الباحث القرآني

قال الله تعالى: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾، في قراءة: ﴿مُنْزِلُهَا عليكم﴾ ، ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ﴾ أي بعد إنزالها، وبنيت (بعد) على الضم لأنه حذف المضاف إليه ونوي معناه، و(قبل) و(بعد) إذا حذف المضاف إليه ونوي معناه بني على الضم، وإذا حذف ونوي لفظه أعرب لكن بدون تنوين، وإذا حذف ولم ينو لفظه أعرب ولكن بتنوين، فمثلا إذا قلت: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ [الروم ٤] هنا حذف المضاف إليه ونوي معناه، وفي قول الشاعر: ؎فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلًا ∗∗∗ أَكَادُ أَغَصُّ بِالْمَاءِ الْفُرَاتِ هذا لم يُنوَ لا لفظه ولا معناه، وإذا قلت: سأزورك من قبلِ ومن بعدِ مجيء فلان، الأُولى حُذف المضاف إليه ونُوي لفظه، والثانية وُجد المضاف إليه. فصار إما أن يُحذف المضاف إليه وإما أن يوجد في (قبل) و(بعد) وأخواتهما، إنْ وُجد المضاف إليه فهما معربان بلا تنوين، وإن حُذف ونوي لفظه فهما معربان بلا تنوين أيضًا، وإن حذف ونوي معناه فهما مبنيان على الضم، وإن حذف ولم يُنوَ لفظه ولا معناه فهما معربان منونان. فالأحوال إذن أربعة. يقول الله عز وجل: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ﴾ من أي الأحوال؟ ما هو؟ حذف المضاف إليه ونوي معناه. ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ﴾ الفاء رابطة للجواب، جواب الشرط في قوله: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ﴾، وإنما ارتبطت بالفاء لأن الجملة اسمية، وكلما وقعت جملة الشرط اسمية وجب قرنها بالفاء أو بـ(إذا) الفجائية، ﴿فَإِنِّي﴾ فيها قراءتان: ﴿فَإِنِّيَ﴾ و﴿فَإِنِّي﴾، فأما على السكون فالياء مبنية على السكون، وأما على الفتح فهي مبنية على الفتح لأنها ضمير متكلم. ﴿أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ﴾ الضمير يعود في قوله: ﴿لَا أُعَذِّبُهُ﴾ -وأعني بذلك الهاء- يعود إلى أيش؟ على العذاب، يعني لا أعذب أحدًا مثل هذا العذاب، ﴿أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾: (أعذب) نصبت هنا مفعولين، هل أصلهما المبتدأ والخبر أو لا؟ لا؛ لأنك لو حذفت العامل وجعلت ضمير المفعول به في ﴿لَا أُعَذِّبُهُ﴾ جعلته ضمير رفع لم يصح، لو قلت: هو أحد ما صح؛ لأن الضمير يعود على العذاب. نبدأ تفسير الآية: يقول الله عز وجل: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ وفي قراءة: ﴿مُنْزِلُهَا﴾ ، فهل هذا للحال أو للمستقبل؟ يعني هل أن الله عز وجل وعد بإنزالها وأنزلها؟ أو هو وعد ولكن لم يتحقق؛ لأن الله تعالى اشترط شرطًا لم يلتزمْه بنو إسرائيل؟ في ذلك قولان للعلماء، فمنهم من قال: إن الله أنزله لأن وعده حق وهو لا يخلف الميعاد، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ أو ﴿مُنْزِلُهَا﴾ ثم توعد من كفر بعد إنزال هذه الآية، وقال بعضهم: إنه لم ينزلها لأن الله اشترط قال: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ﴾، ولما رأوا هذا الشرط الثقيل الذي يصعب أن يحقق عدلوا عن طلبهم فلم تنزل المائدة، وهؤلاء أيدوا رأيهم بأن النصارى لا يعرفون عن هذه المائدة شيئًا في كتبهم وقالوا: إنها لو نزلت لكانت عيدًا لأولهم وآخرهم كما طلب عيسى عليه الصلاة والسلام، ولما لم يكن عندهم علم بهذه المائدة علمنا أنهم لم يقبلوا الشرط الذي اشترطه الله فلم ينزلها الله عز وجل، والآية في الحقيقة محتملة، يعني لا يستطيع الإنسان أن يجزم بهذا ولا هذا. فإن قال قائل: لماذا لا نجزم بأنها لم تنزل لأنها لم توجد في كتبهم؟ فالجواب عن هذا سهل؛ أن لعلها من جملة ما نسي وترك من دين النصارى، فلم يكن عندهم علم منها، والله أعلم أنزلت أم لم تنزل، ومتى احتملت الآية معنيين على السواء ولا مرجح، فإن كانا لا يتنافيان حملت عليهما جميعًا، وإن كانا يتنافيان فالتوقف، وهنا فيما أرى أن الآية محتملة هل نزلت أم لم تنزل. * من فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات الكلام لله عز وجل؛ لقوله: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾. * ومنها: أن كلامه تبارك وتعالى بحرف وصوت؛ لأنه تعالى قال قولًا وصل إليهم، ولا يمكن أن يصل إليهم إلا بصوت. * ومنها: أن كلام الله بحرف، بل بحروف متتابعة؛ لأن الله قال: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ﴾ وهذه حروف متتابعة لا إشكال فيها. * ومنها: إثبات أفعال الله الاختيارية، بمعنى أنه عز وجل يفعل ما يشاء اختيارًا بلا مكره؛ لأن هذا الكلام المرتب بالحروف أفعال أو غير أفعال؟ هو فعل وقول، هو من جهة إحداثه فعل، ومن جهة أنه كلام قول. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: خطر طلب الآيات من الأمم، وأنه إذا جاءت الآيات المطلوبة فقد عرضوا أنفسهم للهلاك، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أنه متى طلبت الأمة آية معينة وحصلت لهم حق عليهم العذاب. فإن قال قائل: هذه القاعدة تنتقض بما تواتر عن انشقاق القمر؛ أن قريشًا طلبوا من النبي ﷺ آية فأراهم انشقاق القمر؟ فالجواب عن هذا: أن قريشًا لم يطلبوا آية معينة، وإنما طلبوا آية فقط، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي عينها، أراهم انشقاق القمر. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات أن العذاب له أعلى وله أدنى؛ لقوله: ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾، فهذا دليل على أن العذاب يتفاوت من شخص لآخر، وتفاوت العذاب أسبابه كثيرة؛ منها: قلة الداعي إلى الذنب، فإن قلة الداعي إلى الذنب توجب شدة العقوبة عليه، وانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» وهم «أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ؛ لَا يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ»[[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (٦١١١) والأوسط (٥٥٧٧) من حديث سلمان الفارسي.]]. الشاهد الأول والثاني: أشيمط وزانٍ، يعني رجلًا شمطه الشيب، وهذا يدل على ضعف قوته في طلب النكاح. وصغّره بقوله: «أُشَيْمِطٌ» تحقيرًا له. إذن زنا الشيخ أعظم عقوبة من زنا الشاب؛ لأن الداعي في الشيخ أقل. «عَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» عائل يعني: فقير، مستكبر، الفقير يجب أن يعرف نفسه وقدره فكيف يستكبر، الاستكبار من الغني أهون بلا شك ومتوقَّع؛ كما قال عز وجل: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق ٦، ٧] أي استغنى عن غيره، وهذا عائل فيستكبر! فلذلك اشتدت عقوبته، فكلما قوي السبب في طلب المعصية صارت العقوبة عليها أهون، وكلما ضعف الطلب صارت العقوبة عليها أشد، هنا بين الله عز وجل أنه لا يعذبه أحدا من العالمين. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أن كفر من رأوا الآيات ليس ككفر من لم يروها، أيهما أعظم؟ الأول، من رأى الآيات؛ لأن من رأى الآيات فقد رآها علم اليقين، بل عين اليقين، ومن نقلت إليه فقد علمها علم اليقين، أي بواسطة. في الآية قراءة: ﴿إِنِّي مُنْزِلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ وفيها: ﴿فِإِنِّيَ أُعَذِّبُهُ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب