الباحث القرآني

ثم قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ مبيِّنًا حال هؤلاء الذين أوتوا الكتاب، وكذلك الكفار. ﴿إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ أي: دعوتم الناس إليها بالصفة المعروفة، ولما قَدِم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة، وصار للأمة دولة إسلامية، ومجتمع كبير، تشاوروا فيما بينهم كيف يجمعون الناس إلى الصلاة؟ فمنهم من اقترح أن توقَد نيران إذا دخل الوقت يُعلَم بها دخول الوقت، ورُفِض هذا الاقتراح؛ لأن هذا من عادة المجوس، ولأن هذه النيران في النهار لا تفيد شيئًا. اقتُرِحَ ناقوس، فرُفِض هذا الاقتراح؛ لأن هذا من علامة صلاة النصارى. اقتُرِح بوق يُنْفَخ، ويكون له صوت، رُدَّ هذا الاقتراح، لماذا؟ لأنه من شعار دين اليهود. ويَسَّرَ الله عز وجل أن أحد الصحابة وهو عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه «رأى في المنام رجلًا معه ناقوس، أو بوق، فقال له: أتبيع هذا؟ قال: لأي شيء؟ قال: لأُعْلِن به للصلاة. فقال: ألا أدلك على خير من هذا؟ ثم أسْمَعَه الأذان، أسمعه الأذان كله، فلما أصبح غَدَا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأخبره، فقال: «إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ»، وأقرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأمر عبد الله بن زيد أن يُلقِيَه إلى بلال، وعلَّلَ ذلك فقال: «إِنَّهُ كَانَ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ»[[أخرجه أبو داود (٤٩٩)، وابن ماجه (٧٠٦) من حديث عبد الله بن زيد.]]. ولم يقل: أَلْقِهِ، ويسكت؛ لأنه لو سكت لكان في قلب عبد الله بن زيد شيء؛ إذ إنه هو الذي رآه، فكان أولى الناس بالقيام به، لكن من عادة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يبين حكمة الشيء حتى يطمئن القلب، فبَيَّن أنه أندى صوتًا منه، فنادى به. ونعم النداء! تعظيم لله عز وجل، شهادة له بالتوحيد، شهادة للرسول بالرسالة، دعوة للصلاح، دعوة للفلاح، ختام بالتعظيم، والتوحيد، أي دعوة أحسن من هذا؟ لا شيء، دعوة عظيمة، ولهذا يقول مجيب المؤذن: «اللهم رب هذه الدعوة التامة»[[ أخرجه البخاري (614) من حديث جابر بن عبد الله ]]. حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام جعلها من شعار البلاد الإسلامية، «فكان إذا نزل بقوم انتظر، فإذا أَذَّنُوا ترك قتالهم»[[ أخرجه البخاري (2943) من حديث أنس بن مالك ]]؛ لأن الأذان من شعائر الإسلام الظاهرة التي لا يجوز للمسلمين أن يدعوها، ولا يجوز لغير المسلمين أن يهجم على بلد يؤذَّن فيه، وربما يكون هذا هو علامة كون الدار دار إسلام -أن يُعْلَى فيها الأذان- لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا سمع الأذان كفَّ عنهم، وعلم أن بلادهم بلاد إسلام، ويكون هذا هو الفيصل في معنى دار الإسلام. الآن ﴿إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ بماذا؟ بالأذان. وقوله: ﴿إِلَى الصَّلَاةِ﴾ كلمة عامة تشمل: الجمعة، والفرائض الخمس، وهل نقول: وغيرها؟ الجواب: لا، لا نقول: وغيرها، إذن هو عام أريد به الخاص، وهو ليس العام الذي خُصِّص؛ لأن العام الذي خُصِّص أريد عمومه أولًا، ثم ورد عليه التخصيص ثانيًا، والعام المراد به الخاص لم يُرَد عمومه أصلًا، أفهمتم؟ وعلى هذا فنقول: الصلاة هنا عام أريد به الخاص. الاستسقاء لا يؤذَّن له مع أنه يُجتَمع له، العيدان لا يؤذن لهما مع أنه يُجتَمع لهما، الكسوف لا يؤذن له مع أنه يُجتَمع له، قيام الليل في رمضان لا يؤذن له مع أنه يُجتَمع له. لكن الكسوف اختص بدعوة خاصة حتى لا يلحق بالفرائض التي تتكرر كل يوم، وذلك بأن يقال: الصلاة جامعة؛ لأنه يأتي بغتة والناس غافلون. إذن ﴿إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ ست صلوات، صح؟ الصلوات الخمس، والجمعة. ﴿اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا﴾، أي: جعلوا يسخرون ويستهزئون. و﴿هُزُوًا﴾ نسيت أن أنبه أن فيها ثلاث قراءات: ﴿هُزُوًا﴾ بضم الزاي إذا كانت بالواو، ﴿هُزْءًا﴾ بسكون الزاي والهمز، ﴿هُزُؤًا﴾ بضم الزاي والهمز، وسبق معنا الفرق بين الهزو واللعب. قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾، ﴿ذَلِكَ﴾ المشار إليه قولهم، أو اتخاذهم؟ اتخاذهم إياها هزوًا ولعبًا. ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ الباء للسببية، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾، أي: بسبب أنهم، ﴿قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾، أي: ليس لهم عقول، أي عقول راشدة، لكن لهم عقول مدركة، والفرق بينهما: العقول المدركة هي العقول التي يترتب عليها التكليف، وهو الوصف الذي تجدونه في كتب الفقهاء، من شروط الصلاة مثلًا: التمييز، والعقل، هذا عقل إدراك. لكن عقل الإرشاد هو الذي انتفى عن كل كافر، كل كافر فليس عاقلًا، عقل أيش؟ عقل إرشاد، ليس له عقل يرشده، عنده ذكاء، وعنده إدراك الأمور، ويعرف من الواقع ما لا يعرفه كثير من المسلمين لكنه ليس بعاقل، لماذا؟ لكفره بالله عز وجل، والعقل يهدي إلى الحق. إذن ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾، أي: ليس عندهم عقل إرشاد، ولو عقلوا لعظَّمُوا هذه الصلاة العظيمة التي لا نعلم أن في دين الإسلام شيئًا أعظم منها، ما عدا التوحيد والرسالة؛ لأنها اختصت بخصائص عظيمة. ولا يخفى على كثير منكم أنها فُرِضَت من الله عز وجل إلى رسوله بدون واسطة، ولم تُفرَض على الرسول وهو في الأرض، بل في أعلى مكان يصله البشر، وأيضًا لم تُفرَض عليه بهذا القدر الكمِّي، يعني: خمس صلوات، بل فُرِضَت خمسين صلاة، تستوعب كثيرًا من الوقت، إن لم يكن أكثر الوقت يقظة. وهذا يدل على محبة الله تبارك وتعالى لها، ولما كان الله يحبها كانت قرة عين الرسول ﷺ، قال النبي ﷺ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»[[أخرجه النسائي (٣٩٤٠) من حديث أنس.]]، اللهم صَلِّ وسلِّم عليه. هذه الصلاة العظيمة هل يمكن لأي عاقل عقل إرشاد أن يتخذها هزوًا ولعبًا؟ أبدًا، بل يتخذها مقام التعظيم والاحترام؛ لأن الإنسان إذا جاء يصلي فمن يناجي؟ ومن يقف بين يديه؟ يقف بين يدي الله، ويناجي الله، ليس بينه وبينه أحد، يقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة ٢]، فيقول: «حَمِدَنِي عَبْدِي»[[أخرجه مسلم (٣٩٥ / ٣٨) من حديث أبي هريرة.]]. ثم يأتي برياض، رياض من العبادات؛ قرآن، تكبير، تعظيم لله، انحناء لله، سجود لله، يعني روضة عظيمة من رياض العبادات، فكيف يمكن لعاقل أن يتخذها هزوًا ولعبًا، والله لو أن الإنسان منا قيل له: الآن عندك مقابلة مع الملك، ولَّا مع الرئيس، ماذا يكون؟ يتأهَّب، ويتجمَّل، ويتطيَّب، ويتخذ لذلك عُدَّة واستعدادًا، فكيف إذا كان يريد أن يقف بين يدي الله عز وجل، اللي هو أحب الأشياء إليه، سيكون لهذا تأثير عظيم لو كنا نعقل، لكن العقل عندنا قليل يا إخوان. نحن نعرف أن الواحد نصف الاثنين، هذا عقلًا، لكن العقل اللي هو عقل إرشاد قليل، بل كثير من المسلمين اليوم -ونسأل الله أن يعفو عنا وعنهم- يأتون إلى الصلاة، ويقيمون الصلاة، جسمًا لا روحًا، ولا تتسلط عليه الشياطين بالهواجس إلا إذا دخل في الصلاة، ثم إذا سلَّم من الصلاة فكأنه سحاب استدبرته الريح، كل الهواجس هذه تروح، ولا يجد لها فائدة أيضًا. فلذلك كان الذين يتخذون الصلاة هزوًا ولعبًا لا شك أنهم قوم لا يعقلون، والذين يعظِّمونها، ويُنْزِلُونَها منزلتها هم أهل العقل والرشاد. * في هذه الآية الكريمة: بيان لشدة وقع الصلاة في أعدائنا الكفار؛ اليهود والنصارى، وجه ذلك أنه لما ذكر في الآية التي قبلها أنهم يتخذون ديننا هزوًا ولعبًا خَصَّ الصلاة بعد هذا، وتخصيص الشيء من العموم يدل على العناية به، وعلى شرفه على العموم. * ومن فوائد الآية الكريمة: مشروعية النداء للصلاة؛ لقوله: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾، وكما قلنا: إن النداء يعني بذلك الأذان. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن النداء للصلاة أمر معلوم بالضرورة من الدين؛ لقوله: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ فكأن هذا أمر أيش؟ معلوم مفروغ منه. * ومن فوائد هذه الآية: أنه إذا كان النداء للصلاة مشروعًا كان عبادة يتقرب به المنادي إلى الله، أليس كذلك؟ وهو هكذا، فالأذان من أفضل الأعمال، حتى إن الله خَصَّ المؤذِّنين بِخَصِيصَة يوم القيامة ليست لغيرهم، «كَانُوا أَطْوَلَ النَّاسِ أَعْنَاقًا»[[أخرجه مسلم (٣٨٧ / ١٤) من حديث معاوية.]]، رفع الله رؤوسهم بطول أعناقهم؛ لرفعهم ذِكْرَه بين العباد، فهم يختصون بهذه الْخَصِيصَة التي لا يشاركهم فيها غيرهم. فإن قال قائل: ما تقولون: أهو الأفضل أم الإمامة؟ فالجواب: أنه أفضل من الإمامة؛ لأن النصوص الواردة فيه أكثر من النصوص الواردة في الإمامة من حيث الفضل. فإن قال قائل: يرد عليكم إذا كان أفضل من الإمامة فلماذا لم يؤذِّن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يؤذن أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي؟ قلنا: لانشغالهم بما هو أهم، ونحن الآن لا نريد المفاضلة بين الأذان وغيره من سائر العبادات، بل بين الأذان وأيش؟ والإمامة، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين لو ألزموا أنفسهم بالأذان لكانوا يبقون مراقبين للأوقات مدة طويلة، وفي ذلك الوقت ليست الساعة بجيب الإنسان يُخرِجها ويعرف أن الوقت حضر، من يرقب الشمس يعرف أنها الآن ستزول، أو لا تزول، أو زالت، أو لم تزل، فهم مشتغلون بما هو أهم من التفرغ للأذان. فإن قال قائل: أفلا يمكنهم أن يوكلوا من يرقب الأوقات، فإذا دخلت جاؤوا؟ قلنا: هذا يُسقط عنهم عناءَ كثيرٍ من الأذان الذي ربما يكون الفضل من أجل هذا المعنى، فيفوت المقصود، فالحاصل أن القول الراجح من أقوال العلماء: أن الأذان أفضل من الإمامة لما سمعتم. فإن قال قائل: غير المؤذنين أفلا يكون لهم حظ؟ قلنا: بلى لهم حظ، والحمد لله، وهو مشروعية متابعة المؤذن، يعني أنه شُرِعَ لنا أن نقول مثل ما يقول المؤذن، حتى لا يمتاز عنا بعمل ليس لنا منه حظ، وهذا من نعمة الله، ورحمته، وحكمته، أنه لم يُضِع غير المؤذنين من شيء من أجل الأذان، فنحن مأمورون بمتابعة المؤذن أن نقول مثل ما يقول، أيش؟ إلا في حي على الصلاة، حي على الفلاح، ما نقول هذا، لو قلنا مثله لكنا ندعوه، هو الآن يدعونا حي على الصلاة، فإذا قلنا: حي على الصلاة، تعارض النداءان. لكننا نقول: إذا قال حي على الصلاة، نقول ما يدل على أننا نقول: سمعًا وطاعة، وهو: لا حول ولا قوة إلا بالله، فكأننا قلنا: سمعًا وطاعة، ولكنا نسأل الله أن يعيننا؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله. فإن قال قائل: إذا ثبت أن الأذان عبادة، فما تقولون في بعض الناس الذين ثبَّطهم الهوى، وصاروا يجعلون مسجلًا عند مكبِّر الصوت، فإذا جاء وقت الأذان فتحوا المكبِّر؟ نقول: هذا خطأ، وغلط عظيم، وتفويت خير على الأمة، وهذا ليس مؤذنًا، لكنه حاكٍ لصوت مؤذن سابق، ولذلك يؤذِّن، أو يجعل المسجِّل بصوت إنسان قد مات، فليس هذا عبادة. وفي رأيي أنه لا يحصل به أداء الفريضة، إذا لم يكن مؤذن آخر يُسمَع في هذا المكان، لماذا؟ لأن هذا مجرد صوت، ليس رجلًا متعبِّدًا يقوم لله عز وجل بهذا الأذان، فهو مجرد صوت، كما لو جعلنا جرس ساعة إذا سُمِع معناه دخل الوقت. وهذه نقطة ينبغي لنا أن نعرفها، أن الدين الإسلامي عبادة، ذو جسد وروح، ليس مجرد طقوس تُسمَع، أو حركات تُفعَل، بل هو عبادة، فالأذان عبادة، إذن يجب أن يكون عبادة. ولو أراد أن يقيس قائس على هذا، وقال: ننقل بالشريط صلاة إمام حسن القراءة، حسن الصوت، ونجعل الشريط أمام المصلين، ونخليه يصلي بهم، يصلح أو ما يصلح؟ بالاتفاق ما يصلح، ولا إشكال، مع أنه سيقول: الله أكبر، تكبيرة الإحرام، على أحسن ما يكون، القراءة على أحسن ما يكون، وبيركع الله أكبر للركوع، ويرفع صوته قليلًا سبحان ربي العظيم، لأجل ما يشتبه؛ لأنه ما يُرَى، لكن يقول: بدل ما إنه لا يرونني أرفع صوتي بالتعظيم سبحان ربي العظيم، وهكذا، لا أحد يقول: هذا يجزئ، فالأذان مثله حذو القُذَّة بالقُذَّة؛ لأننا لا نريد مجرد صوت نعلم به دخول الوقت. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تعظيم الصلاة، حيث ينادَى لها، وحتى يعلم الناس دخول وقتها، فيصلوا ويحضروا إن كانوا ممن يجب عليهم الحضور للجماعة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن القيام للصلاة دليل على أيش؟ على كمال العقل، وأن من لم يهتم بها فإن ذلك دليل على نقص عقله؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾، فتكون إقامة الصلاة من تمام العقول، والتهاون بها من نقص العقول، كما أنه نقص دين.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب