الباحث القرآني
ثم قال عز وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ [الزخرف ٢٦]، (إذ) مفعول يُبَيِّن المحذوف، التقدير: واذكر إذ قال إبراهيم، وإنما ذَكَرَ إبراهيم؛ لأن إبراهيم تنتمي إليه جميع الأمم؛ اليهود قالوا: إنه يهودي، والنصارى قالوا: إنه نصراني، والعرب قالوا: إنهم مُتَّبِعُون مِلَّتَه، فأراد الله أن يُبَيِّن أن إبراهيم عليه السلام كان بريئًا من الشرك وأهله، ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾، (إذ) أيش؟
* طالب: (إذ) فعل يبين المحذوف.
* الشيخ: فعل أو فاعل أو مفعول؟
* طالب: التقدير: واذكر.
* الشيخ: إي، لكن هو ويش إعرابه؟
* طالب: المحذوف تقديره: واذكر.
* الشيخ: أحسنت، تقديره: اذكر هذا الواقع، ﴿إِذْ قَالَ﴾، اذكر إذا قال إبراهيم، إبراهيم الخليل عليه السلام هو إمام الحنفاء الذي قال الله تعالى فيه لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل ١٢٣]، ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾، ﴿لِأَبِيهِ﴾، وهو آزر، ﴿وَقَوْمِهِ﴾: الذين أُرْسِلَ إليهم، وقد ذَكَرَ الله تبارك وتعالى مُحَاجَّة إبراهيم لأبيه في سورة مريم على وجه مبسوط، وفي غيرها على وجه مختصر أحيانًا، ومتوسط أحيانًا.
فَجَرَتْ المحاورة بينه وبين أبيه في سورة مريم، فقال عز وجل: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٤١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم ٤١، ٤٢]، إنْ دَعَوْتَهُ لم يسمعك، وإن وافقتَه لم يَرَكَ، وإن استعنت به لم ينفعك، ولا يغني عنك شيئًا، بعده؟
* طالب: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ [مريم ٤٣].
* الشيخ: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾، الخطاب الآن مَبْنِيٌّ على الترقيق، والتلطيف، والتَّنَزُّل أمام الأب، ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾، ولم يقل: يا أبت إنك جاهل وأنا عالم، بل قال: ﴿إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾، وهذا من أَدَبِهِ عليه السلام، جاءه من العلم الوحي، وأبوه ليس كذلك، جاءه من العلم التوحيد وأبوه ليس كذلك، ﴿فَاتَّبِعْنِي﴾، الولد يقول لأبيه: اتَّبِعْنِي؛ لأن الابن معه الحق، والأب ليس كذلك.
﴿أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (٤٣) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ [مريم ٤٣، ٤٤]، ﴿لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ يعني: عبادة الطاعة، وكل مَن أطاع شيئًا فقد عَبَدَهُ على حسب الحال.
﴿الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ أي: عاصيًا، ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ [مريم ٤٥] أي: يصيبك، ﴿فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [مريم ٤٥]، فجعل ولايته للشيطان من العذاب؛ لأن إعراض الإنسان عن الحق مصيبة ببعض الذنوب، كما قال عز وجل: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ [المائدة ٤٩]، قف، نحن نظن أن العقوبات هي البلاء ينزل بالإنسان، من مرض وفقر وفَقْدٍ (...)، وما أشبه ذلك، وهذا حق، بلى العقوبة، لكن هناك عقوبة أشد، وهي (...)، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾، هذا أعظم من عقوبة البلاء الحسي الجسدي، ولهذا قال: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [مريم ٤٥]، ماذا كان جواب الأب؟ جواب الأب جواب قاسٍ، ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ [مريم ٤٦]، شوف، أنكر عليه الرغبة، ولهذا قال أهل البلاغة: الذي يلي همزة الاستفهام هو الْمُنْكَر، يعني لم يقل: يا إبراهيم أراغب، بل بدأ بالإنكار على الطريقة (...)، ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ﴾، وهذا استفهام إنكار وتوبيخ، ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ [مريم ٤٦] يعني: عن دعوتك إياي إلى التوحيد، ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ أيش؟
* الطلبة: ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ [مريم ٤٦].
* الشيخ: ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ﴾، وَعِيدٌ يقوله الأب لابنه، وابنه يترقَّقَ له، ويتحَنَّن إليه بقوله: يا أبت، يا أبت، يا أبت، وهنا جواب الأب، وهذا القول: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ قاله أيضًا غيره من المكذِّبِين للرسل؛ فرعون قال لموسى: ﴿لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء ٢٩].
﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [مريم ٤٦] يعني: اتركني، ﴿مَلِيًّا﴾ أي: زمنًا طويلًا، يعني يقول: دعني على ما أنا عليه ولا تكلمني.
﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ [مريم ٤٧] هذه النهاية من إبراهيم، فما أَحْلَمَه عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة ١١٤]، ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم ٤٧]، فاستغفر له حتى نهاه الله عز وجل.
الشاهد من هذا أن أبا إبراهيم كان مشركًا، أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: اسمه؟
* الطلبة: آزر.
* الشيخ: آزر، كما قال عز وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ [الأنعام ٧٤]، العجب أن بعض الناس -نسأل الله العافية- حَرَّفَ كلام الله عَمَّا أراد الله بناءً على هواه، فقال: أبو إبراهيم ليس مشركًا، بل هو على التوحيد، ولا يمكن أن يكون أبو النبي مشركًا، وآزر هو عَمُّه وليس أباه، لا حول ولا قوة إلا بالله، شوف كيف الهوى؟! «وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[[أخرجه الترمذي (٢٩٥١) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.]]، كيف نقول: ليس أباه بل هو عمه، وهو يقول: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ﴾، كيف نقول: إنه عمه، وهو يقول: ﴿يَا أَبَتِ﴾، أما يستحيي قائل هذا القول؟ أما يتقي الله عز وجل بتحريف الكلم عن مواضعه بناء على عقيدة فاسدة أن أَبَا الرسول لا يمكن أن يكون كافرًا، فنقول: سبحان الله! تأملوا، كون أبي الرسولِ كافرًا وابنه نبي أعظم دليل على قدرة الله عز وجل، وأنه يحيي الحي من الميت، وأن النَّسَب لا يرفع أصحابه، أليس كذلك يا جماعة؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: والله لو قلنا هذا لعجوز من عجائز المسلمين: إن آزر عم إبراهيم وليس أباه لانتقدتنا، بل نقول: أبو إبراهيم كافر، وأبو محمد كافر، وماذا يضر النبي إذا كان أبوه كافرًا؟ لا يضره شيئًا، بل هذا أكبر دليل على كمال قدرة الله عز وجل، وأنه يُخْرِج الأنبياء من أصلاب هؤلاء الكفار، لكن الحمد لله ما خرج نبي أبدًا من سِفَاحٍ، أبدًا، أما مسألة الكفر والإيمان فهذا لا يعد انتهاكًا لأعراض الأنبياء.
الشاهد من هذا أن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه صراحة وقال لقومه: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ [الزخرف ٢٦]، ﴿بَرَاءٌ﴾ المفسر قال: (بريء)، وهذا نقص من المفسر؛ لأن (براء) صفة مشبهة، و(بريء) اسم فاعل، وأيهما أعظم؟ الصفة المشبهة أعظم؛ لأنها تدل على الدوام والثبات والاستمرار، فـ(براء) أعظم من (بريء)، ﴿بَرَاءٌ﴾، يعني: صفة البراءة، الصفة الدائمة الثابتة المستمرة البراء مما أنتم عليه، ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف ٢٦، ٢٧]، وأظن لا يمكن أن نكمل الآية، انتهى الوقت.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الزخرف ٢٨ - ٣٠].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
* طالب: الآية التي قبلها.
* الشيخ: اللي قبلها؟ ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾؟
* الطالب: اللي بعدها.
* الشيخ: هذه ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً﴾.
* الطالب: ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾.
* الشيخ: قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾، (إذ) هذه ويش محلها من الإعراب؟
* طالب: مفعول به.
* الشيخ: لأيش؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: والتقدير: واذكر إذ قال، نعم، اذكر، يعني لهؤلاء المكذِّبين، اذكر هذا القول الذي قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والذي كانوا يفتخرون بالانتساب إليه وإلى مِلَّتِه حتى تقيم عليهم الحجة، ﴿إِذْ قَالَ﴾ ﴿لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ﴾، وأبوه هو آزر، وله معه مناظرات سبق الكلام عليها، ﴿وَقَوْمِهِ﴾ أصحابه الذين بُعِثَ إليهم، وكان إبراهيم عليه السلام كغيره من الأنبياء بُعِثَ إلى قومه خاصة، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي»، مِنْهَا: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٨)، ومسلم (٥٢١/٣) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.]].
﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ الجملة هذه مُؤَكَّدَة -كما هو معلوم- بـ(إن)، و﴿بَرَاءٌ﴾ صفة مشبهة، وهي أبلغ من كلمة (بريء)؛ لأن الصفة المشبهة تقتضي الدوام والثبوت، ﴿مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾، أي: من الذي تعبدونه، ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾، والمراد بيعبدونه الأصنام التي ينحتونها هم بأيديهم ثم يعبدونها، ولهذا قال لهم إبراهيم عليه السلام في جملة مناظراته: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات ٩٥، ٩٦]، فكيف تعبدونها وهي مخلوقة؟ كيف تعبدونها وأنتم الذين تنحتونها؟ وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾، (إلا) أداة استثناء، لكن هل الاستثناء هنا منقطع أو هو متصل؟ فالجواب: إن كانوا يعبدون الله وغيره فالاستثناء متصل، وإن كانوا لا يعبدون الله فالاستثناء منقطع، والاستثناء المنقطع هو الذي يكون ما بعد (إلا) من غير جنس الذي قبلها، هذا هو الاستثناء المتقطع، ومَثَّلَ له النحويون بقولهم: جاء القوم إلا حمارًا، حمارًا من جنس القوم أو من غيرهم؟
* طالب: من غيرهم.
* الشيخ: من غير جنسهم، فيكون الاستثناء منقطعًا، أما إذا قيل: جاء القوم إلا زيدًا، فالاستثناء هنا متصل؛ لأن زيدًا من جنس الْمُسْتَثْنَى منه، فهنا نُطَبِّق هذه القاعدة، ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ إن كانوا يعبدون الله وغيره فالاستثناء؟
* طلبة: متصل.
* الشيخ: متصل، وإن كانوا لا يعبدون الله فالاستثناء منقطع، وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾، لم يقل: إلا الله، من أجل أن يُقِيمَ الدليل على أنه لا يستحق العبادة إلا هو، فالذي فطرك أول مرة وأوجدك من العدم هو الذي يستحق أن يُعْبَد؛ لأنه الذي خلقك، انتبه.
يعني لو قال قائل: لماذا لم يقل: إلا الله؟ فالجواب: ليقيم الحجة على أنه لا ينبغي أن يُعْبَد إلا اللهُ عز وجل، وهذا كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة ٢١]، ومعلوم أن (رب) خالق، لكنه أتى بقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ وهو معلوم؛ ليقيم الحجة على أنه المستحق للعبادة وحده، ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ قال المؤلف: (خلقني).
﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾: سيرشدني لدينه، والهداية نوعان، كما سيأتي إن شاء الله في بيان الفوائد.
﴿وَجَعَلَهَا﴾ أي: كلمة التوحيد المفهومة من قوله: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات ٩٩]، ﴿جَعَلَهَا﴾ الضمير يعود على الكلمة التي قالها، وما هي الكلمة التي قالها؟ اسمع كلام المفسِّر، قال: هي قوله: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، وهذا غلط من المؤلف، الكلمة التي قالها هي أقرب كلمة، وهي: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾، وهي كلمة التوحيد، أما قوله: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ فلا علاقة لها في الآية، إذن ﴿جَعَلَهَا﴾ الضمير يعود على أيش؟
* طالب: قوله: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ﴾.
* الشيخ: لا ﴿جَعَلَهَا﴾ الضمير يعود على أيش؟ على الكلمة التي قالها، وهي؟
* الطالب: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ﴾.
* الشيخ: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾، ومعنى قوله: ﴿جَعَلَهَا﴾ أي: صَيَّرَهَا هي الطريقة التي يصير عليها مَن بعده، ﴿كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ عَقِبِ مَن؟
* طالب: عقب إبراهيم.
* الشيخ: عقب إبراهيم، قال: أي ذريته، فلا يزال فيهم مَن يُوَحِّدُ الله، هكذا قال المؤلف، أن المعنى أن هذه الكلمة ستبقى في ذريته، ولا يمكن أن تُشْرِكَ الذرية كلها، بل لا بد أن تبقى، والصواب خلاف هذا، الصواب أن المعنى: جعل هذه الكلمة هي الكلمة الوحيدة التي يسير عليها مَن بعده، سواء التزموها أم لم يلتزموها.
﴿لَعَلَّهُمْ﴾ أي: أهل مكة، ولو قيل: ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ أي: عقبه؛ لأن الآيات ما فيها ذِكْر أهل مكة، فيها العَقِب، ومعلوم أن أهل مكة مِن عَقِبِه، وأن بني إسرائيل من عَقِبِه، فإذا قلنا: إن الضمير في ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ يعود على ﴿عَقِبِهِ﴾ صار أعمَّ مما قال المؤلف؛ لأن المؤلف خَصَّهَا بجزء من العقب، وهذا قصور بلا شك، ولهذا اتَّخِذ هذه القاعدة، لا تُفَسِّر القرآن بأَخَصّ مما يدل عليه، بمعنى: إذا كان القرآن يدل على شيء عامّ فلا تُخَصِّصْه إلا إذا كان هناك دليل، وإلا فَأَبْقِهِ على عمومه، إذن ﴿جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف ٢٨]، الضمير يعود على مَن؟
* طلبة: عقبه.
* الشيخ: على العقب؛ من قريش وبني إسرائيل، لكن ما معنى ﴿جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً﴾؟ على كلام المؤلف رحمه الله المفسِّر يعني أنها ستبقى هذه الكلمة في العقب فلا يمكن أن يُفْقَد منهم التوحيد، والصواب أنه جعلها جَعْلًا شَرْعِيًّا، بمعنى أنه عَهِدَ إلى عقبه أن يُوَحِّدوا الله عز وجل، فمنهم مَن أطاع، ومنهم مَن عصى.
* في هذه الآية الكريمة: مَزِيَّة عظيمة لإبراهيم عليه السلام، وهي إعلانه بالبراءة مما يعبد قومه، ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾.
* ومنها: التوحيد الخالص في إبراهيم؛ لقوله: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾، وهذا معنى قوله: (لا إله إلا الله)، فـ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ﴾ بإزاء (لا إله)، ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾؟ أجيبوا.
* طلبة: (إلا الله).
* الشيخ: بإزاء (إلا الله)، إذن هذه الكلمة ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ بمعنى (لا إله إلا الله) تمامًا، أليس كذلك؟
* طالب: إي نعم.
* الشيخ: * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه ينبغي للإنسان أن يقرن الحكم بالدليل؛ لأنه أبلغ، ذلك حين قال إبراهيم: ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: قوة الرجاء، أي: رجاء إبراهيم بالله عز وجل؛ لقوله: ﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾، والسين هذه تدل على التحقيق، والهداية نوعان؛ النوع الأول: هداية الدلالة، وهذه تكون من الله، ومن عباد الله، والثاني: هداية التوفيق للحق، وهذه لا تكون إلا من الله عز وجل، لا أحد يَمْلِكُهَا، استمع، الهداية نوعان: الأول؟
* الطلبة: هداية الدلالة.
* الشيخ: هداية الدلالة، بمعنى الدلالة على الحق، وهذه تكون من الله، ومن غيره، والثاني: هداية التوفيق، وهذه لا تكون إلا من الله وحده، لا أحد يملكها، نسأل الله أن يَهْدِيَنَا وإياكم.
ثم الآيات الواردة في هذا منها ما يتعين حمله على هداية التوفيق، ومنها ما يتعين حمله على هداية الدلالة، ومنها ما يشمل الأمرين، الآيات الواردة في الهداية، فقول المصلي: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة ٦] يشمل؟
* طلبة: هداية الدلالة.
* الشيخ: الأمرين: هداية الدلالة؛ وهي العلم، وهداية التوفيق؛ وهي العمل، فهل أنت أيها المصلي تشعر بهذا إذا قلت: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؟ أو تشعر بأنك تتلو قرآنًا فقط؟ أخبرونا بالصدق.
* طالب: الثاني.
* الشيخ: الثاني غالبًا، ما هو كل الناس، أكثر الناس يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ يقرؤها على أنها آية تُقْرَأ، لا يشعر بأن المعنى: اهْدِنِي عَلِّمْنِي ووَفِّقْنِي للعمل، ما يشعر بهذا، لكن استشعر هذا الشيء حتى تعرف على أي شيء تُؤَمِّن.
مثال هداية الدلالة وحدها: قول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى ٥٢] هذه هداية أيش؟
* الطلبة: دلالة.
* الشيخ: الدلالة، يعني: تدل الناس إلى الصراط المستقيم، ومثال دلالة هداية التوفيق قول الله تبارك وتعالى ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص ٥٦] يقوله للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يعني: لن توفِّق أحدًا للهداية ولو كنت تحبه، ولهذا حاول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين حضر عمَّه أبا طالب وهو في سياق الموت، حاول أن يُوَحِّد اللهَ ولكن عجز، قال في سياق الموت: «يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ»[[أخرجه البخاري (٣٨٨٤) من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه.]]، وكان عنده رجلان من قريش جليسا سوء، فقالا لأبي طالب: أترغب عن مِلَّةِ عبد المطلب، شوف -والعياذ بالله- النخوة، أترغب عن مِلَّةِ عبد المطلب، يعني جده الذي تفتخر به قريش، فكان آخر ما قال: هو على مِلَّةِ عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
فما هي الهداية التي عجز عنها النبي ﷺ في هذا؟
* الطلبة: هداية التوفيق.
* الشيخ: هداية التوفيق، أما هداية الدلالة فقال: «قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ».
قول الله عز وجل: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت ١٧]، من أي النوعين؟
* الطلبة: الدلالة.
* الشيخ: هداية الدلالة، قوله تعالى: ﴿اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل ١٢١].
* طلبة: يشمل الأمرين.
* الشيخ: يشمل الأمرين جميعًا.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: تمام نصح إبراهيم عليه السلام لِعَقِبِهِ، حيث جعل كلمة التوحيد باقية فيهم، وهذا بمنزلة الوصية للعَقِب أن يقوموا بهذه الوصية.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الرجوع إلى ما كان عليه الأسلاف من الحق؛ لقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
{"ayahs_start":26,"ayahs":["وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِیمُ لِأَبِیهِ وَقَوۡمِهِۦۤ إِنَّنِی بَرَاۤءࣱ مِّمَّا تَعۡبُدُونَ","إِلَّا ٱلَّذِی فَطَرَنِی فَإِنَّهُۥ سَیَهۡدِینِ","وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِیَةࣰ فِی عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ"],"ayah":"وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِیمُ لِأَبِیهِ وَقَوۡمِهِۦۤ إِنَّنِی بَرَاۤءࣱ مِّمَّا تَعۡبُدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق