الباحث القرآني

نتكلم فيه على قول الله تبارك وتعالى من سورة الحجرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات ١٣]. الخطاب هنا مُصَدَّر بنداء الناسِ عمومًا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، مع أنَّ أول السورة وُجِّه الخطابُ فيه للذين آمنوا، وسبب ذلك: أن هذا الخطاب في الآية التي نحن بصدد الكلام عليها موجَّهٌ لكل إنسان؛ لأنه يقع التفاخر بالأنساب والأحساب من كل إنسان، فيقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، والخطاب للمؤمن والكافر، والبر والفاجر. ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾، ﴿مِنْ ذَكَرٍ﴾: هو آدم، ﴿وَأُنْثَى﴾: هي حواء، هذا هو المشهور عند علماء التفسير، وذهب بعضهم إلى أن المرادَ بالذكر والأنثى هنا الجنس؛ يعني: أن بني آدم خُلِقوا من هذا الجنس: من ذكر، وأنثى. وهذا دليل يعني في الآية دليل على أن الإنسان يتكوَّن من أبيه وأمه، أي: يُخلَق من الأم والأب، ولا يعارض هذا قولُ الله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ [الطارق ٥ - ٧]؛ وذلك لأنَّا إن قلنا: إن المراد بالصلب: صلب الرجل، والترائب: ترائب المرأة، فلا إشكال، وإن قلنا بالقول الراجح: أن الصلب والترائب وصفان للرجل؛ لأن الماء الدَّافق هو ماء الرجل، أما المرأة فلا يكون ماؤها دافقًا، وعلى هذا فيكون الإنسان مخلوقًا من ماء الرجل، لكن ماء الرجل وحده لا يكفي، لا بد أن يتَّصلَ بالبوُيْضَةِ التي يُفرِزُها رحم المرأة، فيزدوج هذا بهذا، ويكون الإنسان مخلوقًا من الأمرين جميعًا، أي: من أبيه وأمه. ﴿خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ إذن: ذكر وأنثى: يحتمل أن يكون المراد بهما شخصين معينين، وهما من؟ آدم وحواء، أو أن المراد الجنس. أي: الذكر من بني آدم والأنثى من بني آدم، وعلى هذا التقدير –أي: على التفسير الثاني- يُشكِلُ أنَّ الله تعالى ذكر في آيات أخرى أن الإنسان خُلِقَ من ماءٍ دافقٍ وهو ماء الرجل. والجواب عنه: أن يقال: إن هذا الماء الدافق لا يمكن أن يتكونَ منه الجنين وحده، بل لا بد أن يتَّصلَ بالبويضة التي يفرزها رحم المرأة، وحينئذ يكون مخلوقًا من ذكر وأنثى. ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا﴾ [الحجرات ١٣]: يعني صيرناكم شعوبًا وقبائل، فالله تعالى جعل بني آدم شعوبًا وهم أصول القبائل. ﴿وَقَبَائِلَ﴾ وهم ما دون الشعوب، فمثلًا: بنو تميم يعتبرون شعبًا، وأفخاذ بني تميم المتفرعون من الأصل يسمون قبائل، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾. ما هي الحكمة؟ هل الحكمة من هذا الجعل أن يتفاخر الناس بعضهم على بعض، فيقول هذا الرجل: أنا من قريش، وهذا يقول: أنا من تميم، وهذا يقول: أنا من كذا، أنا من كذا؟ لا، ليس هذا المراد؛ المراد التعارف؛ أن يعرف الناس بعضهم بعضًا؛ إذ لولا هذا الذي صيَّره الله عز وجل ما عرف الإنسان من أي قبيلة هو؛ ولهذا كان من كبائر الذنوب أن ينتسبَ الإنسانُ إلى غير أبيه؛ لأنه إذا انتسب إلى غير أبيه غيَّر هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهم أنهم شعوب وقبائل من أجل التعارف، فيقال: هذا فلان بن فلان بن فلان إلى آخر الجد الذي كان أبًا للقبيلة. ﴿لِتَعَارَفُوا﴾ يعني: لا لتفاخروا بالأحسابِ والأنساب. ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات ١٣] ليس الكرم بأن يكون الإنسان من القبيلة الفلانية أو من الشعب الفلاني، الكرم هو: التقوى، وليس الكرم الذي هو كرم حقيقة إلا الكرم عند الله عز وجل، كرم الإنسان عند بني جنسِه كرم لا شك، ويُحمَدُ عليه الإنسان إذا ابتغى به وجه الله؛ لكن الكرم الحقيقي النافع هو الكرم عند مَن؟ عند الله، وبأي شيء يكون؟ بالتقوى، كلما كان الإنسان أتقى لله كان عند الله أكرم، فإذا أحببت أن تكون كريمًا عند الله عز وجل، فعليك بالتقوى، عليك بتقوى الله عز وجل، فكلها الخير، كلها البركة، كلها السعادة في الدنيا والآخرة، ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس ٦٢، ٦٣]. وما أكثر ما تَرِدُ على أسماعنا كلمة التقوى، فما هي التقوى؟ هل هي لفظ يجري على الألسن، ويمر بالآذان؟ لا، يجب أن يكون لفظًا عظيمًا موقَّرًا معظَّمًا محترمًا. التقوى: أن تقومَ بطاعةِ الله عز وجل، هذه التقوى، فتِّش هل أنت قائم بطاعة الله؟! فأنت متق، هل أنت مخالف؟! فأنت غير متق، ويفوت الإنسان من التقوى بقدر ما خالف فيه أمر الله ورسوله. التقوى إذن: طاعة الله بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فإذا رأينا إنسانًا يتقدَّم إلى المسجد، ويصلي مع الجماعة، ويخشع في صلاته ويؤديها بكل فضيلة، وآخر بالعكس يصلي في بيته، وصلاة يقتصر فيها على الواجب، أيهما أتقى لله؟ الأول أتقى. إذن: فهو أقرب عند الله، حتى لو كان مولى من الموالي، أو مولى الموالي، والآخر من أرفع الناس نسبًا؛ فإن الأتقى لله هو الأكرم عند الله عز وجل، كلُّ إنسان يحب أن يُحظَى عند السلطان في الدنيا، وأن يكون أقرب الناس إليه، فكيف لا نُحِبُّ أن نكون أقرب الناس إلى الله عز وجل وأكرمهم عنده؟! المسألة هوى وشيطان، وإلا لكان الأمر واضحًا. عليك بتقوى الله عز وجل؛ لتنال الكرم عند الله، نستغفر الله ونتوب إليه. ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات ١٣]، عليم بكل شيء؛ لأنه هنا مطلق، ولم يقيد بحال من الأحوال. ﴿خَبِيرٌ﴾ والخبرة هي: العلم ببواطن الأمور، العلم بالظواهر لا شك أنه صفة مدح وكمال؛ لكن العلم بالبواطن أبلغ، فيكون عليم بالظواهر، خبيرٌ بأيش؟ بالبواطن، فإذا اجتمع العلم والخبرة صار هذا أبلغ في الإحاطة. وقد يقال: إنَّ الخبرةَ لها معنى زائد على العلم؛ لأنَّ الخبيرَ عند الناس هو العليم بالشيء الحاذق فيه، بخلاف الإنسان اللي عنده علم فقط؛ ولكن ليس عنده حذق فإنه لا يُسَمَّى خبيرًا، فعلى هذا يكون الخبير متضمنًا لمعنى زائد على العلم. ثم قال الله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا﴾ [الحجرات ١٤]. من الأتقى عند الله؟ من الأكرم عند الله؟ * طالب: الأتقى. * الشيخ: الدليل؟ * الطالب: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾. * الشيخ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب