الباحث القرآني

ثم قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ﴾ (كيف) هنا استفهام، والمراد به التعجيب؛ يعني اعجَبْ، كيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله وهم يَدَّعون أنهم مؤمنون بها؟ فإن هذا من التناقض، إذا كان لديهم كتاب يهتدون به ويدعون أنه هو كتابهم وشريعتهم ودينهم فكيف يتحاكمون إلى غيره؛ هذا مما يوجب الشبه في تحكيمهم للرسول عليه الصلاة والسلام وأنهم ما أرادوا الحق، لو أرادوا الحق لرجعوا إلى الكتاب الذي عندهم لأنهم يعتقدون أنه أيش؟ حق، ﴿كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ﴾. إذن المسألة الآن مسألة اشتباه وأنهم لم يريدوا حقيقة التحكيم، وهذا هو الواقع؛ لأنهم لما زنى منهم الزانيان أَتَوْا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يريدون أن يوافقهم فيما أحدثوا هم في عقوبة هذه الفاحشة، فأمر النبي ﷺ برجم الزانيين، ثم أنكروا ذلك وقالوا: هذا خلاف ما عندنا. ما الذي عندكم؟ قالوا: عندنا أنا نسوِّد وجوه الزانيين ونطوف بهما في الأسواق خزيًا وعارًا، فأخبره عبد الله بن سلام أو غيره بأن التوراة تنص على أن الزانيين يُرجمَان، فقال: «ائْتُوا بِالتَّوْرَاةِ» فأتوا بها وجعل القارئ يقرأ ووضع يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك؛ لأن عبد الله بن سلام من أحبار اليهود، فرفع يده وإذا فيها آية الرجم توافق ما حكم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال النبي ﷺ:« اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَقَام» َ، أظنه:« حُكْمَكَ بَعْدَ أَنْ أَمَاتُوه» ُ، أو: «مَنْ أَحْيَا حُكْمَكَ بَعْدَ أَنْ أَمَاتُوه» ُ. فالله عز وجل يعجِّب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ﴿كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ يعني: بعد أن حكموك وحكمت تولوا وأبوا حتى جيء بالتوراة فإذا هي مطابقة تمامًا لحكم النبي ﷺ. وقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ المشار إليه التحكيم. ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني: ما هؤلاء بالمؤمنين، وأتى بأولاء مقرونة بالكاف الدالة على بُعْد المشار إليه، وهذا لدُنُوِّ منزلتهم وليس لعلوها؛ يعني: ما هؤلاء المنحطون الذين نزلوا إلى أسفل السافلين بالمؤمنين فهم لا آمنوا بالتوراة ولا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وإعراب هذه الجملة على من عنده فقه في العربية، مَن؟ * طالب: (ما) نافية تعمل عمل ليس. (أولئك) اسم إشارة مبنيٌّ على الكسر في محل رفع اسم (ما) والكاف زائدة؟ * الشيخ: زائدة! * الطالب: يعني: للخطاب. * الشيخ: وهل تزاد الكاف؟ إن هذا لعِلْمٌ جديد! قل لي: نعم، قد تزاد يا رجل ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى ١١] بعض النحويين قال: إن الكاف زائدة. * الطالب: الباء حرف جر. * الشيخ: إذن، كمل، الكاف ويش تقول فيها؟ زائدة ولَّا حرف دال على الخطاب؟ * الطالب: دال على الخطاب، والباء حرف جر زائد. (المؤمنين) خبر (ما). * الشيخ: خبر (ما)؟ * الطالب: مجرور. * الشيخ: مجرور، خبر (ما)؟! ما تقول: تعمل عمل ليس؟! * طالب: لا، هي مجرور بالباء، حرف جر زائد. * الشيخ: ما يمكن تقول: خبر (ما) مجرور. * الطالب: خبر (ما) مجرور، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم. * الشيخ: الياء العامل فيها حرف الجر الزائد. * الطالب: ونقدر الإعراب. * الشيخ: أيش هو، ياء مقدرة؟ * طالب: (...). * الشيخ: أيش ما عندنا حركة. * طالب: حركة الإعراب لحرف الجر الزائد. * الشيخ: ما عندنا حركة، اللي عندنا ياء، وهي من علامات الإعراب الحرفية لا الحركية؛ يعني ياء مقدرة على الياء الج لوبة لحرف الجر الزائد. لماذا لا نقول: ما دامت الياء هي الياء سواء كان الاسم منصوبًا أو مجرورًا؟ قالوا: لأجل إحكام القواعد، ولَّا حقيقة لم يتغير، اللفظ لم يتغير سواء قلت: إن الباء حرف جر زائد أو إنها منصوبة؛ لأن علامة النصب في جمع المذكر السالم وعلامة الجر واحدة وهي الياء، لكن يقولون إتقانًا للقواعد: لا بد أن تقول هكذا. قوله: ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ هنا نفى الله عز وجل أن يكون هؤلاء مؤمنين، وأتى بحرف الجر الزائد، وقد ذكر علماء البلاغة أن جميع الحروف الزائدة تفيد التوكيد، وعليه فتكون الباء هنا وإن كانت زائدة إعرابًا زائدة معنى وهو التوكيد، إذا قلت: ما زيد قائمًا، وما زيد بقائم، فالثانية أوكد، ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾. * من فوائد هذه الآية الكريمة: العجب من هؤلاء اليهود الذين يحكِّمون النبي ﷺ طلبًا للرخصة وعندهم التوراة. * ومن فوائدها: أن من استفتى عالمًا طلبًا للرخصة ففيه شبه من اليهود؛ ولهذا قال العلماء: يحرم الاستفتاء طلبًا للرخصة، وقالوا: من تتبع الرخص فقد تزندق، وصفة تتبع الرخص أنه إذا أفتاك عالم ولم تُرِد فتواه ذهبت إلى عالم آخر ليفتيك بما يناسبك، وهذا لا شك أن المستفتي إنما أراد اتباع الهوى دون الهدى؛ لأنه لما أفتي بما يرى هو أنه الحق، كيف يرى أنه الحق؟ لأنه لم يستفت هذا العالم إلا وهو يعتقد أن فتواه أيش؟ حق وشريعة فلما لم يوافق ما يهواه ذهب يستفتي آخر فصارت حاله تنادي بأنه لا يريد الهدى وإنما يريد الهوى، نعم، لو أن الإنسان استفتى عالمًا في مكانه في بلدته لا يرى عالمًا أحسن منه لكن من نيته أنه لو حصل له أن يستفتي من هو أعلم لفعل، فهنا نقول: لا بأس أن يأخذ بقوله، وإذا ظفر بعالم أوثق منه عنده فليستفته، ويكون هذا بمنزلة استعمال التراب عن الماء عند العجز عنه، وبمنزلة أكل الميتة عند العجز عن أكل المذَكَّاة، وعليه فيفرق بين شخصين سألا عالمًا ثم استفتيا غيره، أحدهما سأل هذا العالم؛ لأنه لا يرى في بلده من هو أعلم منه ومن نيته أنه إذا ظفر بمن هو أوثق استفتاه، فاستفتاء هذا للعالم الثاني أيش حكمه؟ * الطلبة: جائز. * الشيخ: جائز، والثاني استفتى العالم الذي في بلده على أن فتواه وهي الحق لكنه تثاقلها ثم استفتى عالمًا آخر لعله يجد رخصة، هذا لا يجوز، شوف اثنان عملهما واحد لكن حكمهما مختلف. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تناقض اليهود؛ وذلك بطلبهم الحق مع أن أداة الحق عندهم، حكَّموا الرسول مع أن التوراة فيها حكم الله أي فيها ما يعتقدون أنه حكم الله. * ومن فوائد الآية: أن ما جاء في التوراة فهو حكم الله، ولكن متى هذا؟ قبل أن تُبَدَّل وتُغَيَّر ويخفى منها ما يخفى ويُبْدَى منها ما يبدى؛ قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام ٩١] (...). * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة ٤٤، ٤٥]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾، اذكر الفوائد اللي أخذتم؟ * طالب: آخر فائدة يا شيخ.. * الشيخ: لا كلها، رؤوسها. * الطالب: الأولى -يا شيخ- العجب من هؤلاء اليهود الذين جاؤوا يستفتون النبي ﷺ، وعندهم التوراة فيها حكم الله. * الشيخ: العجب ولا التعجيب؟ * الطالب: العجب. * طلبة: التعجيب. * طالب: العجب. * الشيخ: التعجيب؛ يعنى: الله يعجِّبنا يقول: اعجبوا من هؤلاء. * الطالب: الثانية: أن من استفتى عالمًا طلبًا للرخصة ففيه شبه باليهود؛ ولذلك قال العلماء: يحرم استفتاء العالم طلبًا للرخصة. * الشيخ: يحرم. * الطالب: يَحْرُم استفتاء العالم طلبًا للرخصة، وقالوا: من تتبع الرخص تزندق. الثالثة: تناقض اليهود وذلك بضربهم مع أن أداة الحق عندهم. الرابعة: أن ما جاء في التوراة هو حكم الله، ولكن ذلك قبل أن تُحَرَّف أو تُبَدَّل. * الشيخ: قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ﴾ إلى آخره. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الأحكام التي في التوراة هي حكم الله؛ لقوله تعالى: ﴿فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ﴾ لكن هذا في التوراة الثابتة، وأما بعد أن حرِّفت وغيِّرت وأُخْفِيَتْ فالحكم متغير؛ لقول الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: عُتُوُّ اليهود، وأنهم بعد أن يتبيَّن لهم الحق يَتَوَلَّوْن، نأخذه من قوله: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ﴾؛ لأن (ثم) تدل على الترتيب والتراخي. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من طلب الفتوى تتبعًا للرخصة فليس بمؤمن؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾. لكن هل ينتفي عنه أصل الإيمان أو كمال الإيمان؟ الظاهر الثاني، أنه ينتفي عنه كمال الإيمان.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب