الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ إلى آخره [المائدة: ٤٦]. ﴿قَفَّيْنَا﴾ أي: أرسلنا عيسى بن مريم قافيًا لمن سبقه، أي: مُتَّبِعًا لمن سبقه، مأخوذ من القفا؛ لأن الْمُتَّبِع لآثار من سبقه يمشي في قفاه، ﴿قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ﴾ أي: على آثار الرسل السابقين. ﴿بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾، وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، وليس بينه وبين النبي ﷺ رسول، ولهذا جعله قافيًا لمن سبقه، ونُسِبَ إلى أمه؛ لأنه ليس له أب. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾، ﴿مُصَدِّقًا﴾ حال من (عيسى)، يعني: حال كونه مصدقًا لما بين يديه من التوراة، وتصديقه لما بين يديه من التوراة له معنيان؛ المعنى الأول: أنه يصدِّق التوراة ويقول: إنها حق. والمعنى الثاني: أنه يصدِّق خبرها، حيث كان عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام مذكورًا فيها. وقوله: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: لما سبقه، ﴿مِنَ التَّوْرَاةِ﴾، وهي الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه الصلاة والسلام. ﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ﴾: أعطيناه الإنجيل زائدًا على تصديق ما بين يديه من التوراة، فتكون شريعة عيسى مكوَّنة من شريعة التوراة وشريعة الإنجيل، ولهذا لا يعتبر الإنجيل كتابًا مستقلًّا، بل هو تابع للتوراة، ليس فيه من الأحكام إلا شيء قليل، لكن غالبه مواعظ وقصص وعِبَر. ﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ﴾، ﴿فِيهِ﴾ أي: في الإنجيل، ﴿هُدًى﴾ أي: علم، ﴿وَنُورٌ﴾ أي: أثر نافع يستنير به القلب. ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾، قوله: ﴿مُصَدِّقًا﴾ هذه عائدة على الإنجيل، والأولى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ عائد على عيسى، فيكون عيسى مصدقًا لما بين يديه من التوراة، وكذلك الكتاب الذي نزل عليه، وهو الإنجيل. ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي: وجعل الله سبحانه وتعالى هذا الإنجيل هدى وموعظة، ولهذا أكثر ما فيه المواعظ والعِبَر والقصص، أما الأحكام فغالبها مُستمَدٌّ من؟ * طالب: من التوراة. * الشيخ: من التوراة. وقوله: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾، أولًا: ﴿هُدًى﴾ هو العلم، الموعظة: ما تتعظ به القلوب، وهو الإخبار المقرون بالترغيب والترهيب، فكل خبر قُرِنَ بترغيب أو ترهيب فإنه موعظة، كما كان الصحابة يقولون: «وَعَظَنَا رسول الله ﷺ موعظة وَجِلَت منها القلوب، وذَرَفَت منها العيون»[[أخرجه أبو داود (٤٦٠٧)، والترمذي (٢٦٧٦)، وابن ماجه (٤٢) من حديث العرباض بن سارية.]]. وقوله: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي: الذين اتقوا الله عز وجل، وتقوى الله تعالى: هي امتثال أمره واجتناب نهيه، وسُمِّيَت تقوى؛ لأن الإنسان يتقي بها عذاب الله تعالى. * ففي هذه الآية فوائد، منها: أن عيسى عليه الصلاة والسلام آخر الأنبياء؛ لقوله: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾، وليس بعده نبي يقفوه إلا محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي عليه الصلاة والسلام. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من ليس له أب يُنْسَب إلى أمه؛ لأن الله تعالى ينسب عيسى بن مريم إلى أمه؛ لأنه ليس له أب. فإن قال قائل: ما مثال الذي ليس له أب؟ قلنا: له أمثلة منها: أن يزني رجل بامرأة، فتأتي منه بولد، فهنا الولد ليس للزاني؛ لقول النبي ﷺ: «لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٠٥٣)، ومسلم (١٤٥٧ / ٣٦) من حديث عائشة]]، فلا يُنْسَب إلى الزاني ولا يرث منه، ولا يرثه الزاني، ولا يتحمل عنه العقل، ولا غير ذلك، المهم أن هذا ليس له أب. ومنها: أن يلاعِن الرجل امرأتَه؛ لاتهامه إياها بالزنا، وينتفي من ولدها، فيقول: ليس الولد مني، فحينئذٍ يكون له أم وليس له أب. واختلف العلماء رحمهم الله فيما لو استلحق الزاني الولدَ المخلوق من مائه، وليس له معارض، هل يُلْحَق به أو لا؟ فمنهم من قال: إنه لا يُلحَق به؛ لعموم قوله النبي ﷺ: «وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ». ومنهم من قال: بل يُلْحَق به إذا لم يكن له منازع؛ لأنه ولده قدرًا، وليس له منازع شرعًا، فيُلْحَق به شرعًا كما هو منه قدرًا، وهذا هو القول الراجح، وأن الزاني إذا استلحق الولد الذي خُلِقَ من مائه وليس له منازع فإنه يُلْحَق به. ولا ينافي هذا قول النبي ﷺ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٠٥٣)، ومسلم (١٤٥٧ / ٣٦) من حديث عائشة]]؛ لأن الحديث صريح في أن هناك نزاعًا بين صاحب الفراش والزاني، ولهذا قال: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»، فإذا كانت امرأةً بكرًا زنا بها رجل، هل هناك فراش؟ أجيبوا. * طلبة: لا. * الشيخ: لا، ليس هناك فراش، وإذا لم يكن هناك فراش واستلحق الولد الزاني فإنه لا مانع من إلحاقه به، لكن جمهور العلماء على أن ولد الزنا لا يلحق الزاني ولو استلحقه، وكما علمتم أنهم استدلوا بعموم أيش؟ «لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٠٥٣)، ومسلم (١٤٥٧ / ٣٦) من حديث عائشة]]. وأن القول الثاني: أنه إذا استلحقه الزاني ولا معارض له فإنه يلحقه، وأجيب عن هذا الحديث بأن الحديث ظاهر في أنه عند التنازع يكون الولد للفراش وللعاهر الحجر. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يُصَدِّق بعضهم بعضًا؛ لقوله: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾. * ومن فوائدها: ثبوت نزول التوراة، وأنها حق؛ لأنه شهد بها أحد الرسل أولي العزم بأنها حق. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن عيسى عليه الصلاة والسلام أُنْزِل عليه كتاب وهو أيش؟ الإنجيل، وهو صريح قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران ٣، ٤]. فإن قال قائل: هل الإنجيل الموجود الآن في أيدي النصارى هو الإنجيل الذي نزل على عيسى؟ فالجواب: لا، فيه وفيه؛ لأن النصارى، وكذا اليهود -وهم أخبث من النصارى في الجرأة على الله- حَرَّفُوا التوراة والإنجيل، وكما قال عز وجل: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام ٩١] .. الكتاب وهو أيش؟ الإنجيل، وهو صريح قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران ٣، ٤]. فإن قال قائل: هل الإنجيل الموجود الآن في أيدي النصارى هو الإنجيل الذي نزل على عيسى؟ فالجواب: لا، فيه وفيه؛ لأن النصارى، وكذا اليهود -وهم أخبث من النصارى في الجرأة على الله- حرفوا التوراة والإنجيل، وكما قال عز وجل: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام ٩١]، وعلى هذا فيجب التحري في نسبة التوراة الموجودة في أيدي اليهود اليوم، والإنجيل الموجود في يد النصارى اليوم يجب التحرز، وأن يقال: ليس كل ما فيهما فهو حق، بل فيهما ما هو محرف، وفيهما ما هو منقوص، وربما يكون فيهما ما هو مزيد. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن في الإنجيل هدًى ونورًا؛ لقوله تعالى: ﴿فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ وهو كذلك، ومن الهدى والنور الذي فيه: أن فيه وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الأعراف ١٥٧]، وأن النبي عيسى عليه الصلاة والسلام بشّر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، هذا من الهدى والنور. * ومن فوائد هذه الآية: أن الكتب الإلهية يصدق بعضها بعضًا؛ لقوله: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: التنويه لعظمة التوراة وفضلها وشرفها؛ لأنه ذكر في هذه الآية أن عيسى مصدق لما بين يديه من التوراة، وأن الإنجيل أيضًا مصدق لما بين يديه من التوراة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن في الإنجيل من العلم والموعظة ما ينتفع به المتقون؛ لقوله: ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الحث على التقوى، وأنها سبب لكل خير ولكل علم؛ لقوله: ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾، ولا شك أن التقوى هي أساس العمل؛ لأن من لم يتقِ الله لا يعمل، ومن اتقى الله عمل بأوامر الله حسب ما عنده من التقوى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب