الباحث القرآني
ثم قال الله عز وجل: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ﴾.
قوله: ﴿مَا جَعَلَ﴾ (ما) نافية، والجعل هنا بمعنى الشرع، أي: ما شرع الله.
واعلم أن (يجعل) تأتي بمعنى (خلق) وبمعنى (صيّر) وبمعنى (شرع).
تأتي بمعنى (خلق)، مثل قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام ١].
و(جعل) التي بمعنى (خلق) لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد، وتأتي بمعنى؟
* طلبة: (صير).
* الشيخ: (صير)، وهذه تتعدى إلى مفعولين، مثل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ ١٠، ١١]، ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ [الأنبياء ٣٢] والأمثلة في هذا كثيرة.
وبهذا نعرف ضلال الجهمية الذين استدلوا بقول الله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف ٣] حيث قالوا: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ﴾ أي: خلقناه، فيقال: هذا دليل على لكنتهم وعدم معرفتهم للغة العربية؛ لأن (جعل) إذا تعدت إلى مفعولين ويش قلنا؟
* طالب: (...) تعدى إلى مفعولين.
* الشيخ: إلى مفعولين، فإنها لا تكون بمعنى (خلق) أبدًا، بل تكون بمعنى (صير).
القسم الثالث: تأتي بمعنى (شرع) كما في هذه الآية، هنا يتعين أن تكون بمعنى (شرع)، ولا يجوز أبدًا أن نجعلها بمعنى (صير) أو (خلق)؛ لأن الأمر واقع فيه البحيرة والسائبة والوصيلة والحام موجود، وعليه فنقول: ما جعل الله أيش؟
* طلبة: ما شرع الله.
* الشيخ: أي: ما شرع الله.
﴿مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ (من) هذه زائدة للتوكيد، توكيد النفي، ولهذا نقول عند إعرابها: (من) حرف جر زائد زائد، كيف؟ حل لنا هذا اللغز، (من) حرف جر زائد زائد، هل (زائد) الثانية توكيد للأولى؟
* طالب: زائد في الإعراب وزائدة في المعنى.
* الشيخ: نعم زائد في الإعراب، يعني أنه لو حذف لاستقام الكلام، زائدة أي زائدة المعنى؛ لأن كل شيء في القرآن لا يمكن أن يزاد بلا معنى إطلاقًا؛ إذ إن زيادة الكلمة أو الحرف بدون معنى لغو، والقرآن منزه عن هذا؛ إذ هي زائدة إعرابًا زائدة للمعنى، أي: تزيد، إذن ما هو الذي زادته في هذا السياق؟
* طلبة: (...).
* الشيخ: نعم توكيد النفي.
﴿مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ البحيرة والسائبة والوصيلة والحام هذه أسماء لها اصطلاحات مختلفة عند العرب، خلاصتها أنها إما أن تكون لآلهتهم وإما أن يحرموها أكلًا وركوبًا وانتفاعًا بلبنها وأصوافها وأوبارها، وهم على اختلاف بينهم في متى تكون بحيرة إلى آخره، لكن علامة البحيرة عندهم أن تشق أذنها شقًّا واسعًا، مأخوذة من البحر، البحر واسع أليس كذلك؟ متى يشقونها؟ لهم اصطلاح في هذا، إذا ولدت كذا وإذا ولدت كذا، المهم أنها اصطلاحات مختلفة.
﴿وَلَا سَائِبَةٍ﴾ السائبة: هي التي تترك، سائبة أي: متروكة مسيبة، وهذا أيضًا متى تسيب؟ عندهم في ذلك اصطلاح يختلف، لكن النهاية أنها تسيب ويحرمون ركوبها والانتفاع بها وألبانها.
﴿وَلَا وَصِيلَةٍ﴾ الوصيلة: هي التي تكون بكرًا تلد أنثى أول ما تلد ثم توصلها بأنثى أخرى، يعني: البكر تلد بطنين على التوالي، كلاهما أنثى، فيكون هذه وصلت أنثى بأنثى، فتحرم أو تجعل للآلهة.
﴿وَلَا حَامٍ﴾ نحتاج إلى إعراب (حام)؟
* طالب: معطوفة على (بحيرة).
* الشيخ: كمل.
* الطالب: و(بحيرة) منصوب، والعطف على المنصوب منصوب (...) اسم منقوص.
* الشيخ: هل هي منقوص أو حرف صحيح (حام)؟
* الطالب: لا، منقوص.
* الشيخ: منقوص، أصلها؟
* الطالب: حامي.
* الشيخ: (حامي) نعم، إذن هو اسم منقوص محذوف الياء: وَلَا حامِي. والحامي من الحماية، وهو الذي حمى ظهره فلا يركب، إذن هو جمل، ويختلفون فيه متى يكون حاميًا؛ بعضهم قال: إذا أنجب عشرة أولاد، وبعضهم قال خلاف ذلك، المهم أن هذه أوصاف لأزواج من الأنعام، الإبل والبقر والغنم متى حصلت حرمت هذه البهيمة أو جعلت للأصنام.
﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ معطوفة على ﴿مَا جَعَلَ اللَّه﴾، ﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ حيث يقولون: إن هذه محرمة وهذه محللة افتراءً على الله عز وجل.
﴿وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ أكثر هؤلاء الكفار لا يعقلون؛ لأنهم همج رعاع تابعون لأكابرهم، فأكثرهم لا يعقلون، يعني: ليس لهم عقل يرشدهم، مع أن الله ذكر في أوصاف الكفار في آية أخرى أنهم ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة ١٧١]، لكنه قال: ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ لأن هنا إمامًا ومقلدًا، من الأئمة عندهم؟ أئمة الكفر الذين يحللون ويحرمون بأهوائهم العوام يتبعونهم، ويقولون: ﴿وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف ٢٢]، ولهذا قال: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ أي قيل لهؤلاء الأكثر ﴿تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ ﴿تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني: إلى القرآن لنتحاكم إليه ﴿وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ أيضًا لنتحاكم إليه ليكون التحاكم إليه، وهذا في حياته يؤتى إليه شخصيًّا، ﴿وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ قالوا في جواب من يقول لهم: ﴿تَعَالَوْا﴾: ﴿حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ أي: كافينا ﴿مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ يعني: وليس لنا حاجة أن نتحاكم إلى القرآن ولا إلى الرسول؛ لأن لدينا ما يكفينا، وهو ما كان عليه آباؤنا.
قال الله عز وجل: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ يعني: أيقولون هذا ﴿حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾، ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون، وهذا في غاية التوبيخ أن يتبعوا آباءهم، وآباؤهم ليسوا على علم.
﴿لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ يعني شيئًا من شريعة الله، وإلا فهم يعلمون كيف يأكلون وكيف يشربون، كيف يذهبون ويجيئون، لكن لا يعلمون شيئًا من شريعة الله.
﴿وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ الطريق الذي يوصلهم إلى الله عز وجل، فنفى عنهم العلم والعمل، ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ هذا نفي العلم، ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ نفي العمل.
* في هذه الآية الكريمة فوائد: منها إطلاق الجعل على التشريع؛ لقوله: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾.
* ومنها: بطلان ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريم هذه الأنعام الموصوفة بهذه الصفات: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
* ومن فوائدها: الإنكار على الكفار حيث شرعوا هذه الشريعة وحرموا هذه الأشياء الأربعة.
* ومنها: أن كل من أتى بشريعة ليست من عند الله فإنه يصدق أن نقول: إنه افترى على الله الكذب، لكن من اجتهد من هذه الأمة، وبذل الوسع في الوصول إلى الحق، وحكم بغير الصواب، فإنه لا يقال: إنه افترى على الله كذبًا، بل يقال: إنه اجتهد وأخطأ وله أيش؟ أجر واحد، وهذا والحمد لله من سعة رحمة الله عز وجل.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: خطر الإفتاء وأن الإنسان قد يفتي بالشيء، فيكون ممن افترى على الله كذابًا، وقد كان السلف -رحمهم الله- إذا استفتي أحدهم يقول: لا أفتي حتى أنظر الصراط بين يدي، فهل أنجو منه أو لا أنجو؟ وكذلك الإجابة هل ينجو منها أو لا ينجو؟ ووالله إن هذا لدليل على تعظيم الله عز وجل وهيبته في القلب، ألا يقدم الإنسان حتى يعرف أنه سوف ينجو في العبور على الصراط، ولا شك أن الفتوى أمرها عظيم وخطرها عظيم، وما أشد زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب. نسأل الله العافية.
* ومن فوائد هذه الآية: ذم أولئك الذين يقولون بلا علم وأنهم قد فقدوا عقولهم؛ لقوله: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾، وصدق الله عز وجل، كل إنسان يقدم على الفتوى بالتحليل أو التحريم أو الإيجاب بدون علم فهو غير عاقل، وإن ظن أنه صار إمامًا فإنه غير عاقل، وسيفضحه الله عز وجل إما في الدنيا وإما في الآخرة، يعني قد يمهل الله له ويكون إمامًا في وقت ما لغفلة الناس وعدم العلماء، ولكن النتيجة سوف يكون مخذولًا والعياذ بالله؛ لأن كل من ابتغى الإمامة في غير دين الله فإنه مخذول.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن التحري في الإفتاء من العقل، ولقد كان السلف الصالح يتدافعون الإفتاء ويؤجلون المستفتي، حتى إنهم ذكروا أن قومًا أتوا من خُراسان من المشرق إلى المدينة يستفتون الإمام مالكًا -رحمه الله- في مسألة، فقال: أنظروني، وبقوا خمسة عشر يومًا ينتظرون الفتوى، في النهاية قال: ليس عندي علم، قالوا: سبحان الله! إمام دار الهجرة ليس عنده علم، ونحن أتينا من بلاد بعيدة وأقمنا في انتظار هذه الفتوى وتقول ما عندي علم! قال: نعم، أقول: ما عندي علم، اذهبوا إلى قومكم وقولوا: إن مالكًا يقول: ليس عندي علم، وهو إمام، لكن الإنسان يعرف أنه سيقف بين يدي الله عز وجل، وسيسأله: لماذا حكمت في عبادي بما لم تعلم أنه حكمي، أو يغلب على ظنك أنه حكمي إذا كنت من أهل الاجتهاد، فالمسألة خطيرة -نسأل الله أن ينجينا وإياكم- الإنسان لولا أنه يقول: لعلي أكون إمامًا في الخير لقال: ليتني لم أرزق هذا العلم، لكني أقول: نرجو الله عز وجل التوفيق للصواب وأن نكون أئمة في دين الله وندخل في قوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان ٧٤].
{"ayah":"مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِیرَةࣲ وَلَا سَاۤىِٕبَةࣲ وَلَا وَصِیلَةࣲ وَلَا حَامࣲ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق