الباحث القرآني

ثم قال عز وجل: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ [الحجرات ١٥]، ﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر تفيد إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه، أي: ما المؤمنون إلا هؤلاء، والمراد ما المؤمنون حقَّا الذين تم إيمانهم إلا هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسوله. ﴿آمَنُوا﴾ أقرُّوا إقرارًا مستلزمًا للقبول والإذعان، وليس مجرد الإقرار كافيًا، بل لا بد من قبول وإذعان، والدليل على أن مجرد الإقرار ليس بكاف: أن النبيَّ ﷺ أخبر عن عمه أبي طالب أنه في النار[[متفق عليه؛ البخاري (٦٢٠٨)، ومسلم (٢٠٩ / ٣٥٧) من حديث العباس بن عبد المطلب.]]، مع أنه مؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام مصدق به، يقول في لاميته المشهورة: ؎لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٌ ∗∗∗ لَدَيْنَا وَلَا يُعْنَى بِقَــــوْلِالْأَبَاطِلِ ويقول عن دين الرسول: ؎وَلَقَـــدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ∗∗∗ مِنْ خَــــــيْرِ أَدْيَانِ الْــــبَرِيَّــــةِدِيـــــنَا لكنه -والعياذ بالله- لم يقبل هذا الدين، ولم يذعن به، وكان آخر ما قال: إنه على الشرك؛ على ملة عبد المطلب. فالذين آمنوا بالله ورسوله: هم الذين أقروا إقرارًا تامًّا بما يستحقه الله عز وجل، وبما يستحقه الرسول عليه الصلاة والسلام وقبلوا ذلك وأذعنوا له. ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ كلمة ﴿ثُمَّ﴾ هنا في موقع من أحسن المواقع، ﴿ثُمَّ﴾ تدل على الترتيب بمهلة؛ يعني: ثم استقروا وثبتوا على الإيمان مع طول المدة: و﴿لَمْ يَرْتَابُوا﴾ أي: لم يلحقهم شك في الإيمان بالله ورسوله. وهنا ننبه إلى مسألة يكثُر السؤال عنها في هذا الوقت، وإن كان أصلها موجودًا في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وهي الوساوس التي يلقيها الشيطان في قلب الإنسان، يلقي الشيطان في قلب الإنسان أحيانًا وساوس وشكوكًا في الإيمان؛ في القرآن، في الرسول، في الرب عز وجل، وساوس يحب الإنسان أن يُمزَّق لحمُه ويكْسَر عظمُه ولا يتكلم بذلك، فما موقف الإنسان من هذا؟ موقف الإنسان من هذا: أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وينتهي، يُعرِض عن هذا، ولا يفكر فيه إطلاقًا، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن مثل هذه الوساوس صريح الإيمان، أي: خالص الإيمان، هذا إنما كان صريح الإيمان؛ لأن الشيطان لا يأتي لإنسان شاك يشككه في دينه، وإنما يأتي لإنسان ثابت مستقر ليشككه في دينه فيفسده عليه، وأما المؤمن الذي استقر الإيمان في قلبه، واطمأن قلبه بالإيمان؛ فإنه هو الذي يأتيه الشيطان ليفسد عليه، أمَّا من ليس بمؤمن فإن الشيطان لا يأتيه بمثل هذه الوسواس؛ لأنه منته منه. والمهم أن قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ يدل على أنهم ثبتوا على الإيمان، ولو طالت المدة، فإذا قال قائل: ما هي الطريق التي توجب للإنسان ثبوت الإيمان واستقراره؟ قلنا: أولًا: أن يتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وأن هذه المخلوقات العظيمة لم تكن وليدة الصدفة، ولم تكن وليدة بنفسها، وأن يتفكر أيضًا في شريعة الله وكمالها، وأن يتفكر في سيرة النبي ﷺ وآياته، وما إلى ذلك، وكذلك أيضًا يُكثِر من ذكر الله عز وجل، فإن بذكر الله تطمئن القلوب، ويكثر من الطاعات والأعمال الصالحة؛ لأن الطاعات والأعمال الصالحة تزيد في الإيمان كما هو مذهب أهل السنة والجماعة رحمهم الله. ﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحجرات ١٥]، هذا أيضًا معطوف على قوله: ﴿آمَنُوا﴾ أي: هم الذين مع إيمانهم بالله عز وجل، ويقينهم وعدم ارتيابهم يريدون أن يصلحوا عباد الله، بماذا؟ بالجهاد في سبيل الله، يجاهدون أعداء الله ليرجعوا إلى دين الله، ويستقيموا عليه، لا للانتقام منهم، ولا للانتصار لأنفسهم، ولكن ليدخلوا في دين الله عز وجل. والجهاد في سبيل الله: هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، لا للانتقام، القتال للانتقام ليس إلا مدافعة عن النفس أو أخذًا بالثأر فقط، لكن الجهاد حقيقة: هو أن يقاتل الإنسان لتكون كلمة الله هي العليا، أما الجهاد انتصارًا للنفس، أو دفاعًا عن النفس فقط فليس في سبيل الله، لكن لا شك أن من قاتل دفاعًا عن نفسه فإنَّه إن قُتِلَ فهو شهيد، وإن قتل صاحبه فصاحبه في النار، كما جاء في الحديث عن النبي ﷺ فيمن أراد أن يأخذ مالك قال: «لَا تُعْطِهْ». قال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتَلَني؟ قال: «قَاتِلْهُ»، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ» قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «فَهُوَ فِي النَّارِ»[[أخرجه مسلم (١٤٠ / ٢٢٥) من حديث أبي هريرة.]]. إذن: ما هو الجهاد في سبيل الله؟ القتال ليش؟ لتكون كلمة الله هي العليا، هذا هو الذي حدَّه النبي عليه الصلاة والسلام وفصله فصلًا قاطعًا. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات ١٥] أولئك هم الصادقون في إيمانهم وعدم ارتيابهم، أما الذين قالوا من الأعراب: آمنا، ولكنهم لم يؤمنوا حقيقة، ولكن أسلموا فإنهم ليسوا صادقين؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات ١٤].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب