الباحث القرآني

﴿وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ [الزخرف: ١٢] هذه عطف على ما سبق، وهو من باب عطف الصفات، وليس من باب عطف الذوات، والأصل في العطف أن يكون بين متغايرين في ذاتهما، هذا الأصل، فإذا قام الدليل على أن الذات واحدة صار من باب عطف الصفات. اقرأ قول الله عز وجل: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ [الأعلى ١ - ٤] هذا العطف من باب عطف الصفات؛ لأن الموصوف واحد، لكن الأصل في العطف أنه من باب أيش؟ تغاير الذوات، ما لم يقم دليل على أن المعطوف عليه شيء واحد فيكون من باب عطف الصفات بعضها على بعض لموصوف واحد. الآيات التي معنا من أي القسمين؟ من باب عطف الصفات؛ لأن الموصوف واحد. ﴿وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ ﴿الْأَزْوَاجَ﴾ بمعنى: الأصناف كما قال عز وجل: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ [الصافات ٢٢] أي: أصنافهم، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ [ص ٥٨]. ﴿خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ أي: الأصناف، كل الأصناف الخالق لها هو الله عز وجل. وإنك لتعجب حينما تأتي إلى روضة تجد هذه الأشجار بعضها زهرها أحمر، وبعضها أزرق، وبعضها أصفر؛ ملونة، من الذي خلقها ولونها؟ هو الله عز وجل. ويحتمل في الآية معنى آخر ﴿خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ يعني الشيئين المزدوجين اللذين يتولد بينهما ثالث؛ كالذكر والأنثى، والسالب والموجب، وما أشبه ذلك، الآية تحتمل المعنيين جميعًا وهما لا يتنافيان فتُحْمَل عليهما جميعًا. (﴿خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ﴾ السفن، ﴿وَالْأَنْعَامِ﴾ كالإبل، ﴿مَا تَرْكَبُونَ﴾ ) ﴿جَعَلَ لَكُمْ﴾ بمعنى صير، وقوله: ﴿مَا تَرْكَبُونَ﴾ مفعول ﴿جَعَلَ﴾ أي: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ﴾ وهي السفن البحرية، وكان الناس لا يعرفون سواها فيما سبق، الآن جاءت السفن الجوية، وهي؟ * طالب: الطائرات. * الشيخ: الطائرات، أما الأنعام فمثل الإبل، والبغال وغيرها مما يركب. ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ﴾ [الزخرف ١٢] أي: الذي تركبون، وهذه من نعمة الله عز وجل. ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ اللام لام العاقبة، وليست لام التعليل؛ لأنه من الممكن أن يكون عند الإنسان أنعام كثيرة، إبل كثيرة، ولا يركبها، لكن اللام للعاقبة. تأتي اللام للعاقبة في القرآن الكريم وغيره كثيرًا، ومنه قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص ٨]، اللام في قوله: ﴿لِيَكُونَ﴾ ليست للتعليل؛ لأن آل فرعون لم يلتقطوه لهذا الغرض، لكن التقطوه فصارت هذه النتيجة، وتُسمَّى اللام في مثل هذا تُسمَّى لام العاقبة. وقوله: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ أي: تعلوا عليها، وتستقروا عليها، ﴿عَلَى ظُهُورِهِ﴾ يقول: (ذكَّر الضمير وجمع الظهر نظرًا للفظ (ما) ومعناها). ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ جمَعَ الظَّهر، ولم يقل: على ظهره، وأفرد الضمير، ولم يقل: على ظهورها؛ نظرًا للفظ (ما) ومعناها؛ لأن (ما) تصلح للمفرد وللجمع، فتارة يُراعى اللفظ، وتارة يُراعى المعنى، إذا رُوعي اللفظ أُفرِد الضمير، وإذا رُوعي المعنى صار بحسب المعنى المقصود، وكذلك (مَن) تارة يراعى لفظها، وتارة يراعى معناها؛ اقرأ قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [الطلاق ١١]، ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ﴾ راعى أيش؟ * طلبة: اللفظ. * الشيخ: اللفظ أفرده، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ المعنى. ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ أي: ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام، فجمعها باعتبار المعنى، وأفردها باعتبار اللفظ. ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ لأنه إن استوى الإنسان على الفلك أو على الأنعام يتذكَّر نعمة الله عليه، حيث يسَّر له هذا المركوب، ولولا تيسير الله ما تمكن من هذا، لو جعل الله الإبل صعبةً لا يمكن أن تُرْكب ما انتفع الناس بها، ولو فُقِدت السفن ما استطاع الناس أن يعبروا من يابس إلى يابس، فليذْكُر الإنسان نعمة الله إذا استوى على ظهره، ﴿وَتَقُولُوا﴾ أي: بألسنتكم معترفين بقلوبكم، ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا﴾ أي: ذللَّه لنا، (﴿وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ مطيقين)، ﴿وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ قال: (لمنصرفون). * من فوائد هذه الآية الكريمة: نعمة الله عز وجل على عباده؛ حيث جعل لهم من الفلك والأنعام ما يركبونه، وذكرنا أن الفُلك يشمل الفلك الجوي والبحري، ويمكن أن نقول: والبري أيضًا كالسيارات، فهذه أفلاك، فإذن الأفلاك جوية، وبحرية، وبرية. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تذليل الله عز وجل الأنعام لنا؛ حيث سخرها لنركبها ونحملها وهي ذليلة بين أيدينا؛ لقوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ﴾. * ومن فوائد هذه الآية: أنه ينبغي للإنسان إذا ركب الأنعام وكذلك الفُلك أن يجعل مركبه مريحًا؛ لقوله: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾؛ إذ إنه لو لم يكن مريحًا لم تتم النعمة، فينبغي أن يجعله مريحًا بقدر الإمكان وعلى حسب الحال. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه ينبغي للإنسان أن يتذكر نعمة الله عليه بما سخر له من الفلك والأنعام؛ لقوله: ﴿ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ﴾، النعمة هنا مفرد مضاف فهل المراد أن نذكر جميع النعم أو نذكر النعمة المناسبة للحال؟ الظاهر هو الثاني؛ لأن الإنسان قد لا يستحضر حينما يركب كل النعم من الأموال والأولاد والأمن والطمأنينة، ولكن يذكر النعمة الحاضرة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: استحباب هذا الذكر عند الركوب، وهو: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾. فإن قال قائل: لماذا اختير كلمة (سبحان) دون (الله أكبر) مثلًا؟ فالجواب: أن تسبيحَ الله يعني: تنزيهه عن كل نقص وعيب، بخلاف الإنسان فإنه محتاج إلى الركوب، فهو ناقص، فناسب أن يقول: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا﴾ حتى يتذكَّر بذلك أنه هو في حاجةٍ إلى هذه المركوبات، وأن الله عز وجل منزه عن الحاجة. يعني لو قال قائل: لماذا لم يقل: ما أعظم منة الله عليكم أو الله أكبر؟ فالجواب: أنه لما رأى نفسه محتاجًا إلى الركوب نزَّه الله عز وجل عن الحاجة، فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا﴾. * ومن فوائد الآية: أن نذكُر نعمة الله علينا بتسخير هذه الأنعام؛ لقوله: ﴿الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾؛ أي: مطيقين، لولا أن الله سخَّر البعير لنا ما أطقناها، البعير أقوى منا، وأكبر منا جسمًا، لو أن الله سبحانه تعالى جعلها صعبة هل يمكن لأحد أن يستقرَّ عليها، أو أن يحمِّل عليها، أو أن يدخلها إلى أي مكان شاء، أو أن يخرجها متى شاء؟ لا، ولكن الله سخرها لنا. * ومن فوائد الآية الكريمة: اعترافُ العبد بقصوره وضعفه؛ لقوله: ﴿وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾؛ أي: مطيقين. * ومن فوائد الآية: أن الإنسان إذا ركب هذه المركوبات يتذكَّر الركوب الذي هو غاية الدنيا؛ لقوله: ﴿وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾، وتفسير المؤلف رحمه الله لها بالانصراف -أي: منصرفون إلى الله- فيه قصور، والصواب ما ذكرنا أنك إذا ركبت فتذكر ركوبك على النعش حين تنقلب إلى الله عزَّ وجل، فيكون في هذا تذكر للحال المستقبل لبني آدم، وهي حال الانقلاب إلى الله عز وجل. هل هذا الذكر خاص بما إذا ركب للسَّفر أو هو عام؟ الجواب: عام، كلما ركبت السيارة أو البعير أو الطائرة فاذكر هذا: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب