الباحث القرآني
ثم قال عز وجل: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا﴾ [الزخرف ٣٣]، إلى آخره، ﴿لَوْلَا﴾ هذه حرف فيها شرط، لولا كذا لكان كذا، فهي حرف امتناع لوجوب، ﴿لَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا﴾، لكن امتنع الْجَعْل لِئَلَّا يكون الناس أمة واحدة، ﴿لَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَة﴾ على أي شيء؟ على الكفر، بدليل قوله: ﴿لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ﴾ [الزخرف ٣٣]، ﴿لَجَعَلْنَا﴾ أي: صَيَّرْنَا، ﴿لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ﴾ وهو الله عز وجل، ﴿لِبُيُوتِهِمْ﴾ بدل مِن ﴿لِمَنْ﴾؟
بدل أيش؟ مر علينا البدل قريبًا.
* طالب: اشتمال.
* الشيخ: بدل اشتمال، ﴿لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ﴾، والبدل هو المقصود بالحكم، فيكون المعنى: لجعلنا لبيوت مَن يكفر بالرحمن، ﴿﴿سَقْفًا﴾ ﴾ بفتح السين وسكون القاف، وبضمهما جمعًا، بفتح السين وسكون القاف أي: سَقْفًا، مُفْرَد، وبضمهما جمعًا: ﴿سُقُفًا﴾.
الْمُفَسِّر قال: بهذا وهذا، فهل يعني ذلك أنهما قراءتان؟
فالجواب: نعم، هما قراءتان سَبْعِيَّتَان؛ لأنه لم يُحْفَظ أحدهما على الآخر، فهما صحيحان، وهذا أيضًا من أسلوبه -رحمه الله- أنه إذا قال: بكذا وكذا، فهما قراءتان سَبْعِيَّتَان.
إذن يجوز أن تَقْرَأ: ﴿﴿لِبُيُوتِهِمْ سَقْفًا مِنْ فِضَّةٍ﴾ ﴾، أو ﴿لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ﴾، أفهمت؟
﴿مِنْ فِضَّةٍ﴾ وهي معروفة، (﴿وَمَعَارِجَ﴾ كالدَّرَج من فضة أيضًا، ﴿عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾: يَعْلُونَ إلى السطح)، ﴿وَلِبُيُوتِهِمْ﴾ أي: وجعلنا لبيوتهم أيضًا، ﴿أَبْوَابًا﴾ يعني: (من فضة)، وجعلنا لهم سُرُرًا يعني: (من فضة، جمع سرير)، ﴿عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ﴾ أي: يعتمدون، ﴿وَزُخْرُفًا﴾: (ذهبًا).
استمع لهذا التصوير، يعني: لولا أن يكفر الناس جميعًا لجعلنا للكافر هذه البيوت سُقُفًا من فضة، يعني بدل ما يكون السقف من خشب، أو من صَبَّات أسمنت، يكون من فضة، والمراد فضة لامعة تجذب النظر، وتسر العين.
﴿مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ قيل: إنها الدَّرَج، وقال بعض المتأخرين: إنها المصاعد الكهربائية التي تسمى أسانسير، ولفت، ومصعد، وما أشبه ذلك؛ لأن الدرج العادية لا تلفت النظر كثيرًا، ولهذا قال: ﴿عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ أي: يَعْلُون حتى يصلوا إلى السقف، وأيًّا كان هذا أو هذا فإنها دَرَج غريبة ليست كالدَّرَج المعتاد، والثالث: أبواب.
* طلبة: أبواب.
* الشيخ: أبواب، المؤلف يقول: (من فضة)، بناء على ما ذُكِرَ في أول الآية، ﴿سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ﴾، ولكن هذا ليس بِمُتَعَيِّن، بل نقول: ﴿أَبْوَابًا﴾: أبوابًا فخمة، ليست كالمعتادة، سواء من فضة، أو من حديد، أو من خشب، المهم أنها أبواب غير معتادة.
﴿وَسُرُرًا﴾ جمع سرير، وهو ما يُجْلَس عليه، ﴿عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ﴾، أيضًا مع السُّرُر متكأ يَتَّكِئ عليه، أي: يُعْتَمَد، سواء من خلف الظهر، أو من اليمين، أو من الشمال، وهو كناية عن كثرة الإرفاه.
﴿وَزُخْرُفًا﴾ هذا الذهب، فهي كم من واحد؟ سُقُفًا من فضة، معارج عليها يظهرون، أبوابًا فخمة، سُرُرًا مُرِيحَة، زُخْرُفًا، يعني ذهب، خمسة أشياء، يعني المعنى: (لولا خوف الكفر على المؤمن من إعطاء الكافر ما ذُكِرَ لأعطيناه ذلك لقلة خَطَر الدنيا عندنا، وعدم حَظِّه في الآخرة في النعيم).
ووجه ذلك أن النفوس مَيَّالَةٌ إلى اللهو واللعب والتَّرَف، فإذا رأى الإنسان هذا الترف للكافر فإن ذلك يُغْرِيه ويَغُرُّه، كما يُفْعَل الآن بالنسبة للمُنَصِّرِين ضُلَّال النصارى، يمشون على الأقاليم الفقيرة، ويُزَيِّنُون لهم الدنيا، وهؤلاء الفقراء يتبعونهم؛ لأن النفوس مجبولة على محبة المال والفخر والخيلاء.
قال عز وجل: ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف ٣٥]، الْمُفَسِّر قال: (إنْ مُخَفَّفَة من الثقيلة) الْمُشَدَّدَة، والْمُخَفَّفَة ما حُذِفَ تشديدها، (وإنْ مُخَفَّفَة من الثقيلة، ﴿﴿كُلُّ ذَلِكَ لَمَا﴾ ﴾ بالتخفيف، فـ(ما) زائدة، وبالتشديد بمعنى (إلَّا))، أي أن فيها قراءتين: ﴿﴿لَمَا﴾ ﴾ و﴿لَمَّا﴾، (فـ(إن) نافية)، خَلَّطَ المؤلف رحمه الله.
الآن (إن) أعربها على أنها مُخَفَّفَة من الثقيلة فهي مؤكِّدة، ثم قال في الأخير: فإن نافية، وفرق بين الإثبات والنفي، لكن هذا ينبني على (لَمَا) إن قُرِئَت بالتخفيف فـ(إنْ) مُخَفَّفَة من الثقيلة، وإن قُرِئَت بالتشديد فـ(إنْ) نافية، انتبه.
فصار اختلاف الإعراب في (إنْ) مبنيًّا على اختلاف القراءة في (لَمَا)، فعلى قراءة التشديد تكون (إنْ) نافية، و(لَمَّا) بمعنى (إِلَّا)، وشاهد هذا قوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق ٤]، أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ، وأما إذا قُرِئَت (لَمَا) بالتخفيف فـ(إِنْ) مُخَفَّفَة من الثقيلة، وتكون (مَا) زائدة، ويكون التقدير: وإنْ كلُّ ذلك لَمَتَاعُ الحياة الدنيا؛ لأن (ما) زائدة، أرجو الانتباه.
(لَمَا) فيها قراءتان؛ الأولى: التشديد، وبناء على هذه القراءة تكون (إنْ) نافية، و(لَمَّا) بمعنى (إلَّا)، والشاهد لهذا قوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾، أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ، القراءة الثانية: (لَمَا) بالتخفيف، وعلى هذه القراءة تكون (إِنْ) مُخَفَّفَة من الثقيلة بمعنى (إِنَّ)، وتكون (ما) زائدة، ويكون تقدير الكلام: إن كل ذلك لَمَتَاعُ الحياة الدنيا، واضح ولَّا غير واضح؟
* الطلبة: واضح.
* الشيخ: المؤلف رحمه الله دَمَجَ القراءتين، ولكن هذا هو التفصيل، كيف التفصيل؟
* طالب: إن كانت ..
* الشيخ: إن كانت (لَمَّا) مشددة.
* الطالب: تكون (إنْ) نافية.
* الشيخ: تكون (إنْ) نافية.
* الطالب: و(لَمَّا) بمعنى (إلَّا).
* الشيخ: و(لَمَّا) بمعنى (إلَّا) تمام، والتقدير: ما كل نفس إلا عليها..
﴿﴿لَمَا﴾ ﴾ فيها قراءتان: الأولى التشديد، وبناء على هذه القراءة تكون (إِنْ) نافية، و(لَمَّا) بمعنى (إلا)، والشاهد لهذا قوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق ٤] أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ، القراءة الثانية ﴿﴿لَمَا﴾ ﴾ بالتخفيف، وعلى هذه القراءة تكون (إِنْ) مُخَفَّفَةً من الثقيلة، بمعنى (إنَّ) وتكون (ما) زائدة، ويكون تقدير الكلام: إن كلُّ ذلك لمتاع الحياة الدنيا.
المؤلف رحمه الله دمج القراءتين ولكن هذا هو التفصيل.
كيف التفصيل؟
* طالب: إن كانت (لَمَّا) مشددة تكون (إِنْ) نافية، و(لَمَّا) بمعنى (إلَّا).
* الشيخ: و(لَمَّا) بمعنى (إلَّا) تمام، والتقدير: ما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا.
* الطالب: إن كانت مخففة تكون (إِنْ) مخففة من الثقيلة.
* الشيخ: تكون مخففة من الثقيلة، فهي حرف توكيد و(ما)..
* طالب: و(ما) زائدة.
* الشيخ: و(ما) زائدة، والتقدير: وإن كل ذلك لمتاع الحياة الدنيا؛ لأن (ما) زائدة.
(﴿متاع الحياة الدنيا﴾ يُتَمَتَّع به فيها ثم يزول، ﴿وَالْآخِرَةُ﴾ الجنة ﴿عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ) الآخرة، لو قيل: كل الآخرة: الجنة، وعرسات القيامة، وسلامتهم من شدة هول القيامة، وغير ذلك، لكان أعم، فصارت الدنيا للكُفَّار مهما أُعْطوا فإنه نعيمهم، والآخرة للمتقين جعلنا الله وإياك منهم.
واعلم أن هذا الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، مهما بلغَتْ من النعيم فإنها سجن المؤمن، ومهما بلغَتْ من الجحيم فإنها جنة الكافر. اسمع القصة، ماذا قلنا؟
* طالب: أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، مهما بلغ من النعيم فإنها سجن المؤمن، ومهما بلغ من العذاب فإنها جنة الكافر.
* الشيخ: هذه قِصة ذكرها العلماء في ترجمة ابن حجر رحمه الله، وكان ابن حجر قاضي القضاة في مصر، فمرَّ ذات يوم من بيته إلى مَقرِّ عمله على العربة تجرها الخيول أو البغال في موكب؛ مَرَّ ذات يوم برجل يهودي زيات -يعني: يبيع الزيت- فاستوقف اليهودي قاضي القضاة، وقال له: إنَّ نبيَّكم يقول: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، كيف يتفق هذا مع حالي وحالك؟ أنت الآن في نعيم، تَجُرُّك الخيول، ولك جاه وشرف ومنزلة، وهو اليهودي بهذا الذُّلِّ ثيابٌ وَسِخَة وتعب، كيف هذا؟
أتدرون، ماذا قال؟
قال: نعم، ما أنا فيه الآن بالنسبة لنعيم الجنة سجن؛ لأن نعيم الجنة أعلى وأعلى من هذا، أما بالنسبة لك فأنت في جنة بالنسبة لعذاب النار؛ لأنك إن مت على اليهودية فأنت في النار، ويُعْتَبر ما هو فيه الآن اليهودي يعتبر جنة، اليهودي -فيما يبدو لي، والله أعلم- أنه يَنْشُد الحقيقة، يريد الحقيقة، فلما بيَّن له ابن حجر هذا، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، سبحان الله! الإنسان العاقل الذي يريد الحقيقة لا بد أن يهتدي.
المهم يقول عز وجل لما ذكر هذه الأشياء: ﴿لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ﴾ [الزخرف ٣٣] إلى آخره، قال: ما هذا إلا متاع الحياة الدنيا، شوف متاع كالمتاع يحمله المسافر ﴿وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف ٣٥]؛ لأن الدنيا مهما طالت بالإنسان الحياة فلا بد من الزوال، إما أن تزول الدنيا عنه، وإما أن يزول هو عن الدنيا، وبهذا قال الشاعر:
؎لَا طِيبَ لِلْعَيْشِ مَا دَامَتْ مُنَغَّصَةً ∗∗∗ لَـــــذَّاتُـــــهُ بِادِّكَارِ الْمَـــــوْتِوَالْهَـــــرَمِ
صحيح الإنسان إذا تذكر، وإذا مآله: إما موت مبكر، وإما هرم مخرِّف.
الآن يوجد الذين بلغوا عُمُرًا طويلًا ووصلوا إلى حدِّ الهذْرمة، هم بأنفسهم متضايقون وأهلوهم أيش؟ متضايقون، تجد الإنسان يتضايق من أبيه وأمه، وإن كان المؤمن يصبر، لكن لا بد أن يتضايق، أو موت عاجل وينتهي الموضوع، هذا حال الدنيا في الواقع، ولذلك الغنيمةَ الغنيمة، بادر العمر قبل فواته، اعمل صالحًا، وطلب العلم من أفضل الأعمال، بشرط أن يكون العالم عاملًا، أما علم بلا عمل فالجهل والله خير منه.
* طالب: أحسن الله إليكم، القاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، الآية ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ [الزخرف ٣٢]، لماذا لا يحتمل المعنيين: السخرية، وأيضًا المعنى الآخر؟
* الشيخ: وهو؟
* الطالب: السخرية وأيضًا..
* الشيخ: لا، ما يستقيم؛ لأنَّ اختلاف الطبقات ليس من أجل أن يستهزِئ بعضُهم ببعض، لكن من أجْل أن يُسَخِّر بعضُهم بعضًا بالعمل، ولا يمكن أن الله عز وجل بحكمته يجعل الطبقات مختلفة علشان يستهزئ بعضهم ببعض.
* طالب: قول الله عز وجل: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ﴾ [الزخرف ٣٣] إلى أن قال: ﴿وَزُخْرُفًا﴾ [الزخرف ٣٥] هل قوله: ﴿وَزُخْرُفًا﴾ يشمل ما شمله الفضة؛ يعني يجعل البيوت..؟
* الشيخ: المهم أنه ذَهَبٌ سواء كان سقفًا أخرى ذهبًا، أو تماثيل ذَهَبٍ، أو غير ذلك، عام.
* طالب: يقول المؤلف: ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ﴾ يعني: أنه الجنة هل هذا من تأويله؟
* الشيخ: لا، من التقسيم في التفسير، لا شك أنها من التأويل؛ لأن الجنة رحمة، وذكرنا أن الله عز وجل قال للجنة: «أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشاءُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٨٥٠)، ومسلم (٢٨٤٦ / ٣٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، لكن كونه يقصرها على أنواع من الرحمة (...).
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف ٣٦ - ٣٩] .
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ لمَّا ذكر أحوال الدنيا، وأنه لولا أن يكون الناس أمة واحدة على الكفر لمتَّع الكفار بما سمعتم، وهذه الدنيا لا بد أن تَحمِل الإنسان على الإعراض عن ذكر الله عز وجل؛ قال: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا﴾.
قوله: ﴿مَنْ يَعْشُ﴾ فسَّرها بـ(يعرض)، ولكن التفسيرَ المطابق أن معنى ﴿يَعْشُ﴾ أي: يتعامى حتى يرى رؤيةَ الأعشى الذي يُبصِر في النهار ولا يُبْصِر في الليل، فمعنى ﴿يَعْشُ﴾ أي: يتعامى كما فسرها بذلك ابن كثير وغيره من المفسرين، ولكن المفسر فسَّرها بـ(يعرض)؛ لأنه من لازم التعامي الإعراض قال: (﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ أي: القرآن)، فجعل المفسِّر ذكر الرحمن يعني القرآن، وأضافه الله إلى الرحمن؛ لأن إنزاله رحمة للخلق، هكذا مشى المفسر رحمه الله.
والصواب خلاف ذلك، والمراد بـ ﴿ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ تَذَكُّر الرحمن يعني: مَن تعامى عن ذكر الرحمن بقلبه واستحضاره لعظمة ربه وجلاله فإنه يُقيَّد له الشيطان فيكون هذا جزاءً على إعراضه وتعاميه عن ذكر ربه، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾ [الجن ١٧]، فالصواب أن المراد بـ ﴿ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ ليس القرآن، بل المراد بـ ﴿ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ ذكر الله نفسه؛ يعني: يغفُل قلبه عن ذكر الله ولا يذكر الله بقلبه، فهذا هو الذي يُقيَّد له الشيطان فيتَّبِع هواه كما قال عز وجل ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف ٢٨].
وقوله: ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا﴾ [الزخرف ٣٦] قال: (نسبب له)، وهذا قريب من المعنى المطابق، وإلَّا فإن معنى ﴿نُقَيِّضْ﴾ أي: نهيِّئ له شيطانًا يحل محل ذكر الله عز وجل فيستولي الشيطانُ على قلبه، والشيطان يعظم بالفحشاء والمنكر، كما قال الله عز وجل: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة ٢٦٨].
﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا﴾ فهو أي: الشيطان ﴿لَهُ﴾ أي: للعاشي عن ذكر الله، قرين لا يفارقه -نعوذ بالله من الشيطان الرجيم- ووجه ذلك أن الإنسانَ فعَّال مريد متحرِّك قلبًا وقالَبًا، فلا بد من الاشتغال بشيء؛ فإما أن يكون بذكر الله، وإما أن يكون بوساوس الشيطان ولا بد، لا تجد أحدًا يكون قلبه ساكنًا لا يتحرك ولا يريد، هذا مستحيل؛ ولهذا جاء في الحديث في الأسماء: «أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ»[[أخرجه أبو داود (٤٩٥٠) من حديث أبي وهب الجُشَمِيِّ رضي الله عنه.]] «هَمَّام» : العبادة القلبية، و«حًارٍثٌ» :» العمل، كل إنسان لا بد، فيهيِّئ له هذا الشيطان الذي يقارنه ولا يفارقه.
(﴿وَإِنَّهُمْ﴾ أي الشياطين ﴿لَيَصُدُّونَهُمْ﴾ أي: العاشين ﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾ أي: طريق الهدى ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ ).
﴿يَحْسَبُونَ﴾ أي: العاشون الذين صدتهم الشياطين ﴿أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (في الجَمْع رعاية معنى من).
الشيطان -نعوذ بالله منه- إذا استولى على قلب الإنسان زَيَّن له سوءَ عملِه، وظنَّ أنه على حق، ولكنه على باطل، وهؤلاء هم أخسر الناس أعمالًا، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا﴾ [الكهف ١٠٣]. الجواب: نعم، بيَّنها الله؛ قال: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف ١٠٤]؛ لأن الشيطان زيَّن لهم هذا، وقال: أنتم على حق، أنتم الأعلون، وسوَّل لهم، وأملى لهم حتى تبعوه.
ولهذا قال: (﴿وَإِنَّهُمْ﴾ يعني الشياطين ﴿لَيَصُدُّونَهُمْ﴾ أي: العاشين ﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾ ) أي: سبيل الحق وطريق الهدى ﴿وَيَحْسَبُونَ﴾، الواو تعود على مَنْ؟
* طالب: على (العاشين).
* الشيخ: تعود على (العاشين) ﴿أَنَّهُمْ﴾ أي: العاشين، ﴿مُهْتَدُونَ﴾ أي: على هدى، وهذا غاية ما يكون من الخسران، والعياذ بالله، أن يتمادى الإنسان بالباطل وهو يظن أنَّه على حق.
قال المفسِّر: (في الجَمْعِ رعاية معنى (مَن)) الجمع وهو قوله: ﴿يَحْسَبُونَ﴾، ﴿إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ﴾؛ ففيها رعاية بمعنى مَنْ في قولِه: ﴿مَنْ يَعْشُ﴾ كلمة (مَنْ)، و(ما) وما أشبههما من الألفاظ العامَّة يجوزُ مراعاة معناها، ومراعاة لفظها، اللفظ مفرد ولَّا جمع؟ مفرد، ﴿وَمَنْ يَعْشُ﴾؛ ولذلك عاد الضمير إليه للمفرد ﴿وَمَنْ يَعْشُ﴾، ﴿نُقَيِّضْ لَهُ﴾ أيضًا مراعاة اللفظ، ﴿فَهُوَ لَهُ﴾ مراعاة اللفظ، ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ﴾ مراعاة المعنى، ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ كذلك مراعاة المعنى، واضح؟
إذن إذا أتتك (مَنْ) موصولة كانت أو شرطية فلك أن تراعي في ضميرها اللفظة فتجعله مفردًا، والمعنى فتجعله حسب ما أريد به، وانظر إلى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [الطلاق ١١] كل هذا مراعاة أيش؟
* طلبة: اللفظ.
* الشيخ: اللفظ، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ مراعاة المعنى، ﴿قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ﴾ مراعاة اللفظ، ﴿قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ [الطلاق ١١] فتجد هذه الآيات تارةً روعي اللفظ، وتارة روعي المعنى ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
(﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا﴾ العاشي بقرينه يوم القيامة قال له: ﴿يَا﴾ للتنبيه ﴿لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ أي: مثل بُعْدِ ما بين المشرق والمغرب ﴿فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ أَنْتَ لي).
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا﴾ يعني الشيطان وقرينه، وذلك يوم القيامة، تبرأ كل واحد من الآخر، وقال له: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ ﴿يَا﴾ هذه للتنبيه، ولا تصح أنْ تكونَ للنداء؛ لأن ﴿يَا﴾ التي للنداء لا تدخل إلا على اسم، لا تدخل على حرف كما هنا، ولا على فعل، فإذا وجدتها داخلة على حرف أو فعل فهي للتنبيه.
﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ [يس ٢٦] فهي للتنبيه، وقيل إن: (يا) داخلة على منادى محذوف والتقدير في هذه الآية: يا هذا ليت بيني وبينك بعد المشرقين؛ يعني: تُقدِّر منادى اسمًا؛ يا هذا يا ليت بيني بينك بعد المشرقين.
فإذا قال قائل: أيهما أولى أن نُقَدِّر منادى يناسب السياق من أجل أن يصِح حلول (يا) في هذا المكان، أو نقول: الأصل عدم التقدير ونجعل (يا) للتنبيه؟
* طالب: الثاني.
* الشيخ: الثاني أولى؛ لأنه إذا دار الأمر بين أن يكون في الكلام شيء محذوف أو لا؛ فالأولى ألَّا يكون فيه شيء محذوف.
وقوله: ﴿بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ يقول المؤلف: (ما بين المشرق والمغرب)، وعليه فيكون في الكلام تغليب، وهو تغليب المشرق على المغرب، والتغليب هذا جائز في اللغة العربية؛ مثل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٢٧)، ومسلم (٨٣٨ / ٣٠٤) من حديث عبد الله بن مُغَفَّل المزني رضي الله عنه.]] إذا جعلنا مُطْلَق الأذان هو الأذان الذي يكون بكل وقت، أما إذا جعلنا الأذان بمعنى الإعلام، فإن الأذانَيْنِ ليس فيه تغليب؛ لأن كلًّا من الإقامة والأذان يُسمَّى الأذان.
لكن قولهم: (القَمَران) يعنون بذلك الشمس والقمر، قولهم: (العُمَران) يعنون بذلك أبا بكر وعمر، هذا من باب التغليب، فيكون ﴿بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ أي: بعد ما بين المشرق والمغرب، ولكن ذُكِرَ بلفظ المشرق تغليبًا.
ويحتمل أن يكون المعنى ﴿بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ أي: مشرقي الشمس شتاءً ومشرقها صيفًا؛ لأن بينهما مسافة عظيمة جدًّا لا يعلم قدْرَها إلا الله عز وجل، وكلا المعنيين صحيح؛ يعني: سواء جعلنا اللفظ فيه تغليب أو لا، والمراد أن هذا العاشي الذي أضله الشيطان إذا جاء معه يوم القيامة تبرَّأ منه، وقال: ليتك بعيد عني، وأنا بعيد عنك.
وقوله: ﴿فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ هذه الجملة إنشائية للذمِّ، قال المؤلف: أنتَ يعني أنه قد حُذِفَ فيها المخصوص؛ لأن (بئس) و(نعم) لا بد فيها من فاعل ومخصوص، وتفصيل ذلك في كتب النحو، ولا علينا منه في هذا المكان.
قال الله تعالى: (﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ﴾ أي: العاشين تمنِّيكم وندمكم ﴿الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ﴾ أي: تبيَّن لكم ظلمُكم بالإشراك في الدنيا أنَّكم مع قرنائكم ﴿فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ عِلَّةٌ بتقديرِ اللَّام؛ لعدم النفع و﴿إِذْ﴾ بدل من ﴿الْيَوْمَ﴾ ) يعني: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب، هذا هو الصحيح، وعلى هذا فتكون ﴿أَنَّكُمْ﴾ ليست للتعليل، كما ذهب إليه المفسر، بل هي فاعل ينفع، والمعنى لا ينفعكم اشتراككم في العذاب، ووجه ذلك أنَّه جرت العادة أن الإنسان إذا عُذِّب ورأى غيرَه يُعَذَّب هان عليه الأمر وتسلَّى، وفي يوم القيامة يشترك أهل النار في العذاب، لكن هل ينفعُهم هذا شيئًا؟ لا ينفعهم، فهذا هو الصواب الذي تدل عليه الآية، أما المؤلف فجعل (أنَّ) ﴿أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ (عِلَّةٌ بتقديرِ اللَّام) أي: أنَّكم في العذاب مشتركون، ولكن هذا بعيد من اللفظة.
قوله تعالى لما ذكر ما يجعله للكافرين: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ قال: ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ﴾ إلى آخره.
* في هذه الآية فوائد: أن هذه المُتَعَ الدنيويَّة ما هي إلا متاع الحياة الدنيا، فهي زائلة، ويتفرع على هذه الفائدة ألَّا يتعلقَ الإنسان بها، وألا يهتم بها، وأن يرى أنه عايش بدونها، وليس لك من الدنيا إلا ما أكلتَ فأفنيتَ أو لبِسْتَ فأبليتَ أو تصدَّقْتَ فأمضيتَ.
* ومن فوائد هذه الآية: التزهيدُ في هذه الأمور، وألًّا تهتم بها، لا تعلِّقْ قلبَكَ بمظاهرِ الدُّنْيا، فإنَّك إن فعلتَ هلكتَ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا رأى من الدنيا ما يعجبه قال: «لَبَّيْكَ، إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ»[[أخرجه البيهقي (٩٠٣٥) من حديث مجاهد مرسلًا.]] «لَبَّيْكَ» يعني إجابةً لك ليصرِفَ قلبَه عن التعلُّقِ بما رآه مما يعجبه في الدنيا، ثم وطَّن نفسه، وقال: «إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ» والله هذا هو الحق أن عيش الدنيا فإنه مهما طاب لك محفوفٌ بنكدٍ قبلَه ونكدٍ بعدَه؛ لأن لم تحصله غالبًا إلا بتعب، ثم إذا حصَّلْتَه هل ستبقى لك أو لا تبقى؟ هو لا بد (...) إما أن تموت وتتركه، وإما أن يهلك وأنت حي.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: البُشرى للمتَّقين وأنَّ لهم الآخرة، فالآخرة خير للمتقين، ففيه البَشارة وأنَّ الإنسان المتقي إذا انتقل من الدنيا فلا يندم؛ لأنه انتقل إلى دار أفضل وأحسن مما ترك.
* وفيه: الحسُّ على التقوى؛ وذلك لأنَّ ذِكْرَ الجزاء والثواب يستثير النفس حتى يصل الإنسان إلى الوصف الذي يحصل به على الثواب.
ثم قال عز وجل: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ إلى آخره.
* في هذه الآية الكريمة فوائد:
* منها: التحذير من الغفلة عن ذكر الله؛ لأنك إذا غفلت عن ذكر الله حلَّ محل ذكر الله أيش؟ وساوس الشيطان.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنَّ الله سبحانه وتعالى يعاقب العبد بما يقتضيه الذنب، وهذا كقوله تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ [العنكبوت ٤٠] فهذا الرجل لما أخلى قلبه من ذكر الله عوقب أن يحلَّ محله الشيطان.
* ومنها: الحظر من قرناء السوء؛ لأن الشياطين ليس اسمًا خاصًّا بشياطين الجن، بل حتى الإنس لهم شياطين، أليس كذلك؟
* طالب: بلى.
* الشيخ: قال الله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام ١١٢]، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس ١] إلى قوله: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ [الناس ٦].
ففي هذا التحذير من قرناء السوء، وقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قرناء السوء؛ حيث شبَّه قرينَ السوء أو جليس السوء بنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة، ثم إن الواقع كذلك، فما أكثر ما يمر علينا ممن يتصلون بنا يَشْكُون من قوم كانوا مستقيمين وأئمة مساجد أو مؤذني مساجد، اتصل بهم أناس من أصحاب السوء فانحرفوا انحرافًا كاملًا، ومثل هؤلاء -والعياذ بالله- إذا انحرفوا -نسأل الله الثبات- يكون انحرافهم أشد وأعظم، كالماء الذي حبسته ثم أطلقت الحبس سيندفع بقوة.
فالمهم أن الإنسان إذا أعرض عن ذكر الله قيضَّ له الشيطان من الإنس، كمل.
* طالب: ومن الجن.
* الشيخ: ومن الجن، فهو له قرين.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن المُلازِمَ أشد تأثيرًا من العابد الذي يلازمك ويبقى قرينًا معك، أشد تأثيرًا من العابد؛ بمعنى أنك لو جلست مع إنسان صاحب سوء لمدة ساعة أو ساعتين ربما سيؤثِّر فيك، وربما يتأثر، لكن إذا كان مقارنًا فإنه سيؤثر؛ ولهذا قال: ﴿فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾.
أقول هذا لتحْذَروا من الاستمرار لقرناءِ السُّوءِ؛ ولتعلموا أنكم متى علمتم أنه قرين سوء وجب عليكم البعد عنه، لا تقل: أخشى أن يتأثر، أخشى أن يقول: ليش؟ الرجل كان صاحب لي ثم فارقني؟ لا يهمُّك، الذي يهمك هو نفسك فأنقِذْها.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: عمى القلب -والعياذ بالله- لما تعامى بعينه عن ذكر الرحمن وبقلبه أيضًا قُيِّضَ له هذا الشيطان، الذي يصده عن الهدى، وهو يحسب أنه مهتد ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف ٣٧]، وما أكثر هذا، أهل البدع الذين أصرُّوا على بِدَعهم صغيرة كانت أم كبيرة، ألم يكونوا قد يستحسونها؟
* طالب: بلى.
* الشيخ: لماذا استحسنوها وهي بدعة ضلالة؟ لأن الشيطان صدَّهم عن الحق، أهل الأفكار الرديئة كالعلمانيين والشيوعيين والبعثيين ومن أشبههم لماذا استمروا على ذلك؟ لأن الشيطان ركب قلوبهم -والعياذ بالله- فجعلهم يظنون أن هذا السيئ حسنًا، وهذا أشد ما يكون من الفتنة؛ أن يرى الإنسان السيئ حسنًا فيمضي فيه.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن بعضَ الظنِّ إثم، وجهه أن هؤلاء ظنوا أنهم على حق فاستمروا في الباطل .
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن هذا القرين في الدنيا يتبرأ من صاحبه يوم القيامة، يقول: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ [الزخرف ٣٨] .
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه مع تمنِّيه هذا الذي لم يدرك منه شيئًا يثني على قرينه هذا بالذم والقدح، فيقول: ﴿فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من القرناء مَن هو قرينُ خير وقرين سوء، وهو كذلك، وقد بيَّن النبي ﷺ هذا أبين شيء حيث قال: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ؛ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ» يعني: يعطيك هدية، «وَإِمَّا أَنْ يَبِيعَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً، وَجَلِيسُ السُّوءِكَنَافِخِ الْكِيرِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٥٣٤)، ومسلم (٢٦٢٨ / ١٤٦) من حديث أبي موسى رضي الله عنه، ولفظه: «مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يُحْذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة».]] إما أن يحرق ثيابَك بالشرَّرِ الذي يتطاير من النار إذا نُفِخَت، وإما أن تَجِدَ منه رائحةً كريهة.
* من فوائد هذه الآية الكريمة ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ﴾ [الزخرف ٣٩]: أن المشتركين في عذاب الآخرة لا ينفعهم الاشتراك، بخلاف الاشتراك في العذاب في الدنيا فإنه يُسَلِّي الإنسان ويهون عليه؛ ولهذا قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر:
؎وَلَــوْلَا كَــثْرَةُ الْبَاكِــــينَ حَــــــوْلِي ∗∗∗ عَـلَى إِخْــوَانِهِمْ لَقَـتَلْتُ نَـــفْسِي؎وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ∗∗∗ أُسَــلِّي النَّــــفْسَ عَــــنْهُبِالتَّــــأَسِّي
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء المُعذَّبين هم الذين ظلموا، وما ظُلِموا؛ لقوله: ﴿إِذْ ظَلَمْتُمْ﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنهم أي المعذبين يعرفون أنهم مشتركون في العذاب، ولكن ذلك لا يُسلِّيهم، ولا يهوِّن عليهم المصيبة.
{"ayahs_start":33,"ayahs":["وَلَوۡلَاۤ أَن یَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ لَّجَعَلۡنَا لِمَن یَكۡفُرُ بِٱلرَّحۡمَـٰنِ لِبُیُوتِهِمۡ سُقُفࣰا مِّن فِضَّةࣲ وَمَعَارِجَ عَلَیۡهَا یَظۡهَرُونَ","وَلِبُیُوتِهِمۡ أَبۡوَ ٰبࣰا وَسُرُرًا عَلَیۡهَا یَتَّكِـُٔونَ","وَزُخۡرُفࣰاۚ وَإِن كُلُّ ذَ ٰلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۚ وَٱلۡـَٔاخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلۡمُتَّقِینَ","وَمَن یَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ نُقَیِّضۡ لَهُۥ شَیۡطَـٰنࣰا فَهُوَ لَهُۥ قَرِینࣱ","وَإِنَّهُمۡ لَیَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِیلِ وَیَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ","حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَنَا قَالَ یَـٰلَیۡتَ بَیۡنِی وَبَیۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَیۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِینُ","وَلَن یَنفَعَكُمُ ٱلۡیَوۡمَ إِذ ظَّلَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ فِی ٱلۡعَذَابِ مُشۡتَرِكُونَ"],"ayah":"وَمَن یَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ نُقَیِّضۡ لَهُۥ شَیۡطَـٰنࣰا فَهُوَ لَهُۥ قَرِینࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق