخالق عز وجل؛ لقولهم: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾.
* وفيها أيضًا: أن اليهود يقرون بصفات الله عز وجل الحقيقية؛ لأنه لا يقال: يد أحد مغلولة إلا لمن له يد، فيكون إقرار اليهود بالصفات الخبرية أحسن من إنكارهم، وإن كان اليهود ليس لهم دين، لكن يجب أن يقبل الحق من أي إنسان.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الإشارة إلى حرص اليهود على المال، وجه الدلالة؟ أنه لم يحملهم على هذا القول إلا أيش؟ إلا الجشع والطمع.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تنزيه الله سبحانه وتعالى عن البخل، ووجه ذلك أن الله عاقبهم على هذه المقالة، ولا يعاقب تبارك وتعالى إلا على شيء محرم.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الإشارة إلى بخل اليهود؛ لقوله: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾، وقد سبق قبل قليل أن هذا خبر وليس دعاء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن اليهود ابتلوا بهذين الأمرين: البخل واللعنة، فهم أبعد الناس عن رحمة الله أو من أبعد الناس عن رحمة الله؛ لقوله: ﴿وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾، ولم يبين الله سبحانه وتعالى من اللاعن لإفادة العموم، أن الله يلعنهم ويلعنهم اللاعنون أيضًا، وهذا كقوله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة ٧] بعد قوله: ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة ٧]، ولم يقل: غير الذين غضبت عليهم؛ لإفادة العموم وأن هؤلاء مغضوب عليهم من قبل الله ومن قبل أولياء الله.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات الأسباب، تؤخذ؟
* طالب: (...).
* الشيخ: نعم؛ لقوله: ﴿بِمَا قَالُوا﴾ يعني أن الله سبحانه لم يغل أيديهم ويلعنهم إلا بسبب قولهم، ففيه إثبات الأسباب، والأسباب نوعان: حسية وشرعية، وكلاهما ثابت. من الأسباب الشرعية أن العمل الصالح سبب لدخول الجنة، والكفر سبب لدخول النار، هذا سبب شرعي، من الأسباب الحسية ما نجده في الكون، كون النار محرقة، والصقيع مجمدًا للماء وما أشبه ذلك، هذه أسباب حسية، الأكل سبب للشبع ولا تحصى أفراده.
وهل الأسباب مؤثرة بنفسها؟
الجواب لا، لكنها مؤثرة بإرادة الله عز وجل بما أودع فيها من القوى المؤثرة، وهذا القول هو الذي تدل عليه دلالات الكتاب والسنة والعقل، وأما من قال: إنه لا تأثير لها فقد قال قولًا يضحك منه السفهاء، ومن قال: إنها مؤثرة بطبيعتها فقد قال قولًا منكرًا، أما الأول الذي يقول: إنه لا تؤثر فهذا قولا يضحك منه السفهاء، فيقول مثلًا: إذا أكل إنسان وهو جائع ثم شبع، ليس سبب شبعه الأكل، لكن حصل الشبع عند الأكل، وإلا هو ما أشبعه، وإذا وضعت ورقة في النار فاحترقت فالنار لم تحرقها، إنما احترقت عند النار، سبحان الله! ولو ضربت زجاجة بحجر وانكسرت فالحجر لم يكسرها، انكسرت عنده لا به، هذا شيء أدنى صبي يعرف أن هذا غلط.
والذين قالوا: مؤثرة بطبيعتها أيضًا أشركوا بالله، أثبتوا خالقًا مع الله، وهؤلاء نرد عليهم بأن الله تعالى خالق كل شيء، وبأن الله تعالى قد يغير حقائق هذه الأشياء.
ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال للنار التي أُضرمت، وكانت سعيرًا عظيمًا، ليُلقَى فيها إبراهيم، وأُلقي فيها، قال الله لها: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء ٦٩] فكانت بردًا وسلامًا على إبراهيم. هذا يدل على أن الأسباب لا تؤثر بذاتها، إنما تؤثر بما أودع الله فيها من القوى، وإلا فقد يوجد موانع، حتى الأسباب الشرعية قد يوجد لها موانع، سبب الإرث القرابة مثلًا، وإذا كان قريب مخالفًا لقريب في الدين لم يرث منه.
فالمهم أن نقول: من أثبت أن الأسباب تؤثر بذاتها فهو مشرك، ومن نفى تأثيرها مطلقًا فهو سفيه، بقي أن نقول: تؤثر بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة التي قد تتخلف بإرادة الله ومشيئته.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الجزاء من جنس العمل؛ لقوله: ﴿بِمَا قَالُوا﴾، فإن قوله: ﴿بِمَا قَالُوا﴾ يفيد فحوى الخطاب وقوة الخطاب أنهم إنما عوقبوا بمثل ما فعلوا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات اليدين لله عز وجل؛ لقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾.
* ومن فوائدها: أنهما اثنتان لا زيادة فيهما ولا نقص فيهما؛ لأن المحصور بعدد يتعين ألا يزيد عنه ولا ينقص، فمثلًا عنده دراهم، يحتمل كم؟ ثلاثة وعشرة ومائة وألفًا، لكن ثلاثة دراهم، أيش؟ لا يحتمل زيادة ولا نقصًا، فكل شيء محصور بعدد فإنه يقتضي ألا يزيد عنه ولا ينقص. إذن الله عز وجل له يدان اثنتان، وهذا ما أجمع عليه السلف لدلالة القرآن والسنة عليه.
فإن قال قائل: ألم يقل الله عز وجل: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُون﴾ [يس ٧١]؟ ألم يقل الله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك ١]؟
فالجواب: بلى، لكن الجواب عن الآية الأولى: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ لا يراد بها اليد الحقيقية، بل المراد ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ أي مما عملنا، لكن العرب يطلقون اليد على الفاعل، انظر إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى ٣٠]، ومعلوم أن كسبنا لا يختص باليد، يكون باليد وأيش؟ وبالرجل واللسان والعين والأنف والفرج والقلب، لكن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، فالتعبيرات الموجودة في كلام العرب تكون في القرآن، ولذلك لو أن المراد باليد هنا حقيقة اليد دون الفاعل لكانت الإبل أشرف منا، لأننا نحن خلقنا بأيش؟ بالكلمة، إلا آدم خلقه الله بيده، والإبل على تقدير أن المراد أمر الله تعالى بيده خلقت باليد، أما المفرد فلا ينافي التعدد؛ لأن من القواعد المعروفة أن المفرد المضاف يعم ما يقتضيه مدلوله، فمثلا لو قال رجل: امرأتي طالق، وعنده امرأتان، طلقت المرأتان، إلا إذا أراد واحدة، ولو قال: عبدي حر، وعنده أعبد، أعتق الأعبد كلهم، إلا بنية، فعليه نقول: المفرد لا ينافي التثنية، لماذا؟ لأنه مضاف فيعم، والجمع لا ينافي التثنية؛ لأنه ليس المراد به حقيقة اليد، بل المراد به الذات، يعني مما عمله الله عز وجل، ولكنه جمع، جمعت بـ(أيدينا) للتناسب بين المضاف والمضاف إليه، فإن (نا) موضوعة للجمع أو للتعظيم، فجُمعت الأيدي تعظيمًا لها وتفخيمًا لها ولمراعاة المضاف إليه، بحيث يتناسب الكلام بعضه مع بعض، المهم أن نثبت أن لله يدين.
وهنا أسئلة: هل هما حقيقيتان أو لا؟
الجواب: نعم هما حقيقتان، يدان حقيقيتان، ومن فسرهما بالقوة فقد قال على الله ما لا يعلم، بل ما دل النص على خلافه، ولذلك نقول: كل محرِّف للنص عن ظاهره فقد ارتكب خطيئتين: الأولى: صرفه عن ظاهره المراد به، والثاني: إثبات معنى لم يرد به، أليس كذلك؟ إذن المراد اليدان الحقيقيتان.
سؤال ثان: هل هذان اليدان تماثلان أيدي المخلوقين؟
لا يمكن؛ لأن كل صفة ظاهرها التمثيل، وأقول: ظاهرها باعتبار الظاهر السطحي، فإنه مردود بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى ١١].
السؤال الثالث: هل اليد هذه تأخذ وتَقبِض وتهز أو لا؟
الجواب: نعم؛ لأن ذلك ورد به السنة، بل ورد به القرآن: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر ٦٧] .
هل هاتان اليدان توصفان بأنهما يمين وشمال؟
فيها قولان للسلف، منهم من قال: لا، وأنكر لفظ الشمال الوارد في صحيح مسلم[[(٢٧٨٨ / ٢٤) من حديث عبد الله بن عمر.]]، ومنهم من قال: بلى، وكل منهما له شبهة، لكن الصواب أنها تثبت وأن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ»[[أخرجه الترمذي (٣٣٦٨) من حديث أبي هريرة.]] يعني اليمن والبركة والتساوي؛ لأن المخلوق الذي له يمين ويسار أو يمين وشمال تختلف اليمين أو الشمال، أليس كذلك؟ تختلف بالقوة، حتى بالقوة الجسمية تختلف، لكن يد الله عز وجل -وأريد التثنية- لا تختلف، كلتاهما يمين، وهذا هو الصحيح أننا نثبت الشمال.
هاتان اليدان توصفان بأنهما يمين وشِمال؟
فيها قولان للسلف: منهم من قال: لا، وأنكر لفظ الشِّمال الوارد في صحيح مسلم[[مسلم (٢٧٨٨ / ٢٤) من حديث ابن عمر، ولفظه: « يَطْوِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ ...».]]، ومنهم من قال: بلى، وكلٌّ منهما له شُبْهة، لكن الصواب أنها تثبت، وأن معنى قول النبي ﷺ: «اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ»[[أخرجه الترمذي (٣٣٦٨) من حديث أبي هريرة.]] يعني اليُمْن والبركة والتساوي؛ لأن المخلوق الذي له يمين ويسار أو يمين وشِمال تختلف اليمين والشِّمال، أليس كذلك؟ تختلفان بالقوة، حتى بالقوة الجسمية تختلفان؛ لكن يدا الله عز وجل -وأريد التثنية- لا تختلفان، كلتاهما يمين، وهذا هو الصحيح أننا نُثبت الشِّمال لله، لكن لا على أنها ناقصة عن اليمين، بل كلتاهما يمين.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: كثرة عطاءِ الله وَجُوده؛ لقوله: ﴿مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة ٦٤]، لا يمكن أن تُقبضا بالنسبة للعطاء، بل هما مبسوطتان، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «يَدُ اللَّهِ مَلْأَى سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ». «مَلْأَى» » يعني: مملوءة من الخير والجود والبركة، «سَحَّاءُ» » كثيرة العطاء، «اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» » ظرف؛ يعني: يعطي ليلًا ونهارًا، «لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ» » يعني: لا ينقصها ما أنفق وأعطى سبحانه وتعالى. ثم ضرب مثلًا فقال: «أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» » الجواب: نعم، رأينا لكن ما نحصيه، «فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ» »[[متفق عليه؛ البخاري (٤٦٨٤)، ومسلم (٩٩٣ / ٣٧) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.]] أي: لم ينقص ما في يمينه تبارك وتعالى، إذن يد الله مبسوطة ملأى سحَّاء الليلَ والنهارَ.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن عطاء الله ومنعه تابعٌ لمشيئته؛ لقوله: ﴿يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة ٦٤]، فهذا يعطيه أموالًا كثيرة، وهذا يعطيه صحةً كبيرةً وعقلًا كبيرًا، وهذا بالعكس، وهذا وسط في جميع ما ينفقه الله عز وجل من العطاء المعنوي والعطاء الحسي، ينفق كيف يشاء.
ويجب أن يكون لديك قاعدة: أن كل شيء قَرَنه الله بالمشيئة فإنه مقيَّد بالحكمة؛ يعني ليست مشيئةً مجرَّدةً كما ذهب إليه بعض الجهمية الذين يقولون: إن الله يفعل الشيء لمجرد المشيئة وليس لحكمة؛ لأنه لا يُسأل عما يفعل؛ ما يقال: ويش حِكمة كذا، ولماذا فعل كذا؟
بل نقول: إن كل شيء مقيَّد بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة؛ الدليل ما لا يُحصى مما وصف الله به نفسه بأنه حكيمٌ وأنه أحكم الحاكمين، والمعلوم أن الحكيم لا يصدر عنه فعلٌ إلا لحكمة.
ثانيًا: أن الله قال: ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٢٩) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان ٢٩، ٣٠] ففي هذا إشارة إلى أن مشيئته تابعة لحكمته، وعلى هذا إذا وقع شيء في الدنيا من الحوادث الأرضية والسماوية واستنكرتَه أنت وقلتَ: لِمَ يقع؟ فهنا يجب أن تقول لذهنك الذي فرض هذا السؤال أن تقول أيش؟ لحكمة، لكن لا يلزم أن نحيط بحِكَم الله عز وجل، كما أن جميع صفاته لا نحيط بها فكذلك حكمته؛ قد تكون هناك حكمة خَفِيَّة ما تُعلَم إلا بعد زمان، لكن يجب عليك أيها المؤمن أن تؤمن بأن كل شيء فعله الله عز وجل فإنه لحكمة، لا يمكن أن يكون لعبًا ولا لهوًا، أعرفت؟
فقوله: ﴿كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة ٦٤] إذا عرفتَ هذا وعرفتَ أن مشيئته مقرونة بالحكمة فلا تقُل: لماذا كان هذا السيد في قومه فقيرًا، ولا: لماذا كان لُكَعُ بن لُكَعٍ غنيًّا، لا تقل هكذا، لماذا؟ لأنَّا نعلم أن هذا العطاء وهذا المنع من الله عز وجل وأنه مقرون بالحكمة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من الناس من لا تزيده الآيات إلا طغيانًا وكفرًا؛ لقوله: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ [المائدة ٦٤]، ولا تعجب، القرآنُ ذكر اللَّهُ في آخر سورة التوبة أنه إذا نزل انقسم الناس في قسمين: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة ١٢٤، ١٢٥] ولا تعجب أن يكون شيءٌ واحدٌ لقوم دواءً ولقوم داءً؛ فإن هذا كما هو في المعقولات هو أيضًا في المحسوسات؛ أرأيت المصاب بمرض يمنعه الأطباء مثلًا مِن أكْلِ التمر، إذا أكَلَه مَرِض، وآخر إذا أكَلَه صحَّ، مع أنه التمر واحد. الدُّهن بعض الناس يؤمر بالإكثار منه وبعض الناس يُنهى عنه، وأشياء كثيرة، فلا تعجب إذا كان في المعقولات ما يزيد أقوامًا وينقص آخرين.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: عناد اليهود وأنهم لا يمكن أن يخضعوا لما نزل من السماء؛ لكونه لا يزيدهم ما أُنزِل على محمدٍ إلا طغيانًا وكفرًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الإنصاف والعدل في حكم الله عز وجل؛ لأنه قال: ﴿كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾ ولم يقل: أكثرهم، ولم يقل: كلهم، ولهذا يجب على الإنسان إذا رأى من قومٍ انحرافًا من بعضهم ألَّا يُجري الحكم على الجميع، بل يقول: كثير، أو: بعض، أو: منهم، أو ما أشبه ذلك؛ لأنه لو عمَّمَ مع وجود الاستقامة بالآخرين لكان ظالِمًا من وجهٍ وكاذبًا من وجهٍ آخر، ولهذا تجد الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾ ولم يقل: أكثر، ولا: الجميع.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقٌّ؛ لقوله: ﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾، فكان النبي عليه الصلاة والسلام منَزَّلًا عليه، فهو رسول الله حقًّا.
* طالب: ما هو حد الكثير؟
* الشيخ: الكثير حسب النسبة؛ يعني مثلًا: ثلاثة من عشرة، قليل ولَّا كثير؟
* طالب: قليل.
* الشيخ: لا، كثير؛ ثلاثة من عشرة حوالي الثلث.
ثلاثين من ثلاثين ألف؟ قليل.
* طالب: شيخ، بارك الله فيكم، بعض أهل العلم يقول: إن الحكمة يكشفها الله سبحانه وتعالى للناس يوم القيامة، هل هذا القول صحيح أو عليه دليل؟
* الشيخ: واللهِ ما أدري هذه تؤخذ من أن الله بيَّن أنه يوم القيامة يبين للناس ما ذُكِّروا به، فالله أعلم، لكن من حكمة الله عز وجل أنه جعل بعض الحكم خَفِيَّة؛ لأنه لا تتحقق عبودية الإنسان إلا إذا انقاد لما ظهرتْ حكمته وما لم تظهر، لكن لو كان كل شيء بيِّنًا لكان الأمر واضحًا؛ فإخفاء بعض الْحِكَم لا شك أنه من حكمة الله عز وجل، ولذلك تمام الانقياد أن يقول الإنسان: سمعنا وأطعنا، ولا يسألَ، وقد نبَّهت على مسألةٍ ربما كانت غائبةً عن كثير من الناس، وهي أنه إذا قيل: أَمَر اللَّهُ بكذا، أو: أَمَر الرسول بكذا، قال: أيش الأمر، استحباب ولَّا وجوب؟ ما هو صحيح هذا. كمال العبودية أن تقول: سمعنا وأطعنا، وتفعل.
نعم إذا تورَّطتَ في الأمر وخالفتَ المأمور أو فعلتَ المحظور حينئذٍ لا بأس أن تسأل لأجل إذا كان على سبيل الوجوب تستعتب، وإذا كان النهي على سبيل التحريم تستعتب أيضًا.
سبحان الله! أنا أعتقد أنه ليس من تمام العبودية أنك إذا أُمرتَ تقول: ملزم ولَّا غير ملزم. الآن -ولله المثل الأعلى- لو أبوك قال لك: يا فلان روح اشتري كذا. هل يستقيم أن تقول: ملزم أو غير ملزم؟
* طالب: لا.
* الشيخ: ما يستقيم، ولذلك الصحابةُ أنفسهم رضي الله عنهم لا أعلم الآن أن أحدًا منهم إذا أمر الرسولُ بشيء قال: يا رسول الله، أعَلى سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب؟ أنا لا أعلم، وإنما يستفسرون أحيانًا، والاستفسار في موضع الإجمال حقٌّ؛ القلم لما أَمَره رب العرش فقال: اكتُبْ. قال: ماذا أكتب؟[[أخرجه أبو داود (٤٧٠٠)، والترمذي (٣٣١٩)، واللفظ لأبي داود، من حديث عبادة بن الصامت.]]
* طالب: بارك الله فيك يا شيخ، الحصر بعدد قلنا: إنه يتعيَّن ألَّا يزيد ولا ينقص، هل مثله قول النبي ﷺ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٦٠)، ومسلم (١٠٣١ / ٩١) من حديث أبي هريرة.]]؟
* الشيخ: لا، لولا ورود أحاديث (...) هذا، ثم أيضًا العدد في «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ» هذا من باب حصر الأوصاف ما هو بحصر الأعيان.
* الطالب: مثال غير السبعة يا شيخ.
* الشيخ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٧٢)، ومسلم (١٠٨ / ١٧٣) من حديث أبي هريرة.]] هذا ورد لعدة أوصاف، أكثر من ثلاثة.
* طالب: أحسن الله إليك، قلت ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [المائدة ٦٤] قلنا: خبر، ليس..
* الشيخ: ليس دعاء.
* الطالب: نعم، عللنا وقلنا (...) فهل هذا تكون قاعدة (...)؟
* الشيخ: إي نعم، هذا هو الأصل: أن ما أخبر الله به فهو خبر عن نفسه ووقوعه -وقوع الشيء- إلا إن دل دليل؛ هذا ربما يكون دليلًا على أن الله علم العباد أن يدعوا، وأما أن الله تعالى يسأل نفسَه أن يفعل فلا يجوز.
* طالب: لما قرأ الأخ وقف بين قول الله: ﴿وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾ [المائدة ٦٤] وقف هنا، ثم قال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة ٦٤]، وهنا في القرآن علامة أن الأفضل أن نقف، لكن ما يمنعني من الاتصال يا شيخ؟
* الشيخ: أولًا أن حسب القواعد المعروفة عليها علامة الوقف اللازم، أنت الآن تنكر وقفها أو عدم وقفها؟
* الطالب: لا،لم أجزم، قلت: (...) وَقَف، أبغي أعرف لماذا يا شيخ وَقَف؟
* الشيخ: لماذا وَقَف، أحسنت، وقف لأن الكلام اللي بعد ليس من كلام اليهود.
طبعًا أنا أقصد ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ -غُلَّتْ أيديهم- أما ﴿لُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾ فهو مكتوب عليه وقف لازم؛ ووجه ذلك أن الأول خبر عما كان لليهود، والثاني خبر عن صفات الله تبارك وتعالى ولذلك قُرِن بـ (بل).
* طالب: شيخ، أحسن الله إليكم، مزيد استفسار عن السؤال الأول، وهو بأن إذا ذُكِر الشيء بعدد فإنه يتقيد بهذا العدد، فلو كنا في مجال المناظرة قيل: إن هذا غير صحيح بدليل حديث السبعة وحديث الثلاثة، فكيف يكون الجواب على..؟
* الشيخ: الجواب على هذا: جاءت الأدلة بهذا؛ بالزيادة، يعني لولا الأدلة لقلنا: ما فيه أحد إلا هؤلاء السبعة.
* طالب: (...) الرسول ﷺ فأنكروها بعض من يدَّعي الإسلام يا شيخ، هذا يا شيخ يكبر في النفس، ويتصور الإنسان أنه شيء عظيم يا شيخ، وما أدري يا شيخ (...)؟
* الشيخ: (...) لا، هو مسلم إن شاء الله، لكن الإنكار نوعان: إنكار جحد وتكذيب؛ هذا كفر، وإنكار تأويل وتفسير؛ هذا ما يَكفُر، اللهم إلا إذا كان لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصح هذا التأويل فربما يكون.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة ٦٥، ٦٦].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ما زلنا في بيان الفوائد المستنبطة من الآيات السابقة وهي قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة ٦٤]، ووصلنا فيها إلى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة ٦٤] أليس كذلك؟
* ففي هذه الآية من الفوائد: إثبات أن المحبة ثابتة لله؛ أن الله يحب، وهي محبة حقيقية أثبتها أهل السُّنَّة والجماعة على قاعدةٍ معروفةٍ وهي: وجوب إجراء النصوص على ظاهرها في باب صفات الله، وأن الله يحب.
وهل هو يُحَب؟
الجواب: نعم، ويُحَب، وقد صرَّح الله بذلك في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة ٥٤]، فالله تعالى يُحَب على ما له من صفات الكمال، وعلى ما له من أفعال الإحسان والإنعام، ولهذا جاء في الأثر: «أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنَ النِّعَمِ»[[أخرجه الترمذي (٣٧٨٩) من حديث ابن عباس. ]]. والإنسان لو أن أحدًا من الناس أحسن إليه لأحبه لإحسانه، فكيف بالخالق الذي أوجده وأمدَّه وأعدَّه، فهو أَوْلى أن يكون محبوبًا.
أما كونه يُحِب فنَعَم، جاء ذلك في القرآن الكريم وكذلك في السنة النبوية، محبة الله تارةً تُضاف للعَمَل، وتارةً للزمان، وتارةً للمكان، وتارةً للعامل، كل ذلك جاء؛ «أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا»[[أخرجه مسلم (٦٧١ / ٢٨٨) من حديث أبي هريرة بلفظ: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا».]]، «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ»[[أخرجه البخاري (٩٦٩)، وأبو داود (٢٤٣٨) من حديث ابن عباس، واللفظ لأبي داود.]] يعني عشر ذي الحجة، «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٢٧)، ومسلم (٨٥ / ١٣٧) من حديث عبد الله بن مسعود.]]، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة ٢٢٢]، والآيات في هذا كثيرة ومتنوعة.
وهل محبة الله هي ثواب الله أو إرادة ثوابه، أو هي صفة زائدة على ذلك؟
الجواب: الثالث، خلافًا لمن فسَّر المحبة بالثواب أو بإرادة الثواب ممن ينكرون قيام المحبة بالله عز وجل، ولا شك أن هؤلاء ضالون؛ لأنهم حتى إذا قلنا: إنها ثواب، يلزم من الثواب المحبة؛ لأن الله لا يُثيب إلا من يحبه، حتى لو فسرناها بإرادة الثواب يلزم منها المحبة أيضًا؛ لأن الله لا يريد أن يُثيب أحدًا إلا حيث يحبه.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تحريم الفساد في الأرض؛ لقوله: ﴿لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾، وهكذا كل شيء نفى الله محبته فإنه حرام؛ فالفساد في الأرض حرام، ولكن بماذا يكون الفساد في الأرض؟ هل هو بهدم البيوت وتخريب الأنهار وما أشبه ذلك؟
الجواب: لا، الفساد في الأرض هو المعاصي، هذا هو الفساد في الأرض، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم ٤١]، لكن هدم البيوت بغير حقٍّ من المعاصي فيكون من الفساد في الأرض من هذه الناحية، وعلى هذا فنقول: كل من عصى الله فقد أخذ مِعولًا يخرِّب به الأرض.
* من فوائد الآية الكريمة: أن الشيء إذا ثبت لوصفٍ ثبت ضدُّه لضدِّ ذلك الوصف، فعلى هذا نقول: إذا كان الله لا يحب المفسدين فإنه يحب المصلحين، ولا شك أن الله يحب المصلحين؛ قال الله تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء ١٢٨]، وقال تعالى في اليتامى: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ [البقرة ٢٢٠]، فالصلح خير يحبه الله عز وجل ويرغِّب فيه ويحثُّ عباده عليه، الإصلاح كذلك خير.
والإصلاح أنواعٌ متعددة، والناس بالنسبة للأرض على ثلاثة أقسام: صالح، وصالح مُصلِح، وفاسد مفسِد، وإن شئت زِدْ رابعًا: فاسد غير مفسد؛ حتى تتم الأقسام، لكن يلزم من الفاسد أن يكون مفسدًا ولذلك نقتصر على ثلاثة أقسام فنقول: الناس بالنسبة للأرض ثلاثة:
صالح لكنه لا ينفع إلا نفسَه، وهذا يكون في كثيرٍ من العباد، كثيرٌ من العباد صالح في نفسه لكن لا يحاول أن يُصلِح غيره؛ يرى المنكر أمام عينه لا ينهى عنه، يرى التفريط في المعروف أمام عينه لا يأمر به، وهكذا، هذا نقول: إنه صالح وإن كان أيضًا صلاحه فيه نقص؛ لأن من تمام الصلاح أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
الثاني: صالح مُصلِح، هذا خير الأقسام؛ هو صالح لنفسه ومصلح لغيره، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود ١١٧]، لم يقُل: صالحون، لا بد من أن يكون في الأرض مصلح.
والثالث: الفاسد، الفاسد مفسِدٌ في الأرض، حتى لو فُرِض أنه لم يدعُ إلى فساده وإلى معصيته فإنه مفسد؛ لأنه سببٌ لفساد الأرض.
* من فوائد الآية الكريمة: أن القرآن نزل من عند الله؛ لقوله: ﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾، وإذا ثبت هذا لزم عليه أمران عظيمان: الأول: أن القرآن كلام الله؛ لأن القرآن ليس ذاتًا قائمة بنفسها، ولكنه وصفٌ لا يقوم إلا بموصوف -أو إلا بمتَّصف به- وعلى هذا فيفيد هذه الفائدة العظيمة أن القرآن كلام الله، وهذا هو الذي أجمع عليه سلف الأُمَّة والأئمة، وجرتْ فيه الْمِحَن على الإمام أحمد وغيره من علماء السُّنة، فإن من الناس من قال: القرآن ليس كلامَ الله بل هو مخلوقٌ من جملة المخلوقات. ولا شك أن هذا القول يستلزم منه بطلان الشريعة تمامًا؛ لأننا إذا قلنا: إنه ليس كلام الله، لزم أن يكون إذا كُتِب مجردَ نقوشٍ وزخرفةٍ خلقها الله عز وجل على هذا الوصف، وإن سُمِع فهو مجرد أصوات تُسمع لا تدل على شيء كما يُسمع الرعدُ وهبوبُ الرياح وغيرها، ولذلك نقول: إنه يستلزم على القول بأن القرآن مخلوق بطلان الشريعة تمامًا، بطلانُ الأمر والنهي؛ لأنه لا أمر ولا نهي، أقم شيئًا مخلوقًا على هذا الوصف، على هذه الصفة فقط، لا يدل على أمر، ﴿لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء ٣٢] كذلك، شيء مخلوق على هذه الحروف كما تنقش الباب مثلًا، إن سُمع فهو صوت، مجرد صوت، كما نسمع الآن أصوات الرعد وأصوات أزيز الرياح في الأشجار وغير ذلك، فحينئذٍ لا أمر ولا نهي ولا خبر، وهذا واضحٌ جدًّا، لكن من أعمى الله قلبَه لا يعرف أن هذا لازم.
* كذلك الفائدة الثانية مما يفيده قوله: ﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ الفائدة الثانية: علوُّ الله عز وجل؛ لأنه إذا كان القرآن كلام الله وهو صفة من صفاته وهو نازل؛ لزم أن يكون المتَّصف به عاليًا، وإلا فلا معنى للنزول، فيكون فيه دليل على إثبات علو الله عز وجل.
والناس في هذه الصفة على ثلاثة أقسام:
قِسْم أثبت علوَّ الله حقًّا.
وقِسم آخر قال: إن الله لا يجوز أن يوصف بالعلو ولا بالسفول، ولا يجوز أن نقول: إنه فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال. وهذا تعطيل محض، ولو قيل لأحد: صف العَدَم ما وصفه بأدق من هذا الوصف الذي وصفوا به الرب عز وجل.
القسم الثالث قالوا: إن الله تعالى في كل مكان، ولا يجوز أن نقول: إنه في العلو، وكيف يجوز أن نقول: إنه في العلو، وهو يقول: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد ٤]، ويقول: ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ [النساء ١٠٨] وأشباه ذلك من آيات المعية، فلا يجوز أبدًا أن نقول: إن الله عالٍ بنفسه، بل العلو الذي أُثبِتَ لله علو المعنى، وأما المكان فهو في كل مكان. وهؤلاء حلولية الجهمية، يقولون: إنه في كل مكان، والعجب أن عليه كثيرًا من الناس الذين نتصل بهم في المسجد الحرام ويسألون من غير السعوديين، السعوديون -نحمد الله- لا يعرفون هذا القول، أكثر العامة لا يعرفون هذا القول. ويقولون: إن الذي يقرِّر علينا علماؤنا أن الله في كل مكان. ولا شك أن هذا قولٌ إذا تأمله الإنسان وجده في غاية البطلان لمخالفة القرآن والسنة والعقل والفطرة والإجماع، وهل يمكن أن يرضى أحد أن يجعل الخالق عز وجل في الحشوش والأماكن القذرة؟! لا يمكن، ولازم قولهم أن يكون كذلك؛ في كل مكان: في كل مكان.
أما القول الأول الذي نسأل الله تعالى أن يميتنا عليه ويبعثنا عليه فهو أن الله تعالى بذاته فوق كل شيء، لكنه محيطٌ بالخلق فكأنه معهم في أمكنتهم، ولا مانع من أن نقول: هو فوق كل شيء وهو معنا لكن ليس في مكاننا. ولهذا أمثلة ذكر شيخ الإسلام رحمه الله مثالًا في الواسطية ومثالًا في الحموية قال: إن العرب يقولون: ما زلنا نسير والنجم معنا. وفي الواسطية: ما زلنا نسير والقمر معنا. وهذا أسلوب عربي واضح، وكل واحدٍ يخاطب بهذا الخطاب أو يتكلم به لا يمكن أن يعتقد بأن القمر في الأرض ولا أن النجم في الأرض، وإذا كان هذا مخلوق من المخلوقات يحيط بنا وهو معنا وهو فوق، فما بالك بالخالق الذي حدَّث عنه النبي عليه الصلاة والسلام «بأنَّ السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسيِّ كحلقة أُلقِيَتْ في فلاةٍ من الأرض، وأن فضل العرش على الكرسيِّ كفضل الفلاة على هذه الحلقة»[[أخرجه ابن حبان في صحيحه (٣٦١) من حديث أبي ذر. ]]، فما بالك بالخالق سبحانه وتعالى.
فعلى كل حال نحن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء حقًّا؛ أما صفاته فما أحدٌ من المسلمين -فيما نعلم- ينكر علو الصفات، كلهم يقولون: إنه كامل الصفات، لكن يبقى النظر: هل كلهم يُثبتون كلَّ ما ورد من الصفات؟
لا، لكن مَن أثبت له صفةَ كمالٍ فيقول: إنه عالم بهذه الصفة الكاملة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: عناية الله سبحانه وتعالى بالرسول عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لقوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾؛ فإن هذه الربوبية خاصةٌ تقتضي العناية التامَّة والأقوى والأشد.
واعلم أن الربوبية نوعان: عامَّة وخاصَّة، اجتمعا في قوله تعالى عن السحرة: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الأعراف ١٢١، ١٢٢]؛ العامة: ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: كل مَن سِوى الله فهو عالَم، وعلى هذا يكون ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: برب الخلق كله.
﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ هذه؟
* الطلبة: هذه خاصة.
* الشيخ: نعم، هذه خاصة، كما أن العبودية كذلك عامة وخاصة:
فالعبودية الكونية عامة، ومنها قول الله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣]؛ كل مَن في السماوات بالعبودية الكونية عبد لله؛ هل أحد يستطيع أن يمنع المرض إذا قدَّره الله عليه؟ أبدًا. وهل أحد يستطيع أن يرُدَّ مَلَك الموت إذا جاء لقبض روحه؟ أبدًا. ولهذا تحدَّى الله هؤلاء فقال لهم: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الواقعة ٨٣ - ٨٧]، ما يمكن، لو اجتمع الخلق كلهم أن يردوا هذه الروح التي بلغت الحلقومَ ما استطاعوا، إذن فالكلُّ عبدٌ للهِ بهذا المعنى؛ أي: بالعبودية الكونية.
أما القِسم الثاني؛ العبودية الخاصة، فهي العبودية الشرعية التي منها قول الله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ إلى آخره [الفرقان: ٦٣].
* من فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى ألقى العداوة والبغضاء بين اليهود؛ لقوله: ﴿أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ [المائدة ٦٤]، وهذا كلامٌ حقٌّ صِدقٌ ليس عندنا فيه شكٌّ، وما نحسبه نحن من اجتماعهم فعلى خلاف الواقع، ولهذا قال الله تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر ١٤]، لا تظن أنهم متفقون أبدًا، ولذلك هم أحزاب شتَّى الآن، وحتى داخل الحزب متفرق؛ لأنهم لا يمكن أن يجتمعوا وقد ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء، لكن لاحِظ أن العدوَّينِ إذا كان لهما عدوٌّ ثالثٌ اجتمعا عليه لمقابلة العدو الثالث، فاجتماعهم الآن -اليهود- ليس لأنهم متحابون متآلفون أبدًا، ولا يمكن أن نصدِّق والله يقول: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، لكنهم اجتمعوا لهدفٍ واحدٍ ومصلحةٍ واحدةٍ ضدَّ عدوٍّ واحدٍ للجميع، وهذا الاجتماع لا شكَّ أنه اجتماعٌ ظاهريٌّ فقط، مقصود لغيره وليس مقصودًا لذاته.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن العداوة والبغضاء بين اليهود سوف تستمر، لكن إذا آمنوا تزول أو لا؟ تزول بلا شكٍّ؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام للأنصار: «كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي، وَمُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللَّهُ بِي»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٣٠)، ومسلم (١٠٦١ / ١٣٩) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم. ]]، والأنصار كما تعلمون بينهم عداوات وبغضاء في الجاهلية.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات يوم القيامة، وهو اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، وسُمِّي بذلك لوجوه ثلاثة؛ الوجه الأول: أن الناس يقومون فيه من قبورهم لرب العالمين، والوجه الثاني: أنه يُقام فيه العدل كما قال تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [يس ٥٤] وقال: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [الأنبياء ٤٧]، والثالث: أنه يقام فيه الأشهاد؛ تُستشهد الرسل، ثم الأُمَم، ثم الجلود والأعضاء، ويتبين الأمر وينكشف، ويظهر ما في الصدور، فلذلك سُمِّي يوم القيامة.
هناك قيامةٌ صُغرى لكنها لا تُراد في هذه الآية، وهي موت الإنسان؛ فإن كلَّ من مات فقد قامت قيامته؛ لأنه انتهى من الدنيا ودخل في عالم الآخرة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: البُشرى التامَّة للمسلمين بأن اليهود لن تقوم لهم قائمة في الحروب؛ لأنهم كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ولم ينالوا بها مقصودهم، وإن كانوا قد ينالون بعض الشيء لكنهم لن ينالوا المقصود الذي يريدونه بإشعال نار الحرب.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل؛ لقوله: ﴿أَطْفَأَهَا﴾، و﴿أَطْفَأَهَا﴾ متى يكون؟
* الطلبة: بعد إيقادها.
* الشيخ: بعد إيقادها، وهذا فِعلٌ متجدِّد، وفيه ردٌّ واضحٌ على الذين منعوا قيام الأفعال الاختيارية بالله وقالوا: إن الله لا يمكن أن يأتي، ولا يستوي على العرش، ولا يتكلم بإرادته ومشيئته، بل كلامه معنًى قائم بنفسه لا يتعلَّق بإرادته، ولا يضحك، ولا يفرح، ولا يغضب. إلى آخر ذلك، كل صفةٍ تتجدَّد فهي عندهم مُلْغاةٌ منتفيةٌ عن الله، حُجَّتهم واهيةٌ جدًّا وداحضةٌ عند الله؛ يقولون: إن الأفعال الاختيارية التي تتجدَّد لا تقوم إلا بحادثٍ. بناءً على قاعدةٍ قاعدةٍ في الحقيقة، هي قاعدةٌ غير قائمة؛ يقولون: الحادث لا يكون إلا بحادث. من أين لهم هذا؟! الحادث يكون بالحادث والقديم، حوادث أفعالنا نحن حادثة قائمة بحادث، لكن حوادث البارئ جل وعلا حادثة لكنها قائمة بأزليٍّ ليس بحادث.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: محبة اليهود للفساد في الأرض وسعيهم في ذلك سعيًا حثيثًا؛ لقوله: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾، ومن شاهد الواقع الآن عرف أن الآية منطبقةٌ تمامًا على يهود الوقت الحاضر أنهم يسعون في الأرض فسادًا بكل ما يستطيعون؛ إن استطاعوا بأنفسهم أو بعبيدهم الذين هم عبيدٌ لهم، ولهذا نقول: اليهود الآن عابد ومعبود، اليهود حقيقةً هم عبيدٌ ومُعَبِّدون؛ لأنهم يسخِّرون الدول الكبرى أن تفعل ما فيه مصلحتهم، وهم أيضًا أذناب للدول الكبرى؛ لأن الدول الكبرى آمنةٌ منهم وتريد أن تلقيهم في مكان ما من أجل أن يُفسدوا في الأرض، فهُمْ يسعون في الأرض فسادًا في كل وقت، نسأل الله تعالى أن يكبتهم ويخيِّبهم.
{"ayah":"وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ یَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَلُعِنُوا۟ بِمَا قَالُوا۟ۘ بَلۡ یَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ یُنفِقُ كَیۡفَ یَشَاۤءُۚ وَلَیَزِیدَنَّ كَثِیرࣰا مِّنۡهُم مَّاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰاۚ وَأَلۡقَیۡنَا بَیۡنَهُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ كُلَّمَاۤ أَوۡقَدُوا۟ نَارࣰا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادࣰاۚ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق