الباحث القرآني

قال الله تعالى: (﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ أي القرآن ﴿إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ طريق مستقيم). ﴿اسْتَمْسِكْ﴾ بمعنى تمسَّك، لكن زيدت حروفها للمبالغة، أي: تَمَسَّكْ تَمَسُّكًا قويًّا بالذي أوحي إليك، والموحِي هو الله عز وجل، والموحَى القرآن، وإنما قال: ﴿بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ ليثبِّتَ رسالته، وإلَّا لو قال بالقرآن كفى، لكن مِنْ أجل تثبيت الرسالة قال: ﴿بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾. والوحي هو إنباء الله سبحانه وتعالى لرُسُلِه بما يَشْرَعُه لعباده. بالذي أوحي إليك ﴿إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أمر وتثبيت؛ الأمر ﴿اسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾، التثبيت ﴿إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وإذا كان على صراط مستقيم فإنَّ العقل يقتضي ألا يحيد عنه، بل أن يستمسك به تمامًا. والصراط هو الطريق الواسع المستقيم، هذا الصراط، فالطريق الضيِّق لا يُسَمَّى صراطًا، والطريق المُعْوَجَّ يمينًا وشمالًا لا يُسَمَّى صراطًا؛ لا يُسَمَّى صراطًا إلا ما كان طريقًا واسعًا مستقيمًا؛ كما قال الله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة ٦] أي: الطريق الواسع المستقيم. (﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ﴾ لشَرَفٌ ﴿لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ لنزوله بلغتهم ﴿وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف ٤٤] عن القيام بحقه)، و﴿وَإِنَّهُ﴾ أي: القرآن الذي أوحي إلى الرسول ﷺ. ﴿لَذِكْرٌ لَكَ﴾ أي: (لشَرَفٌ) على ما فسَّره المفسر؛ أي: أنكم تشرُفون به لنزوله بلغتكم، ولكونه نزل على واحد منكم، فهو شَرَفٌ، هذا ما ذهب إليه المؤلف ولا مانع منه، لكن الصواب أن المراد بالذكر هنا التذكير؛ يعني: وإنَّ هذا الذي أوحي إليك لتذكير لك ولقومك. فإن قال قائل: يَرِد على هذا أنه تذكير لكل الناس. فالجواب أن هذا كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة ٢] مع أنه بعث لجميع الناس. وقوله: ﴿وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ سوف تسألون عن أيش؟ يقول: (عن القيام بحَقِّه)، ومِنْ حقِّه العمل به، ومن حقه إبلاغه للناس؛ ولهذا يعتبر العرب هم الإشعاع لعامة الناس في نقل الشريعة الإسلامية. مَنْ في الجزيرة حين نزل الوحي؟ ليس فيها إلا عرب، هؤلاء العرب بَثُّوا الإسلام في جميع أقطار الدنيا، وهذا من حقه. ﴿سَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ عما فيه من الأمر بالجهاد، هل جاهدتم أم لا؟ ﴿سَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ عن تنفيذ جميع شرائعه؛ ولهذا كلام المؤلف هنا جيد: (عن القيام بحقه). قال تعالى: (﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ﴾ أي: من غيره ﴿آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ ﴾ [الزخرف: ٤٥]). ﴿اسْأَلْ﴾ الخطاب للنبي ﷺ؛ لقوله: ﴿مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾. ﴿أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ وسوف يكون الجواب: نعم ولا لا؟ لا، والمقصود من هذا الأمر هو إقامة الحجة على المشركين الذين يعبدون مع الله إلهًا آخر؛ يقول للنبي ﷺ: اسأل جميع الرسل السابقين؛ هل جعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون حتى يقوم هؤلاء المشركون فيعبدون مع الله غيره؟ ففيه إقامة الحجة على المشركين؛ أن جميع الرسل السابقين ليس فيهم مَنْ يُحِلُّ الإشراك بالله عز وجل. فإن قال قائل: كيف يسألُ مَنْ أرسلَ الله من الرسل قبله وهو لم يدركهم؟ فالجواب أن هذا من أساليب اللغة العربية، والمعنى: إنك إنْ تسألْ على الفرض، والتقدير: فلن تجاب بـ(نَعَم)، بل سيكون الجواب (لا)، فهو مِن باب التحدي لهؤلاء المشركين الذين يَدَّعون أنهم على حق. ﴿أَجَعَلْنَا﴾ أي: صيَّرْنا (﴿مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ قيل: هو على ظاهره بأن جُمِعَ له الرسل ليلة الإسراء)؛ لأنه هو سألهم، لكن هذا القول ضعيف؛ لأن جميع الأحاديث الواردة في الإسراء ليس فيها هذا، ثم إنَّ المقصود بالإسراء إظهارُ شرف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل هذا من مقصود الإسراء إظهار شرفه على الرسل، فكيف يوجه إليهم هذا السؤال؟! فهذا القول ضعيف جدًّا، ولا وجه له. وقيل: المرادُ أممٌ من أهل الكتابين؛ وهذا أيضًا ليس بصواب؛ يعني هؤلاء يقولون: المعنى ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ يعني: اسأل الأمم الذين أُرْسِلَ إليهم، وهؤلاء باقون إلى بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا ضعيف مخالف لظاهر القرآن؛ القرآن يقول: ﴿اسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾، والأمم التابعة للرسل فيهم مشركون؛ فالنصارى أقرب الأمم فيهم مشركون، فلا يتوجه سؤالهم مع كونهم مشركين، هذا أيضًا ضعيف. قال: (ولم يسأل على واحدٍ من القولين؛ لأن المراد من الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأتِ رسول من الله ولا كتاب بعبادة غير الله) هذا صحيح؛ يعني أن السؤال إنما أُريدَ به إلزام قريش بأنه لم يأتِ أحد من الرسل بإباحة عبادة غير الله، هذا المقصود، وهذا كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [يونس ٩٤] لكن الآية الأخيرة، هذه السؤال فيها أعم؛ لأنه قال: ﴿اسْأَلِ﴾ الذين يقرؤون الكتاب من قَبْلِك، ولم يَخُصَّ ذلك بالرسل. * في هذه الآية الكريمة فوائد: وهى حَثُّ النبيِّ ﷺ على التَّمَسُّكِ بما أوحي إليه، وإذا كان النبي ﷺ يُحَثُّ على ذلك فنحن من باب أولى. * ومن فوائد هذه الآية: أن محمدًا ﷺ كان رسول الله حقًّا؛ لإثبات الوحي إليه. * ومن فوائد هذه الآية: تثبيت النبي ﷺ على الاستمساك بما أوحي إليه، وذلك بأنه على صراط مستقيم. * ومن فوائد هذه الآية: أن الشريعة التي جاء بها محمد ﷺ صراط مستقيم لا اعوجاج فيه ولا انحراف. * ومن فوائد الآية: أن هذا القرآن الكريم فيه ذكر للعرب، أي: شرف لهم، وفيه تذكير لهم؛ لقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف ٤٤]. * ومن فوائد الآية: تحميل المسؤولية العظيمة على العرب؛ وهي أنهم سوف يُسْأَلون عن هذا الوحي هل قاموا بحقِّه، أم لم يقوموا بحقه. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إقامةُ البينة الكبرى على أنه لم يقلْ أحدٌ من الرسل السابقين: إن هناك آلهةً تُعْبَد من دون الله؛ لقوله: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾. * ومن فوائد هذه الآية: إثبات اسم الرحمن لله عز وجل؛ لقوله: ﴿أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف ٤٥]، والرحمن هو أحد الاسمين اللَّذَيْنِ لا يُسَمَّى بهما غير الله؛ وهما الله والرحمن، لا يصف بهما سوى الله، الرحيم يوصف به غير الله، العزيز يوصف به غير الله، السميع يوصف به غير الله، وهكذا، لكنَّ هذين الاسمين الكريمين (الله، والرحمن) لا يوصف بهما أحد ولا يسمى بهما أحد إلا الله تعالى وحده لا شريك له. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: اتفاق الرسل على التوحيد، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء ٢٥]، وهذا قد اتَّفق عليه الرسل، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل ٣٦]، والرُّسل ما جاءت إلا لإصلاح الخلق، والخلق لا يمكن صلاحهم ولا إصلاحهم إلا إذا قاموا بتوحيد الله عز وجل، فإن لم يقوموا بتوحيده تشتَّتت قلوبهم، وصار كل واحد يذهب مذهبًا غير الآخر؛ لأنَّ كل أمة تريد أن يكون لها معبودٌ خاصٌّ، فتحصل الفوضى بين العباد، فإذا اجتمع الناس على عبادة الله وحده حصل الاتفاق بدون فوضى. ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ [الزخرف ٤٦] إلى آخره.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب