﴿۞ وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ ٱثۡنَیۡ عَشَرَ نَقِیبࣰاۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّی مَعَكُمۡۖ لَىِٕنۡ أَقَمۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَیۡتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِی وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۚ فَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَاۤءَ ٱلسَّبِیلِ﴾ [المائدة ١٢]
ثم قال الله تعالى:
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [المائدة ١٢] الجملة هنا مؤكَّدة بثلاثة مؤكِّدات، يعدُّها لنا الأخ،
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ﴾ الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات.
* طالب: اللام.
* الشيخ: اللام ﴿لَقَدْ﴾، والثاني: (قد)، والثالث: القَسَم. وهذه قاعدة: كلما جاء تعبيرٌ بهذا فهو مؤكَّد بثلاثة مؤكِّدات؛
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين ٤] هذا مؤكَّد بثلاثة مؤكِّدات،
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد ٤] مؤكَّد،
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف ١١] مؤكَّد بثلاثة مؤكِّدات.
* طالب: شيخ، بارك الله فيكم، قلنا: إن البدعة هي مخالَفة الشرع في إحدى السِّتِّ التي ذكرناها، شيخ، بارك الله فيكم، يعني ما يحصل مثلًا في الأيام اللي تُقام في بعض البلدان؛ يوم كذا ويوم كذا ويوم كذا مما لا يُتقرَّب به إلى الله، بعض أهل العلم يقولون: هذه بِدَعٌ أُحدثت، وهم يقولون: هذه ليست بِدَعًا، نحن لا نتقرب إلى الله، إنما مناسبات وتنشيط وذِكرى، ما وجه كونها بدعة؟
* الشيخ: هذه بعض العلماء يقول: إنها ليست بدعة؛ يعني يوم الشجرة، يوم كذا، ويوم كذا؛ يقول: هذه المقصود بها تذكير الناس، أما إذا كانت المناسبة مناسبة تولِّي أمير على إمْرةٍ أو رئيس على رئاسة أو مَلِك على مُلْك فهذه إنما تُفعل للتعظيم، ولا يجوز؛ لأن الأعياد لا يمكن أن تكون إلا بمناسبات شرعية، لا يجوز أن تكون إلا بمناسبات شرعية، غير المناسبات الشرعية لا تُشرَع، لكن ما يُذكر عن أيام الشجرة وأشباهها يقولون: إننا لا نتخذها على سبيل أنها عيد؛ ولذلك لا نخصُّها بيوم معيَّن، إنما هي تذكير وتنشيط وكأنها ابتداء عمل، ولكن عندي أنه لو أن الناس تنَزَّهوا عنها لكان أحسن.
* الطالب: شيخ، أحسن الله إليك، ﴿وَلَقَدْ﴾ قلنا: فيه ثلاثة مؤكِّدات، ما هي؟
* الشيخ: نعم؛ اللام، و(قد)، والقسم؛ لأن تقدير الكلام: واللهِ لقد.
* طالب: شيخ، بارك الله فيكم، هل يجوز إطلاق لفظ (آية) على القطعة من التوراة أو الإنجيل، أو يقال: إن الآية تختص بالقرآن لأنه لم نعلم أنه حصل تحدٍّ إلا للقرآن؟
* الشيخ: ما هو لازم التحدي.
* الطالب: ما هو بلازم؟
* الشيخ: ما هو بلازم، إذا كان هذا الشرع من عند الله عز وجل فهو آية؛ لأنه كما قلنا: إن هذه الشرائع لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها.
* الطالب: إذا أنكر البعض على من يقول: إن هذه الآية من التوراة أو الإنجيل، هل هو مصيب في إنكاره؟
* الشيخ: ما أرى هذا إلا إذا كان ينكرها خوفًا من الالتباس؛ لأن العامِّيَّ إذا سمعها يظن هذه التوراة والإنجيل قرآنًا.
* طالب: بالنسبة يا شيخ، عِلة أن الأيام هذه لا تكون أعيادًا؟
* الشيخ: أيش؟
* الطالب: أن الأيام هذه لا تكون أعيادًا تكون لحشد الهمة، لكن ألا يُشكل عليها أنها تَشَبُّه، يعني أسبوع كذا، ويوم كذا ويوم كذا (...) علَّها بعِلَّة التشَبُّه، فهل هذا له (...) نظر؟
* الشيخ: هو عِلَّة التشَبُّه تشتبه على كثير من الناس، مع أن الأئمة نصُّوا على أنه إذا كان مصدر الشيء من غير المسلمين ثم انتشر وصار المسلمون يفعلونه زال التشبُّه؛ لأن التشبُّه حقيقته أن يقوم الإنسان بما يختص به غيره، وما دام أنه شاعت هذه المسألة فلا، كان مثلًا لبس البنطلون، أتى من أين؟
* طلبة: من الغرب.
* الشيخ: أتى من الكفار، لكن تبعهم المسلمون وصار الآن يلبسه المسلم والكافر.
* طالب: شيخ، بارك الله فيكم، تحرِّي الإنسان لأوقات تكون عند الناس مثلًا كاجتماعهم في حفلٍ أو فرحٍ، فيتحرَّى هذا الموقع ويذهب يعني ويخطب بهم بخير ويعِظُهم بخير، وكذلك إن رآهم مجتمعين في عزاء في بيت أو غيره، فهل هذا، يعني هل يدخل أو لا يدخل في قولنا: تخصيصها بالمكان أو الزمان؟
* الشيخ: أما من جهة الموعظة فالموعظة إذا وُجد سببٌ لها فإنها تُفعَل في أي مكان، لكن إذا اتُّخذ هذا راتبًا وكأنه هو السبب قلنا: هذا خطأ، فمثلًا الاجتماع في العرس أو في وليمة كبيرة إذا رأى الإنسان من المناسبة أن يتكلم بأن رآهم متشوِّفين لكلامه، والناس يختلفون في هذه الناحية، من الناس رجال يتشوَّف الناس إلى كلامهم ويتمنَّون أن يتكلموا، فهنا نقول: الكلام جيد، أو طُلِب منه أن يتكلم، فهنا أيضًا نقول: تكلم؛ لأنك سُئلتَ العلم، فإذا سُئلتَ العلم فبيِّن، أما إنسان ليس ذا أهمية عند الناس ولا الناس يترقبون كلامه يفرض نفسَه عليهم ثم يتكلم في مثل هذه المناسبات فيه تضييق على الناس، وكثير من الناس يأتون إلى هذه الحفلات فيجتمع بعضهم ببعض مع طول الزمان ويتساءلون عن أحوالهم وعن قراباتهم فيقطع هذا عليهم ما يريدون، أو يتكلمون فيكونون شهرة بين الناس، هذه واحدة. كذلك العزاء أشدُّ وأشدُّ، كون الإنسان يأتي ويخطب في الحاضرين تكون بدعة على بدعة؛ لأن أصل الاجتماع للعزاء غير مشروع كما نص على ذلك أهل العلم؛ منهم من كَرِه وصرَّح بالكراهة، ومنهم من قال: إنه بدعة، وكُتُب الفقهاء بين أيديكم.
كذلك أيضًا ما أحدثه بعض الناس عند الدفن؛ يقوم أحدهم خطيبًا ويخطب ويعظ الناس، هذا أيضًا من البدع؛ لأن الرسول ما فعلها، غايةُ ما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام
«أنه انتهى إلى القبر مع أصحابه ولَمَّا يُلحد» –يعني: ما تم تلحيد القبر-
«فجلسوا وجلس النبي عليه الصلاة والسلام معهم وجعل ينكت بمِخْصَرة معه؛ ينكت الأرض، ويحدثهم عن حال الإنسان عند الموت وبعد الدفن»(١)، وهذه ليست خُطبة، هذه موعظة وليست راتبة، لم يفعلها الرسول كلما دفن أحدًا، فعلها لأنه ينتظر التلحيد، فبدلًا من أن يسكت أو يتكلموا بشيء غير مناسب تكلم عليه الصلاة والسلام.
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [المائدة ١٢].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.قال الله تعالى:
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الجملة هنا مؤكَّدة، بكم؟
* الطالب: مؤكِّدان.
* الشيخ: ما هما؟ عيِّنهم.
* الطالب: اللام و(قد).
* الشيخ: اللام و(قد)، إي نعم، وذكرنا لكم قبله أنه إذا جاء مثل هذا التعبير فالتأكيد بثلاثة مؤكِّدات: اللام، و(قد)، والقسم المقدَّر، والتقدير: والله لقد. أعرفتم؟﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي: عهْدهم، والسياق هنا سياقُ غائبٍ؛
﴿أَخَذَ اللَّهُ﴾.
قال:
﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ﴾ هذا التفات من الغَيْبة إلى التكلُّم، ولو كان الكلام على نسق واحد لقال: وبعث.
﴿بَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ أي: جعلنا منهم اثني عشر رقيبًا،
﴿اثْنَيْ عَشَرَ﴾ هذه لسنا نعربها على أن (اثني) وحدها أو (عشر) وحدها لو كانت بغير هذا اللفظ؛ يعني مثل: ثلاث عشرة، أربع عشرة، ثلاثة عشر، أربعة عشر، لا نعربها هذه على أنها الجزء الأول وحده والثاني وحده إلا اثني عشر واثنتي عشرة، فيُعرَب الجزء الأول بحسب العوامل؛ ففي الرفع نجعله بالألف، وفي النصب والجر بالياء؛ لأنه ملحق بالمثنى، وإنما قلنا: إنه ملحق بالمثنى ولم نجعله مثنى حقيقةً لأنه ليس له مفرد؛ إذ إن (اثنا) ليس مفرده (اثن)، لكن مفرده واحد، فلهذا يعربونه على أنه ملحق بالمثنى، ويكون إعرابه بالألف رفعًا وبالياء نصبًا وجرًّا، ولكنه لا يُضاف إلى عشر، بل يقال: (اثنا) مركَّب مع (عشر)، و(عَشَرَ) مبني على الفتح لا محل له من الإعراب.
﴿اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ ﴿نَقِيبًا﴾ هذه تمييز، وكلما جاءت كلمة تفسِّر العدد وهي المعدود فأعربها على أنها تمييز؛ مثلًا: ثلاثة عشر رجلًا، نقول: (رجلًا) تمييز،
﴿اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ نقول:
﴿نَقِيبًا﴾ تمييز، ولهذا يقول صاحب الألفية:
اسْمٌ بِمَعْنَى (مِنْ) مُبِينٌ نَكِرَهْ ∗∗∗ يُنْصَبُ تَمْيِيزًا بِمَا قَدْ فَسَّرَهْ﴿اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ ﴿نَقِيبًا﴾ فعِيل بمعنى فاعِل، وناقِب بمعنى: مُنقِّب، مُنقِّب يعني: مفَتِّش، وهم العُرَفاء؛ لأن العَريف يُفتِّش عمن جُعِل عَريفًا عليه، وأصل التنقيب: التفتيش، ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ﴾ [ق ٣٦] أي: فتَّشوا فيها، إذن (النقيب) فَعِيل بمعنى فاعِل؛ أي: مُنقِّب، والتنقيب هو التفتيش، ومعناه: العرفاء؛ جعل الله منهم اثني عشر نقيبًا عرفاء على قومهم، كل سبط عليه عريف؛ لأنهم هم اثنا عشر أسباطًا.
﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ وهذا من عناية الله بهم عز وجل أن جعل عليهم العرفاء من أجل أن يوجهونهم ويؤدبونهم.
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ﴾ ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ﴾ أي: في النصر والتأييد، وهذه المعيَّة خاصة، وسنتكلم إن شاء الله عليها عند أخذ الفوائد.
ثم قال:
﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ﴾ هذا بدء الميثاق
﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ أي: أتيتم بها مستقيمة، والصلاة معروفة، هي التعبد لله تعالى بذات الأقوال والأفعال المعلومة المفتتَحة بالتكبير المختتَمة بالتسليم، هذا هو الأصل، وعلى هذا فصلوات النصارى واليهود الآن صلوات محرَّفة؛ فهم كما حرَّفوا في التأويل حرَّفوا أيضًا في الأفعال.
﴿وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ﴾ ﴿آتَيْتُمُ﴾ بمعنى أعطيتم، و
﴿الزَّكَاةَ﴾ مال واجب في أموالٍ مخصوصة.
وقوله:
﴿آتَيْتُمُ الزَّكَاةَ﴾ إلى مَن؟ إلى مستحقِّيها، ولهذا نقول: إن (آتى) تنصب مفعولين: الأول الزكاة، والثاني محذوف؛ أي: آتيتم الزكاةَ أهلَها. والزكاة هي المال الذي ذكرنا لكم، وسُمِّي زكاة لأنه يزكِّي أخلاق باذِلِه، يزكِّيها يعني ينمِّيها؛ فإنَّ بَذْل المال ينمِّي الأخلاق بلا شك، وإذا أردتَ أن ينشرح صدرك فأكثر من النفقة، لكن بدون إسراف.
﴿وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾ أي: أقررتم إقرارًا مستلزِمًا للقبول والإذعان، هذا معنى الإيمان، هو الإقرار المستلزِم أيش؟ للقبول والإذعان، فمجرد الإقرار لا يُعتبر إيمانًا، ولو كان مجرد الإقرار إيمانًا لكان أبو طالب مؤمنًا؛ لأنه مُقِرٌّ برسالة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
﴿وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾ و(رُسُل) جمع رسول، وهم الذين أرسلهم الله تعالى إلى بني إسرائيل، وأكثر الأنبياء الذين قُصُّوا علينا من بني إسرائيل.
﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ أي: نصرتموهم؛ لأن التعزير يعني النُّصرة، وأصله من التقوية؛ قال الله تبارك وتعالى:
﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ﴾ [الفتح ٩] تُعَزِّروا من؟ الرسول ﷺ.
قال:
﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ قوله:
﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ﴾ أي: بَذَلْتم المالَ محتسبين الأجرَ من عنده؛ لأن المقرِض يعطي القرض على أنه سوف يُردُّ إليه عوضه، فالإقراض لله يعني احتساب الثواب منه، كأنك بذلْتَ الشيءَ ابتغاء مرضاته لتنال بذلك ثوابه.
فإن قال قائل:
﴿أَقْرَضْتُمُ﴾ مع قوله:
﴿آتَيْتُمُ الزَّكَاةَ﴾ هل هو من باب عطف المتغايرين، أو هو من باب عطف العام على الخاص، أم ماذا؟
يرى بعض العلماء أنه من باب عطف العام على الخاص؛ لأن الزكاة حقيقةً أيش؟ مِن إقراض الله؛ إذا أدَّاها الإنسان محتسِبًا ثوابها فهي من إقراض الله، ويكون ذكر الإقراض -وهو أعم من الزكاة- بعد ذِكر الزكاة ليشمل الزكاة وغيرها.
وقيل: المراد بالإقراض هنا، المراد به: الصدقة؛ أي: ما زاد على الزكاة، وعلى هذا يكون العطف عليها من باب عطف المتغايرين.
وقوله:
﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ القرض الحسن: ما كان خالصًا له على وفْق شريعة الله، هذا هو القرض الحسن، وقد بيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام الإحسان في عبادة الخالق أنه تمام الإيمان والمراقبة فقال:
«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»(٢).
وقوله:
﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ هذا جواب، لكن جواب لأيش؟ جواب لقوله:
﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ﴾، وهو جواب للشرط التي هي (إِنْ)، أو جواب للقسم المقدر المدلول عليه باللام في قوله:
﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ﴾؟
* طالب: أيهما أصح؟
* الشيخ: الثاني، فهو جواب القسم، ولهذا لم يقترن بالفاء، ولو كان جوابًا للشرط اقترن بالفاء، وفي هذا يقول ابن مالك:
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ∗∗∗ جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ
فما الذي أُخِّر هنا؟ القسم أو الشرط؟
* الطالب: الشرط.
* الشيخ: الشرط، إذن الذي حُذِف هو جواب الشرط. ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أجعلُها مُكفَّرةً بالحسنات التي فعلتم: إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، الإيمان بالرسل وتعزيرُهم، إقراض الله قرضًا حسنًا؛ فالسيئات تُكفَّر بهذه الحسنات.
﴿وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ هذه معطوفة على
﴿لَأُكَفِّرَنَّ﴾، وإذا جمعت بينها وبين (أُكَفِّر) صار بها النجاة من المرهوب وحصول المطلوب، النجاة من المرهوب في قوله:
﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ لأنها إذا كُفِّرت لم يُعاقَب عليها، حصول المطلوب:
﴿وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾.
وبالتتبع والاستقراء نجد أن أغلب ما يكون تقديم النجاة من المرهوب ليَرِدَ المطلوبُ على محلٍّ خالٍ مما يُرهب، فتكون التصفية قبل التحلية؛ يعني صفِّ الشيءَ قبل أن تحلِّيه، اكنس المكان قبل أن تفرشه، واضح؟
تأمل الآن في القرآن والسنة وفي غيرها أيضًا تجد أن النفي غالبًا يكون مقدَّمًا على الإثبات؛ (لا إله إلا الله) كلمة الإخلاص قُدِّم فيها النفي على الإثبات ليَرِدَ الإثباتُ على مكانٍ خالٍ من الشوائب.
﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ ﴿جَنَّاتٍ﴾ المراد بها جنةُ المأوى، وهي -كما ترون- تُذكر أحيانًا مفردةً وأحيانًا مجموعةً؛
﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا﴾ [الحديد ٢١]
﴿جَنَّةٍ﴾ أيش هي؟
* الطلبة: ﴿عَرْضُهَاكَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾.
* الشيخ: لا لا، مفردة ولَّا جمع؟
* الطلبة: مفردة.
* الشيخ: مفردة، وتأتي ﴿جَنَّات﴾ كثيرًا مجموعةً، فإفرادها باعتبار الجنس، وجمعها باعتبار النوع؛ لأن الجنة أنواع، وقد ذكر الله تعالى في آخر سورة الرحمن أربعة أنواع: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن ٤٦] ثم قال: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن ٦٢]، أيُّهما أشرف، الأُوليانِ أو الأُخريانِ؟
* الطلبة: الأُوليانِ.
* الشيخ: الأُوليانِ؟
* الطلبة: نعم.
* طالب: ﴿مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً﴾.
* الشيخ: إي، يعني: سِوَاه؛ لا تعبدوا من دون الله يعني: سِوَاه.
* الطلبة: الأوصاف يعني، (...).
* الشيخ: طيب، من ينتدب لنا يبيِّن الفروق؟ ابن القيم في النونية ذكر أن الفروق عشرة، لكن قال.. النظم يُعيِيني أن أسوقه، فمن يستطيع أن ينتدب لنا أن يذكر الفروق؟ إذن تُجمع الجنة على جنات باعتبار أيش؟ باعتبار الأنواع، وتُفرد باعتبار الجنس؛
﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ يعني الآن
﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ لو أننا فسَّرنا
﴿جَنَّاتٍ﴾ بما نفسِّر به الجنات في الدنيا، وقلنا: الجنات بساتين كثيرة الأشجار كثيرة الثمار، لم يذهب الذهن بعيدًا ولاستقلَّ نعيم الآخرة، لكن إذا قلنا: الجنة هي الدار التي أعدَّها الله تعالى لأوليائه -اللهم اجعلنا منهم- فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أيُّهما أشدُّ هزًّا للمشاعر؟
* الطلبة: الثاني.
* الشيخ: الثاني بلا شك، ولهذا قد نعتب على بعض الناس أن يفسِّر جنة المأوى بأنها البستان الكثير الأشجار، وأنها سُمِّيت بذلك لأن أشجارها ملتفٌّ بعضها إلى بعض فهي تستر من فيها، نقول: هذا لا شك أنه يقلِّل من تخيُّل الجنة وأنها شيء عظيم. فنقول: الجنة هي الدار التي أعدَّها الله تعالى لأوليائه، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. هذا يهزُّ المشاعر، ويُوجب أن يُسارع الإنسان ويُسابق إليه. وقوله:
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ معلوم أنه ليس المراد من تحت أرضها؛ لأن النهر إذا جرى من تحت الأرض أيُّ فائدة فيه؟! ولهذا لا ننتفع بالأنهار الجوفية، ولكن
﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ قال العلماء: من تحت قصورها وأشجارها، وما أحسن اطِّراد الأنهُر تحت الأشجار الظليلة والقصور الفخمة العظيمة، لها منظر لا يتصوره الإنسان في الواقع.
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ هذه الأنهار ليست كأنهار الدنيا، أنواعها أربعة:
﴿أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ [محمد ١٥] يعني لا يمكن أن يتغير، وأنهار الدنيا تتغير، والثاني:
﴿أَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ [محمد ١٥] بل هو من أحسن ما يكون مذاقه،
﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ وقد نفى الله عنها الغَوْل:
﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ﴾ [الصافات ٤٧]،
﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد ١٥] نَقِيّ ليس فيه شيء مما يكون في عسل الدنيا، هذه أنهار أربعة تجري جريانًا؛ (الماء) ربما يتصور الإنسان كيف يجري، (لبنٌ لم يتغير طعمه) يُتصور كيف يجري؛ لأن اللبن جاري، (خمر) يُتصور أو لا؟ يُتصور، وقد لا يُتصور؛ لأن الخمر ليس كله سواء، الرابع: (العسل) في تصورنا الآن أنه لا يجري، لا يمكن جريانه، لكنه في الجنة يجري، نهرٌ.
ثم إن ابن القيم رحمه الله ذكر في النونية أن هذه الأنهار تجري بغير أخدود فقال:
أَنْهَارُهَا مِنْ غَيْرِ أُخْدُودٍ جَرَتْ ∗∗∗ سُبْحَانَ مُمْسِكِهَا عَنِ الْفَيَضَانِ
الله أكبر! النهر يجري ما له أخدود تمنعه من اليمين واليسار، ولا حُفَر له، على سطح، سطح مكان، ومع هذا أيضًا لا يجري إلا حيث شاء صاحبه يُصرِّفه كيف شاء، ليس هناك عُمَّال ولا عوامل وإنما هي إرادات؛
﴿فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الزخرف ٧١].
نقول:
﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ إذن هنا ميثاق بين متعاقِدَيْنِ؛ عملٌ يسيرٌ في مقابل ثوابٍ كثيرٍ.
يقول:
﴿فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ﴾ ﴿فَمَنْ﴾ (مَنْ) هنا شرطية، جوابها
﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ أي: فمن كفر بعد هذا الميثاق ولم يقُم بما واثَقَ اللهَ عليه فقد ضل سواء السبيل، الضلال بمعنى الضياع والتيه؛ يعني تاه عن الصراط المستقيم، و
﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ أي: مستقيمه الموصل إلى المراد.
* في هذه الآية فوائد كثيرة؛ منها: تذكير هذه الأُمَّة وتذكير بني إسرائيل بما أخذه الله عليهم من الميثاق؛ أما تذكير بني إسرائيل فالأمر فيه واضح؛ ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [المائدة ٧٠]، وأما تذكيرنا نحن الأُمَّةَ الإسلاميةَ فلأنه ليس بين البشر وبين الخالق عهدٌ يتضمَّن المحاباة إلا تفضُّلًا من الله عز وجل، إذا قُمْنا بما أوجب علينا فلنا الأجر مرتين حسب ما جاءت به النصوص عن النبي ﷺ.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: ذِكْر اللهِ نفسَه بالغَيْبة تعظيمًا وتكبيرًا له جل وعلا، تؤخذ ؟ ما الذي قلته؟
* الطالب: (...).
* طالب آخر: أن الله ذكر نفسه بالغَيْبة تعظيمًا.
* الشيخ: نعم، وتكبيرًا؛ ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ﴾ ما قال: لقد أخذنا، وهذا كما يقول الملِك لجنوده: إن الملِك يأمركم أن تفعلوا كذا. ما يقول: إني آمرُكم. يقول: إن الملِك يأمركم. نظير هذا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء ٥٨].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من أساليب البلاغة الانتقال من أسلوب إلى آخر لتنبيه المخاطَب، تؤخذ من قوله: ﴿وَبَعَثْنَا﴾ بعد قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ﴾، ولا شك أن تغيُّر الأسلوب يوجب الانتباه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات أن الله تعالى خلق أعمال العباد؛ لقوله: ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾؛ لأن النقباء مفتِّشون، وإذا كان الله هو الباعث لهم لزم أن تكون أفعالهم أيش؟ مخلوقة لله. يؤخذ من الآية الرد على القَدَرية في قوله:
﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ﴾، إذن هم قاموا بأمر مَن؟ بأمر الله، القَدَرية يقولون: إن أفعال العبد ليست مخلوقة لله ولا لله فيها تعَلُّق.
أيضًا يؤخذ منها الرد على الجبرية بقوله:
﴿نَقِيبًا﴾؛ لأن النقيب هو المنقِّب، فأضاف الله الفعل إليه، وهذا يدل على أن الإنسان غير مجبور. وهذا مُقَرَّر -والحمد لله- عدة مرات؛ أن نصوص الكتاب والسنة تدل على بطلان قول القدرية وبطلان قول الجبرية.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه ينبغي للناس أن يتَّخذوا نُقَباء يرجعون إليهم في أمورهم؛ عند النزاع يكونون مُصلحين، وعند الإشكال يكونون موضحين، وما أشبه ذلك، ولهذا «أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا كانوا ثلاثة في سفر أن يُؤَمِّروا أحدهم»(٣) من أجل أن يوجِّههم ويدبِّر شؤونهم ولا تكون أمر فوضى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: مِنَّة الله على بني إسرائيل بأنه ناصِرهم؛ تؤخذ من قوله: ﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ﴾. واعلم أن الله تعالى وصف نفسَه بالمعيَّة في عدة آيات، فمرةً ذكرها عامةً، ومرةً ذكرها خاصةً بوصفٍ، ومرةً ذكرها خاصةً بشخصٍ، وكلُّها حقٌّ.
فالعامة مقتضاها الإحاطة بالخلق علمًا وقدرة وسلطانًا وتدبيرًا ومُلكًا وغير ذلك، ومن هذا قوله تعالى:
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد ٤] وقوله:
﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة ٧].
ومن ذِكْرها -أي: المعيَّة- مقيَّدةً بوصفٍ مثل قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل ١٢٨]، لكن هذه تقتضي مع الإحاطة العامة تقتضي النصر والتأييد والدفاع،
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج ٣٨].
الثالث: مقيَّدة بشخصٍ؛ مثل قوله تعالى لموسى وهارون:
﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه ٤٦]، ومثل قول النبي ﷺ فيما حكاه الله عنه لصاحبه أبي بكر رضي الله عنه:
﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة ٤٠].
هذه المعيَّة هل هي حقيقة، أو هي مجاز عن العلم والإحاطة والنُّصرة والتأييد وما أشبه ذلك؟
الجواب: الأول، هي كسائر الصفات؛ أنها حقيقة، وأنها تقتضي في كل موضع ما يناسبها، لكن هل إذا قلنا: إنها حقيقة، هل تُنافي ما ذُكِر من علو الله؟ لا، أبدًا؛ هو معنا وهو على عرشه، وليس (معنا) أنه في الأرض كلَّا؛
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر ٦٧]، ومَن كان هذا شأنه كيف يمكن أن يتصور عاقل فضلًا عن المؤمن أن يكون معنا في أماكننا، لكن هو معنا وهو عالٍ، ولا مانع؛ لأن الله بكلِّ شيء محيط، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام لما رفع الصحابةُ أصواتهم بالتكبير قال:
«أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا» -
«أَصَمَّ» لا يسمع،
«وَلَا غَائِبًا» » لا يرى-
«إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا» »
(٤)،
«إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ»(٥)، نحن نؤمن بهذا، لكن ليس معنى ذلك أنه سبحانه وتعالى في نفس المكان؛ لأنك لو قلت هكذا لكنت ممن عمل بالنصوص ونظر إليها نظر الأعور -أي: من جانب واحد- ولهذا لما نظرتْ الجهميَّة إلى هذا من جانب واحد قالوا: إن الله معنا في نفس المكان، في كل مكان، لكنهم غفلوا عن العلو، ونحن نقول: إن الله تعالى معنا حقيقةً وعلى عرشه حقيقةً، ولا منافاة.
فإن قال قائل: هل يتصور العقل أن الشيء يُطلَق عليه أنه معك وهو بعيد عنك؟
قلنا: نعم؛ أولًا: أنه يتصور في الأمور المخلوقة؛ فالقمر يقول المسافرون: إنه معنا، والنجم يقولون: إنه معنا، والشمس يقولون: معنا، وأين أمكنة هذه؟
* الطلبة: في السماء.
* الشيخ: في السماء؛ يعني العرب تقول: القمر معنا، والقطب معنا، والجدي معنا، يقولون هكذا ويعبِّرون عن هذا على أنه حقيقة ومحلُّه في السماء، ولا يُعدُّ ذلك تناقضًا. ثم على فرض أنه تناقض في المخلوق وأنه لا تجتمع المعيَّة حقيقةً والعلو حقيقةً، فهل يُقاس الخالق بالمخلوق؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: لا يُقاس، يقال: نُثبت لله ما أثبته لنفسه من علوِّه ومعيَّته ونعلم أنه لا تناقض، بل هو عالٍ ومعنا، ولا منافاة.إذن الجواب على هذا نقول: أولًا: ليس بينهما تناقض للوجوه التالية:
(أ) أن الله جمع لنفسه بينهما، وما جمع الله بينه في كتابه فليس فيه تناقض؛ إذ لو كان لَمَا صَدَق قولُه تعالى:
﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء ٨٢]، هذه واحدة؛ كل شيئين جمع الله بينهما فاعلم أنه لا تناقض بينهما.
ثانيًا: لا تناقض ولا منافاة بين المعيَّة حقيقةً والعلو حقيقةً أبدًا؛ لأننا نُحِسُّ بالواقع المشاهَد المتَّفَق عليه عند علماء اللغة أنه يقال للشيء: إنه معنا، وهو في مكانه في السماء بعيدًا عنه.
ثالثًا: على فرض أن هذا ممتنع في المخلوق فليس يمتنع للخالق؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء في جميع نعوته؛ فهو علِيٌّ في دُنُوِّه، قريبٌ في عُلُوِّه، وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة المباركة، ألا وهي العقيدة الواسطية، وبه أيضًا نَسْلم من إلزام أهل التأويل لأهل السنة حيث يقولون: أنتم تنكرون علينا التأويل وأنتم تُؤَوِّلون؛ لأنك إذا قرأت:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد ٤] كل هذه الضمائر تعود إلى مَن؟
* الطلبة: الله.
* الشيخ: إلى الله، ما الذي يُخرِج المعيَّة عن هذا؟ ما الذي يُخرجها؟
* طالب: لا شيء.
* الشيخ: إذا كان ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾ أي: الله، ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ أي: الله، ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ﴾ أي: الله، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ أي: الله، لكن يجب كما قال شيخ الإسلام أن يُصان هذا الفهم عن الظنون الكاذبة؛ مثل أن يعتقد الإنسان أنه معنا؛ أي: في مكاننا، أو أنه على السماء؛ يعني أن السماء تُقلُّه، أو أنه إذا نزل إلى السماء الدنيا صارت السماوات الأخرى تُظِلُّه، هذا يجب أن يُصان عنه؛ لأن الله تعالى في العلوِّ، وعُلُوُّه من لازم ذاته، وهو من الصفات أيش؟ الذاتية التي لا ينفكُّ عنها كما لا ينفكُّ عن سمعه وبصره، انتبهوا لهذا، لكن وَرَد عن السلف رحمهم الله عن كثير منهم أنهم فسَّروا المعيَّة بالعِلم، وهذا تفسير باللازم؛ لأن من لازم من كان معك أن يكون عالِمًا بك، ولا شك أن هذا تفسير صحيح غير منكر، والتفسير باللازم تفسير صحيح، لكنه ليس هو المطابق؛ لأن الدلالات ثلاثة أنواع: دلالة تضَمُّن، ودلالة مطابَقة، ودلالة التزام، هذا من دلالة الالتزام، واضطُرُّوا إلى ذلك من أجل الرد على أولئك الجهمية الذين كانوا يقولون: إن الله معنا في نفس المكان، ولهذا قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: نقول: إن الله معنا بعلمه، ولا نقول كما قال هؤلاء الجهمية: إنه معنا هاهنا. يعني في الأرض. فتبين بذلك لماذا صارت أكثر عبارات السلف أن المعيَّة يعني: العلم، ونحن نقول: هذا التفسير صحيح غير منكر؛ لأنه تفسير بأيش؟ باللازم والتفسير باللازم قد استعمله السلف في كثير من الآيات، ولا يُعدُّ هذا خروجًا عما تقتضيه الآية، لكن التفسير الذي يُنكَر على الإنسان أن يؤوِّل تأويلًا مخالفًا للفظ بأنواع الدلالات الثلاث وهي: المطابَقة، والتضمُّن، والالتزام.
المعيَّة الخاصة بالوصف كثيرة في القرآن:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل ١٢٨]، هذه الآية إذا آمن بها الإنسان سوف تحمله على ثقته بنفسه، لكن ثقته بنفسه لا لأنه قويٌّ قادر، ولكن لأن الله معه، فإذا اتقى الإنسانُ ربَّه التقوى حقيقة فإنه سوف يحصل له النصر والتأييد، وإن الله يدافع عن الذين آمنوا، لكن الذي في الحقيقة ينقصنا هو التقوى، ولذلك نجد أننا فاشلون في كل المعارك التي خضناها مع إخوان القردة والخنازير؛ وهم اليهود.
بأنواع الدلالات الثلاث، وهي: المطابقة والتضمن والالتزام.
المعية الخاصة بالوصف كثيرة في القرآن:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل ١٢٨] هذه الآية إذا آمن بها الإنسان سوف تحمله على ثقته بنفسه، لكن ثقته بنفسه لا لأنه قوي قادر ولكن لأن الله معه، فإذا اتقى الإنسان ربه تقوى حقيقة فإنه سوف يحصل له النصر والتأييد، وإن الله يدافع عن الذين آمنوا، لكن الذي في الحقيقة ينقصنا هو التقوى، ولذلك نجد أننا فاشلون في كل المعارك التي خضناها مع إخوان القردة والخنازير؛ وهم اليهود.
ونجد أن الإخوة الذين كان عندهم -فيما يظهر لنا والعلم عند الله- تقوى وقوة نجد أنهم غلبوا من كانوا أكبر دولة فيما سبق وهم؟
* طالب: الفرس.
* الشيخ: نعم، الفرس فيما سبق صحيح، ولكن الذين غلبوهم عندهم من التقوى ما ليس عندنا الآن، يقولون: إن الشيشان كان الروس أذل من الكلاب عندهم، حتى إنهم لما أمروهم؛ أي أمر ضباطهم وقوادهم وجيوشهم أن تتجمع كانوا يتجمعون ينحدرون من رؤوس الجبال ويجتمعون، يقول واحد، يقسم بالله أن سبع مئة آلية للحرب، سبع مئة يقودها طبعًا الروس، يقول: إن الشيشان قالوا: لا يمكن أن تسير من حولنا إلا والعلم المكتوب عليه (لا إله إلا الله محمد رسول الله) في المقدمة، صاروا يقودونه بـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وهؤلاء يقول: أذل ما يكون، والذي قتل منهم يقولون: سبعون ألفًا من الروس، ما كنا نظن هذا.فأقول لكم: إن الإنسان إذا وثق بنفسه لما معه من تقوى الله والإحسان في عبادة الله؛ فليبشر بأن الله تعالى معه، وأن الله تعالى ناصره.
ثم ليُعلم أن النصر ليس من الضروري أن يُنصر الإنسان في حياته، بل إذا نُصر ما يدعو إليه بعد موته فهو انتصار له، لا شك، ولهذا نحن نؤمن بأن انتصار الصحابة بفتحهم مشارق الأرض ومغاربها انتصار لمن؟ للرسول عليه الصلاة والسلام، يعني حتى لو فرض أن من قام بالدعوة إلى الله مخلصًا لله متبعًا لشريعة الله لو يعني مات أو قتل لكن بقيت الدعوة وانتصر بها من بعده فهو في الحقيقة انتصار له، فيصدق قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾.
أما المعية المعينة بشخص فهي أعظم وأعظم، فقول الرسول:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة ٤٠] أبلغ من
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾؛ لأنه تعيين، تعيين للشخص، وكذلك موسى وهارون
﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه ٤٦].
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة ١٣- ١٤].
* الشيخ: نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر تذكير هؤلاء في الميثاق الذي أخذ عليهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء لو أوفوا بعهد الله لأوفى الله لهم بعهده؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة ٤٠]، يؤخذ من قوله: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ﴾ [المائدة ١٢] إلى آخره.
* ومن فوائدها: أن الصلاة والزكاة مفروضة على الأمم السابقة، وهو كذلك، فالصلوات والزكوات مفروضة، لكن لا يلزم من كونها مفروضة أن تكون مماثلة لما وجب علينا في الكيفية والوقت والمقدار، المهم أن جنس الصلاة مفروض، جنس الزكاة مفروض، لكن قد يختلف، وهذا كقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة ١٨٣] فالتشبيه هنا بالفرض، شبَّه الفرض بالفرض، ولا يلزم أن يكون صيامهم كصيامنا، وبقينا في الحج، وقد ثبت عن النبي ﷺ أن الأمم السابقة كان الحج مشروعًا في حقهم، فهذه الأركان العظيمة أركان الإسلام مشروعة عند كل أمة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه يجب على بني إسرائيل الإيمان بجميع الرسل، وعلى رأسهم محمد ﷺ؛ لأن الله تعالى لم يتكفل لهم بهذا الثواب إلا إذا آمنوا برسله؛ لقوله: ﴿وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾ [المائدة ١٢]. ومن المعلوم أن من كذّب رسولًا واحدًا فقد كذّب جميع الرسل؛ كما قال الله تعالى:
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء ١٠٥]، مع أنه لم يسبق رسول قبل نوح، لكن لما كذبوا نوحًا صار تكذيبهم إياه تكذيبًا لجميع الرسل.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: وجوب نصرة الرسل؛ لقوله: ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾. ونصرتهم في حياتهم أن يكون معهم في الجهاد والدفاع وغير ذلك، نصرتهم بعد وفاتهم أن ينصروا شرائعهم ويقيموها بين الناس، فواجب علينا نحن الآن أن ننصر شريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان فضل الله عز وجل على العباد، حيث كان يعطيهم الرزق ثم يقول: ﴿أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ﴾ وهو المعطي أولًا والمثيب ثانيًا؛ لقوله: ﴿وَأَقْرَضْتُمُ﴾ وقد ذكرنا الحكمة بالتعبير عن الإنفاق في سبيل الله في القرض ما هي؟
* طالب: الاقتراض بمعنى المقترض يلتزم..
* الشيخ: كأن الله جعل الإنفاق في سبيله بمنزلة القرض الذي يلزم المستقرض أن يوفيه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا بد أن تكون الأعمال التي يتقرّب بها الإنسان إلى الله حسنة، من أين تؤخذ؟ ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ ليخرج النقص عن الواجب والإسراف في البذل؛ لأن الإسراف ليس حسنًا، والنقص ليس حسنًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الأعمال الصالحة تكفّر الأعمال السيئة؛ لقوله تعالى: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾، ويدل لهذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود ١١٤]، وقول النبي ﷺ: «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا»(٦).
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه يُبدأ بالنجاة من المرهوب قبل بيان حصول المطلوب؛ لقوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ﴾، وهو شاهد لما اشتهر عند العلماء أن التخلية قبل التحلية؛ يعني إزالة الشوائب والعوائق قبل أن يحصل المطلوب.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الجنة ليست واحدة؛ لقوله: ﴿جَنَّاتٍ﴾ هذا إذا قلنا: إن هذا الجمع عائد على الجنات، لا على من دخلها؛ لأنه فيه احتمال أن يكون عائدًا على من دخلها، وأن كل واحد له جنة وإن كانت الجنة واحدة، لكن تعددت باعتبار داخليها، فنقول: هذا محتمل، ولكن القرآن دل على أنها جنات مجموعة، نفس الجنات، ففي سورة الرحمن: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن ٤٦] وقال في الثانية: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن ٦٢].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن نعيم الجنة نعيم للنفس والقلب والسمع والبصر، وكل شيء، وذلك حينما ذكر أن هذه الجنات تجري من تحتها الأنهار، وهذا لا شك أنه يطرب السمع، حفيف جريان النهر يطرب السمع؛ ولهذا تجد الإنسان يقف عند الشلالات متمتعًا بالاستماع إليها، وكذلك النظر أيضًا، وكذلك القلب والنفس تستريح.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن في الجنة أنهارًا، لا نهرا واحدًا، من أين تؤخذ؟ ﴿الْأَنْهَارُ﴾ جمع (نهر)، وقد ذكر الله عز وجل أنواعها في سورة القتال، سورة محمد، يقرؤها علينا الأخ، الأنهار، أنواع الأنهار اللي في سورة القتال، اللي هي سورة محمد ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ﴾.
* طالب: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد ١٥].
* الشيخ: نعم، أحسنت، أربعة أنواع.فإن قال قائل: كيف نجمع بين قوله تعالى:
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر ٥٤، ٥٥] فذكر نهرًا واحدًا، وهنا ذكر أنهارًا؟ كيف نجمع؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: النكرة ما تعم إلا في سياق الشرط والنفي والنهي وما أشبه ذلك.
* الطالب: الجنس، جنس العمل.
* الشيخ: أيهم؟
* الطالب: الآيات فيها ذكر معلومات.
* الشيخ: الإفراد للجنس، فلا ينافي التعدد صح، نقول: المراد الجنس فلا ينافي التعدد.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: وعيد من كفر بعد الميثاق، والنداء عليه بالضلال البين؛ لقوله: ﴿فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [المائدة ١٢].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن المؤمن يسير على سواء السبيل؛ أي وسطها دون حافتيها، وجه ذلك: أنه إذا ثبت في حكم الكافر ضلال السبيل فضدّه يثبت بحكمه، يثبت فيه ضد حكمه؛ لأن إذا تضادت الأعمال تضادت الجزاءات.
* ومن فوائد الآية الكريمة: التنبيه على أن الغالب أن الوسط وسط السبيل والطريق هو الحق؛ لأن سواء بمعنى وسط؛ لقوله تعالى: ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات ٥٥] أي: في وسطها أو في مستقرها، وهذا هو الغالب؛ أن ما تطرف من يمين أو يسار فهو ضلال، ولذلك جاء في الحديث: «دِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ»(٧).
(١) أخرجه أبو داود (٤٧٥٣) من حديث البراء بن عازب.
(٢) متفق عليه؛ البخاري (٥٠) ومسلم (٩ / ٥) من حديث أبي هريرة .
(٣) أخرجه أبو داود (٢٦٠٩) من حديث أبي هريرة.
(٤) متفق عليه؛ البخاري (٦٣٨٤) ومسلم (٢٧٠٤ / ٤٤) من حديث أبي موسى الأشعري.
(٥) أخرجه مسلم (٢٧٠٤ / ٤٦) من حديث أبي موسى الأشعري.
(٦) أخرجه الترمذي (١٩٨٧) من حديث أبي ذر الغفاري ومعاذ بن جبل.
(٧) أخرجه الدارمي(٢٢٢) من قول الحسن موقوفًا عليه بمعناه، ولفظه: «سنتكم – والله الذي لا إله إلا هو- بينهما؛ بين الغاليوالجافي...».