الباحث القرآني

ثم قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم﴾ إلى آخره. الخطاب بـ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ سبق الكلام عليه مرارًا فلا حاجة لإعادته. ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم﴾ (أشياء) هنا ممنوعة من الصرف، وعلل الصرفيون كونها ممنوعة من الصرف أن الهمزة فيها للتأنيث وليست أصلية (...) لكن فيها إعلال بالتقديم والتأخير بحروفها، حيث قدمت الهمزة الوسطى إلى أولها فصارت (أشياء)، ولذلك لو أردت أن تزنها فوزنها فعلاء. ﴿عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ يعني: إنْ يُبدَ لكم الجواب عنها فإنه يسوؤكم الجواب، وهذا يشمل كل ما سكت الشرع عنه، ثم صار السؤال عنه سببًا للمشقة على الناس واستيائهم مما حصل، ومن ذلك ما كان بعض المسلمين يسألون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الرجل منهم يسأل: من أبي؟[[متفق عليه؛ البخاري (٩٢)، ومسلم (٢٣٦٠ / ١٣٨) من حديث أبي موسى الأشعري.]] وأين أبي؟[[أخرجه مسلم (٢٠٣ / ٢٤٧) من حديث أنس. ]] وما أشبه ذلك، فإن هذا من الأمور الذي يجب السكوت عنها، لو أن رجلًا قال للرسول عليه الصلاة والسلام: من أبي؟ فقال: أبوك فلان، غير أبيه، لكان في هذا فضيحة له ولأبيه ولأمه، فالسكوت عنه هو الأدب، كذلك إذا قال: أين أبي؟ فإذا قال الرسول ﷺ: أبوك في النار أساءه بلا شك، وكان هذا أيضًا فيه إساءة إلى من؟ إلى الأب. كذلك في الأشياء الواجبة، الأقرع بن حابس لما قال النبي ﷺ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ» قال: أفي كلِّ عامٍ؟»[[أخرجه أبو داود (١٧٢١)، والنسائي في المجتبى (٢٦٢٠)، وابن ماجه (٢٨٨٦) من حديث ابن عباس.]] هذا سؤال غير وجيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لو قال: نعم لوجبت، ولشق ذلك على المسلمين أفرادًا وجماعاتٍ، أفرادًا لأن الإنسان إذا فرض عليه أن يحج كل عام يشق عليه، جماعات لو أن الأمة الإسلامية قيل لها: من قدر منكم الحج فليحج كل عام، ما الأرض التي تسعهم؟ لا تسعهم الأرض، فلهذا كان السؤال في غير وجهه، فما أعظم الجرم ممن سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته، أو لم يجب فوجب من أجل مسألته. قال: ﴿إِنْ تُبْدَ لَكُمْ﴾ أي: يظهر لكم جوابها ﴿تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ يعني: إن سألتم عنها في زمن الوحي الذي ينزل فيه القرآن تبد لكم، من يبديها؟ يبديها الله على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي وجه السؤال إليه. ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ يعني عفا الله عما سكت عنه، ولهذا جاء في الحديث: «وَمَا سَكَتُّ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ»[[أخرجه الترمذي (١٧٢٦)، وابن ماجه (٣٣٦٧) من حديث سلمان الفارسي.]]. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ غفور للذنوب، حليم في العقوبة، فلا يعاجل عباده بالعقوبة؛ كما قال عز وجل: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر ٤٥]. * في هذه الآية فوائد: أولًا: أنه مما ينافي كمال الإيمان أن يسأل الإنسان عن شيء لم يكلَّف به؛ لقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا﴾. وهل يشمل هذا زمن الوحي وما بعده، أو هذا خاص في زمن الوحي الذي يمكن أن يثبت به التحريم أو الإيجاب؟ الثاني، في زمن الوحي، أما فيما بعد الوحي فلا بد أن يسأل الإنسان عن دينه، ولذلك نقول: إن ما يفعله بعض العوام إذا قيل له: هذا حرام، هذا واجب، اسأل العلماء، قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ هذا حرام، حرام من وجهين: الوجه الأول: أنه امتنع من السؤال مع وجود مقتضيه، والثاني: أنه نزّل الآية على غير تنزيلها، على غير ما أراد الله. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الإنسان قد يسوؤه ما شرعه الله عز وجل من إيجاب أو تحريم، ولكن المؤمن وإن كره ذلك بطبيعته لا يكره من حيث كونه شرعًا لله عز وجل، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة ٢١٦]، ما المكروه؟ هل هو القتال أو فرضية القتال؟ القتال، دون فرضيته، المؤمن يرضى بكل ما فرض الله وبكل ما أوجب وبكل ما حرم ومنع، لكنه قد يكرهه من جهة مشقته وتعبه وما أشبه ذلك. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن أي سؤال يرد في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا بد أن يجاب عنه؛ لقوله: ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾، ولذلك تجدون في القرآن الكريم أسئلة كثيرة موجهة للرسول عليه الصلاة والسلام فيجيب الله عنها: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة ٢١٩]، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة ٢١٩]، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ [البقرة ٢٢٠]، فلا بد أن يجاب؛ لقوله: ﴿إِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾. لكن إذا قال قائل: أليس النبي ﷺ يُسأل أحيانًا فلا يجيب؟ قلنا: بلى، لكنه لا يجيب لأنه لم ينزل عليه فيه وحي، ولو نزل عليه فيه وحي لأجاب. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن ما سكت الله عنه فهو عفو؛ لقوله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾. نضرب لهذا مثلًا: يسأل كثير من النساء عن حكم إزالة الشعور من الساقين أو الذراعين فهل هو حرام أو حلال؟ لننظر الشعور تنقسم ثلاثة أقسام: قسم نهي عن إزالتها، وقسم أمر بإزالتها، وقسم مسكوت عنه؛ مما أمر بإزالته ما جاء في الفطرة، ومما نهي عن إزالته اللحية، ومما سكت عنه بقية الشعور، فهل نقول: إنها مما سكت عنه فتكون حلالًا، أو نقول: الأصل في تغيير خلق الله أنه حرام فتكون حرامًا؟ الجواب: الأول، أنه مما سكت عنه، ولو شاء الله عز وجل لأنزل فيه قرآنًا، أو لتكلم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الحشرات وأشباهها ثلاثة أقسام: قسم أُمر بقتله، وقسم نُهي عن قتله، وقسم مسكوت عنه، مما أُمر بقتله أيش؟ * طالب: الكلب والعقرب. * الشيخ: العقرب والحية والكلب العقور، ومما نهي عن قتله النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد، ومما سكت عنه البقية، فهل نقول: إن البقية يجوز قتلها بدون إيذاء أو نقول: لا، الأصل أنها حيوان خلقه الله عز وجل ليُستدل به على قدرته وسعة علمه ورحمته، ولأنها تسبح بحمد الله فلا تُقتل إلا إذا كان فيه أذية. في هذا ثلاثة أقوال: قولان معلومان عندي إلى الآن لم أنسهما، الثالث نسيت، الأول: أنه يكره أن تقتل هذه الحشرات بدون أذية؛ إذا لم يكن منها أذية، أما إذا كان منها أذية فتقتل، فيكره أن يقتلها؛ لأنها تسبح بحمد الله، ولأن فيها آية من آيات الله، وهي أن الإنسان كلما تأملها عرف بذلك سعة علم الله ورزقه ورحمته، فيكون فيها مصلحة للعباد، فلا تُقتل، ولكن على وجه الكراهة. القول الثاني: أن ذلك مباح؛ لأنه مما سكت الله ورسوله عنه، وما سكت الله عنه فهو عفو. والثالث: التحريم، لكنني لم أُجَوِّده؛ لأنه إذا لم يكن منها أذية كان قتلها مجرد عبث، وفيه أيضًا تعويد النفس على العدوان، هذا إذا لم تؤذ، أما إذا آذت فلا شك في جواز قتلها، ولكن الأفضل أن يدافعها بما هو أهون، فمثلًا إذا دخلت الحية في جحرها، وهذه مما أمر بقتله، وصار قتلها إما بالماء يغرقها أو بالنار تحرقها، أيها أولى؟ الماء، الأول، بالماء، هذه الحشرات أيضًا التي لم يؤمر ولم يُنهَ عن قتلها نقول فيها: إذا كان فيها نوع أذية فإن أمكن أن تطردها حتى تسلم من الأذية بدون قتل فهو أولى، وإذا لم يمكن إلا بالقتل فاقتلها ولا حرج عليك. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن القرآن منزل ممن؟ * طلبة: من الله. * الشيخ: ﴿يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ﴾ ما ذُكر الفاعل لكنه حُذف للعلم به؛ لأن المنزل للقرآن هو الله عز وجل. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن النبي ﷺ مبلغ عن الله؛ لقوله: ﴿تُبْدَ لَكُمْ﴾؛ لأن المبدي للبشر مباشرة هو الرسول ﷺ. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: البناء على الأصل في براءة الذمة، تؤخذ من قوله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾، فالأصل عدم شغل الذمة بإيجاب أو تحريم. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات هذين الأسمين لله عز وجل: الغفور والحليم، فهو غفور للذنوب حليم عند العقوبة، فلا يعاجل، لقد قال ابن القيم رحمه الله: ؎وَهْــــــوَ الْحَلِيـــــمُ فَـــــلَا يُعَاجِـــــلُعَبْـــــدَهُ ∗∗∗ بِعُقُوبَــــــةٍ لِيَتُـــــــــوبَ مِـــــــنْعِصْيَــــــــــــــانِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب