الباحث القرآني

ثم قال: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾ [المائدة ١٤] يعني: وأخذنا من الذين قالوا: إنا نصارى ميثاقهم، ولم يقل: ومن النصارى، بل قال: ﴿قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾، مع أنها في الآية الأخرى يثبت الله تعالى لهم هذا الوصف، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى﴾ [الحج ١٧] فيثبت لهم هذا الوصف، لكن هنا قال: ﴿قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾، وفائدتها إقامة الحجة عليهم، حيث يدّعون أنهم نصارى، وأنهم أهل نصر للحق، ومع ذلك نسوا حظًّا مما ذكروا به. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾ إذن أخذ الله الميثاق من اليهود، وأخذ الله الميثاق من النصارى، وكذلك من هذه الأمة، فإن الله تعالى أخذ منها الميثاق؛ كما قال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [المائدة ٧]. وقد أخذ الله الميثاق على بني آدم كلهم أن يؤمنوا به وبرسله ويوحّدوه ولا يشركوا به شيئًا. أخذ الله الميثاق على النصارى، على الذين قالوا: إنا نصارى ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [المائدة ١٤]. ﴿نَسُوا﴾ أي: تركوا، وهذا نسيان عمل، وهل يمكن أن يكون نسيان علم؟ لا يمكن، إن قلنا: إن بني إسرائيل قد سقطت عنهم المؤاخذة بالنسيان؛ لأنه إذا كان سقطت عنهم المؤاخذة فإنهم لا يعاقبون، لكن إذا قلنا: إن عدم المؤاخذة بالنسيان خاص بهذه الأمة قلنا: إن قوله: ﴿نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ يتناول نسيان العلم ونسيان العمل، ولا شك أن نسيان العمل أشد من نسيان العلم، حتى على القول بأنهم يؤاخذون بنسيان العلم. وقوله: ﴿حَظًّا﴾ معناها نصيب، نسوا حظًّا مما ذكروا به. ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ ولم يذكر الله تعالى لهؤلاء النصارى مثل ما ذكر لليهود؛ لأنه ذكر لليهود أنه لعنهم، وجعل قلوبهم قاسية، وابتلوا بتحريف الكلم عن مواضعه، ونسوا حظًّا مما ذكروا به، أما هؤلاء فيقول: ﴿أَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ﴾. هذا للعقاب. يقول عز وجل: ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ﴾ أي: ألقيناها بينهم، لكنه عبر بالإغراء كأن كل واحد قد أُغري بالآخر من شدة العداوة بينهم، العداوة والبغضاء، العداوة بالقول والفعل، والبغضاء بالقلب، يعني فلا موالاة بينهم، ولا مودة، بل العداوة التي هي ضد الولاية، والبغضاء التي هي ضد المودة. ﴿أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [المائدة ٦٤] يعني: حتى إلى وقتنا هذا، فالنصارى مختلفون متعادون يضلّل بعضهم بعضًا، ويكفّر بعضهم بعضًا. فإن قال قائل: نحن الآن نجد أن النصارى متفقون؟ نقول: هذا الاتفاق اتفاق ظاهري، وإلا ففي قلوبهم من البغضاء بعضهم لبعض ما لا يعلمه إلا الله، ثم هم متفقون على أيش؟ على عدو ثالث، مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة ٥١]، فهم متفقون على عدو ثالث وإلا فهم فيما بينهم مختلفون، قلوبهم متنافرة واعتداءات ظاهرة. وقوله: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ نقول: العداوة الآن والبغضاء بين النصارى وبين طوائفهم لا شك أنها موجودة؛ لأن خبر الله صدق، وقد قال: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، لكن ما نشاهده من الاتفاق الظاهري فإنه مخالف لما في الباطن، ثم -كما قلت لكم- اتفاقهم الآن الظاهري ضد أيش؟ ضد عدو للجميع، وليس هذا بغريب في مسائل الدنيا وسياستها. أما يوم القيامة مر علينا أنه اليوم الذي يبعث فيه الناس، وأنه سمي بذلك اليوم لأمور ثلاثة: الأول: أن الناس يقومون فيه من قبورهم لرب العالمين. والثاني: أنه يقام فيه الأشهاد. والثالث: أنه يقام فيه العدل. ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾: (سوف) للتحقيق، لكنها تدل على التراخي، وأختها السين للتحقيق، لكنها تدل على الفورية. فإذا قلت: سيقوم زيد، فالمعنى أنه يقوم بعد يومين؟ الآن، وإذا قلت: سوف يقوم؟ فيما بعد، نعم، لكن كلتاهما يدل على التحقيق، وأن الأمر محقق ولا بد من وقوعه. ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ أي: يخبرهم بما كانوا يصنعون، وإخباره سبحانه وتعالى بأنه ينبئهم تهديد؛ لأنه إذا نبّأهم بما صنعوا فما بعد ذلك إلا الجزاء بما يستحقون. وقوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ أي: بما كانوا يعملونه من نسيان الحظ مما ذكروا به. * في الآية فوائد، منها: إقامة الحجة على الخصم بما يدعيه؛ لقوله: ﴿قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ لأننا ذكرنا أن الحكمة من كونه يقول: ﴿قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ دون: (ومن النصارى) إقامة الحجة عليهم لما ادعوه، هم يدعون أنهم نصارى ومع ذلك نسوا حظًّا مما ذكروا به. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى لم يغفل أمة من الميثاق الذي أخذه عليهم؛ لما ذكرنا أنه أخذ على اليهود، وأخذ على النصارى، وأخذ على هذه الأمة، وأخذ على جميع بني آدم. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أن إضاعة حق الله من أسباب إلقاء العداوة والبغضاء بين الناس، بمعنى أنك متى وجدت عداوة وبغضاء بين الناس فهذا بسبب أيش؟ إعراضهم عن دين الله؛ لقوله: ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا﴾ والفاء للسببية. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن العكس يكون بالعكس، بمعنى أن الناس إذا قاموا بطاعة الله واتفقوا عليها فإن الله يلقي بينهم المودة والمحبة والولاية. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: التفريق بين العداوة والبغضاء، العداوة ضدها: الولاية، والبغضاء ضدها: المحبة، وهناك فرق بين حبيب ليس وليًّا وبين حبيب هو ولي، وبين بغيض ليس عدوًّا وبغيض هو عدو؛ لأن البغيض قد يعتدي عليك فيكون بذلك بغيضًا عدوًّا، وقد لا يعتدي عليك ولكن يكره، يكرهك مثلًا فلا يكون عدوًّا. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات يوم القيامة؛ لقوله تعالى: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، وهو آتٍ لا محالة؛ لقول الله تعالى: ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [الحج ٧]. * ومن فوائد الآية الكريمة: تهديد هؤلاء النصارى الذين نسوا حظًّا مما ذكروا به، وذلك في قوله: ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات علم الله، تؤخذ من قوله: ﴿يُنَبِّئُهُمُ﴾؛ لأنه لا إنباء إلا بعد علم، وهو كذلك. * ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على الجبرية في قوله: ﴿يَصْنَعُونَ﴾ فأضاف الفعل إليهم، والأصل أن الفعل إذا أُضيف إلى أحد فإنه قائم به مختار له، ففيه الرد على الجبرية، والجبرية يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله حتى في الحركات الإرادية، يقول: هو مجبر، حتى لو أراد الإنسان أن يأكل أو يشرب يقول: هو مجبر على ذلك، ولا شك أن قولهم هذا يخالف المحسوس والمعقول والمنقول.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب