الباحث القرآني
ثم قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ ﴿كَذَلِكَ﴾ الكاف هنا اسم بمعنى (مثل)، وهي منصوبة على المفعولية المطلقة؛ ولهذا قدَّرَها المؤلف بقوله: (مثل ذلك الإيحاء)؛ الأول: قال: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ﴾ [الشورى ٣]، ولم يُبيِّن الموحى. هنا قال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا﴾ [الشورى ٧] فبين الْمُوحى، فكان الآن هنا تفصيل بعد إجمال، أين الإجمال؟ ﴿يُوحِي إِلَيْكَ﴾؛ لأنه لم يُبَين الْمُوحى، وهنا ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا﴾ فهو تفصيل بعد إجمال، ولا يخفى علينا أن التفصيل بعد الإجمال من أساليب اللغة البلاغية العظيمة؛ لأن الشيء إذا أُجمِل بقيت النفس متطلعة متشوِّفة متشوقة إلى تفصيله، فإذا جاء مفصلًا ورد كالماء على أرض يابسة، الماء على أرض يابسة أيش يعمل؟ تشربه على طول، فكذلك إذا ورد التفصيل بعد الإجمال فإنه يرد على قلب متطلع تمامًا إلى التفصيل.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي مثل هذا الإيحاء ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام عن طريق مَنْ؟ عن طريق جبريل قال الله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء ١٩٣، ١٩٤] ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ﴾ [الشورى ٧] ﴿قُرْآنًا﴾ بمعنى (مقروء) أو بمعنى (قارئ)، أما هو فهو مصدر، (قُرآن) مصدر (قَرَأ)، كـ(غُفْران) مصدر (غَفَر)، (شُكْران) مصدر (شُكْر).
إذن (قرآن) مصدر لكن هل هو بمعنى اسم الفاعل، أو بمعنى اسم المفعول، أو هو بمعناهما جميعًا؟
لنا قاعدة سبقت أن الآية أو الحديث أيضًا إذا احتمل معنيين على السواء ولا منافاة بينهما وجب أن يُحمل عليهما جميعًا، إذن قرآن بمعنى قارئ وقرآن بمعنى مقروء، كيف يكون القرآن بمعنى قارئ؟ (قاري) بمعنى جامِع، ومنه سُمِّيت القرية؛ لأنها تجمع الناس، فيكون قرآن يعني قارئ، ولا شك أن القرآن جامع لعلوم الأولين والآخرين ولكل عِلم نافع وعمل صالح.
وقوله: ﴿عَرَبِيًّا﴾ أي: بلسان العرب، والعروبة هنا هل هي عروبة النسب أو عروبة اللسان؟
* طلبة: اللسان.
* الشيخ: الظاهر أنها عروبة اللسان، لكن حقيقة الأمر أن عروبة اللسان أصلها عروبة النسب؛ إذ إن اللغة العربية وإن تكلم بها من ليس بعربي هي أصلها من عروبة النسب؛ ولذلك أولئك القوم الذين من فارس والروم نقول: هم عرب لسانًا وليسوا عربًا نسبًا، فهل يلحقهم مدح العرب؟ الجواب: لا، لا يلحقهم؛ لأن المدح للعرب إنما هو عرب النسب، أما الوصف اللي هو عرب باللسان فلا يستحق هذا المدح؛ ولهذا لو سُئلنا: من أشرف الناس نسبًا؟ أجيبوا.
* طلبة: العرب.
* الشيخ: عرب اللسان، أو عرب النسب؟
* طلبة: النسب.
* الشيخ: عرب النسب.
وبيَّنا فيما سبق أن الله تعالى أجمل ثم فصَّل، فقال في أوله: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ﴾. وهنا قال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ وأضاف الإيحاء إليه عز وجل؛ لأن الأمر مهم جدًّا، والْمُوحى به هو أشرف الكلام.
﴿قُرْءَانًا﴾ قلنا: إن قرآنًا مصدر كـ(الغُفران) و(الشُّكران)، وهل هو بمعنى اسم الفاعل أو بمعنى اسم المفعول؟ أي هل المعنى أنه قارئ أو المعنى أنه مقروء؟ ذكرنا أنه يجوز فيه الوجهان: أما كونه قارئًا؛ فلأنه جامع لجميع الكمالات في الكلام، ومنه (القرية)؛ لأنها تجمع الناس، وأما كونه بمعنى مفعول؛ فلأنه يُقرأ ويُتلى، وكلاهما وصْف صالح للقرآن، ولا ينافي بعضهما بعضًا، وعلى هذا فيُحمل على المعنيين جميعًا كما هي القاعدة في التفسير وفي الحديث النبوي، إذا كان يحتمل معنيين لا مُرجِّح لأحدهما على الآخر وليس بينهما منافاة فالواجب أن يُحمل عليهما جميعًا.
﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ أي بلغة العرب، والمراد بلغة العرب نطقًا أو نسبًا؟ الأصل نسبًا؛ لأن لغة العرب انتشرت بعد الفتوحات الإسلامية وإلا كانت في الجزيرة فقط.
ثم قال: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ اللام للتعليل، فما هو المعلَّل؟ قوله: ﴿أَوْحَيْنَا﴾ وعلى هذا فاللام متعلقة بقوله: ﴿أَوْحَيْنَا﴾ ﴿لِتُنْذِرَ﴾ قال المؤلف: (لتخوف ﴿أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ أي أهل مكة وسائر الناس).
قوله: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ أم القرى هي مكة، وسُمِّيت بذلك؛ لأنها جامعة للقرى؛ إذ إن جميع القرى تأوي إليها، ولا شك أن المسلمين كلهم يتجهون إلى أم القرى؛ لأن الكعبة فيها، وهي أيضًا تجمع القرى من جهة أنه يجب على كل المسلمين أن يحجوا هذا البيت من استطاع إليه سبيلًا؛ لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران ٩٧] أو حَج البيت قراءتان سبعيتان ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾.
إذا سُمِّيت أم القرى لماذا؟ لأنها تجمع جميع القرى، والقرى هنا المدن؛ لأن القرية البلد الصغير عرفًا، أما لغةً فإن القرية تطلق حتى على المدينة الكبيرة كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ﴾ [محمد ١٣].
وقوله: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ يقول المؤلف: المراد بمن حولها: (سائر الناس). وهذا التفسير وإن كان معناه صحيحًا؛ لأن رسالة النبي ﷺ بلغت جميع الناس ومن لم تبلغه فستبلغه، ولكن ظاهر اللفظ خلاف ذلك؛ لأن ما حول الشيء فهو القريب منه، وحينئذٍ يبقى في الأمر إشكال، فإن النبي ﷺ مبعوث إلى جميع الناس، ولكن يقال: لا إشكال؛ فهو كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة ٢] وهو مبعوث لكل الخلق؛ ولهذا قال: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ [الجمعة ٣].
وعلى هذا فنقول: المراد بالإنذار الإنذار المباشر، والإنذار المباشر من النبي عليه الصلاة والسلام ما كان إلا لأم القرى ومن حولها؛ ولهذا ما فُتحت الشام، ولا العراق، ولا مصر في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما كان الجزيرة فقط، وعليه فيكون المراد بقوله: ﴿تُنْذِرُ﴾ الإنذار الذي تم في حياته عليه الصلاة والسلام فإنه لم يشمل إلا أم القرى ومن حولها.
وقوله: ﴿أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ هل المراد بهذا إنذار المدينة نفسها أو المراد الأهل؟ الأهل لا شك، ولا يُشكل هذا على أحد، وهذا هو الذي جعل شيخ الإسلام رحمه الله يقول: إنه لا مجاز في القرآن ولا في غيره من اللغة العربية؛ لأنه إذا كان اللفظ دالًّا على معناه الخاص فإنه لا يعتبر مجازًا، ونحن نقول هنا: ليس المراد أن الرسول ينذر بيوت مكة وأسواقها، وإنما المراد أن ينذر أهلها.
بقي أن يقال: أين مفعول (ينذر) الثاني؛ لأن (أنذر) تنصب مفعولين كما قال الله تعالى: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾ [الليل ١٤] (الكاف) مفعول أول، و﴿نَارًا﴾ مفعول ثانٍ. نقول: المفعول الثاني محذوف، ويُقدَّر بما يناسبه، ممكن هنا أن نقدره بقوله: ﴿يَوْمَ الْجَمْعِ﴾ ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الشورى ٧]. ﴿يَوْمَ الْجَمْعِ﴾ بدليل قوله: ﴿يَوْمَ الْجَمْعِ﴾. فتجد الآن الآية الكريمة، الجملة الأولى حُذف منها مفعول، والثانية حُذف منها مفعول، لكن الجملة الأولى حُذف مفعولها الثاني، والجملة الثانية حُذف مفعولها الأول، وهذا من بلاغة القرآن، إذن المفعول الثاني في قوله: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ محذوف تقديره: يوم الجمع، ولنا أن نقدره تقديرًا آخر لكن ما دام بين أيدينا ما يدل عليه فهو أولى.
قال الله تعالى: ﴿وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ﴾ قال: (وتنذر الناس). هذا المفعول الأول المحذوف. ﴿يَوْمَ الْجَمْعِ﴾ المفعول الثاني أي: تنذرهم اليوم الذي يُجمع فيه الناس، وذلك يوم القيامة تُجمع فيه الخلائق، وهذا من أسماء يوم القيامة يوم الجمع، كما أنه يُسمى يوم القيامة؛ لأنه يشتمل على المعنى هذا وهذا.
وقوله: ﴿يَوْمَ الْجَمْعِ﴾ يقول: (تُجمع فيه الخلائق)؛ لقول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [هود ١٠٣].
(﴿لَا رَيْبَ﴾ شك) ﴿فِيهِ...﴾ إلى آخره قوله: ﴿لَا رَيْبَ﴾ الريب هو الشك لكن قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إن تفسير الريب بالشك تفسير مقارِب وليس مطابقًا؛ لأن الريب يوحي بقلق في النفس، والمعنى ليس فيه ريب وقلق).
قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ ﴿لَا﴾ نافية، فهل المراد بالنفي النهي فيكون المعنى لا ترتابوا فيه، أو المراد بالنفي معناه الحقيقي؟
نقول: المراد به معناه الحقيقي؛ لأنه إذا كان معناه النفي صارت صفة هذا اليوم انتفاء الريب، وعلى هذا فمن ارتاب فيه فقد ارتاب في أمر واقع، لكن لو جعلنا النفي بمعنى النهي لكنا أخرجنا الكلام عن ظاهره، هذا من جهة، من جهة أخرى أن النهي قد يمتثله الناس وقد لا يمتثلونه، لكن النفي هنا أوضح؛ أولًا: لمطابقته لظاهر اللفظ؛ لأن ظاهر اللفظ النفي. وثانيًا: لأنه يعطي أن هذا اليوم موصوف بانتفاء الريب فيه، فيكون مَنِ ارتاب مخالفًا للواقع.
(﴿لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ﴾ منهم ﴿فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ في النار) ﴿﴿فَرِيقٌ﴾ ﴾ مبتدأ ﴿﴿فَرِيقٌ﴾ ﴾ الثاني مبتدأ، ومن كان منكم عارفًا بالنحو فسيقول: في هذا إشكال، ما هو الإشكال؟
* الطالب: الابتداء بالنكرة.
* الشيخ: والابتداء بالنكرة غير جائز، لماذا؟ لأن المبتدأ محكوم عليه، فإذا قلت: زيد قائم، فقد حكمت على زيد بالقيام، والمحكوم عليه لا بد أن يكون معروفًا، إذا كان نكرة أي فائدة في الحكم عليه؟ فكلام النحويين في أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة هذا تعليله؛ لأن المبتدأ محكوم عليه، والمحكوم عليه لا بد أن يكون معرفة معلومًا، فهنا ابتُدئ بالنكرة، يقول النحويون: إن المسوغ للابتداء بالنكرة في هذه الآية هو التقسيم، والتقسيم مفيد، فريق في الجنة؛ أي نوع من الناس في الجنة ونوع في السعير، فالتقسيم يبيح الابتداء بالنكرة، ومنه قول الشاعر:
؎فَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا ∗∗∗ وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرّْ
فهذا مبتدأ نكرة لكنه فيه التقسيم، فيكون المسوغ للابتداء بالنكرة هنا هو التقسيم. ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى ٧] أيهم أكثر؟ فريق السعير أكثر كما جاء في الحديث الصحيح أن الله تعالى يوم القيامة ينادي يقول: «يَا آدَمُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثَ النَّارِ، أَوْ بَعْثًا إِلَى النَّارِ -أَيْ مَبْعُوثًا إِلَى النَّارِ- قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُ مِئَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٣٤٨)، ومسلم (٢٢٢/٣٧٩) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ولفظ البخاري: «يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار». الحديث.]]. والباقي من الألف في النار، إذن أيهم أكثر؟ أهل النار أكثر من أهل الجنة بكثير، أجارنا الله وإياكم من النار، ففزع الصحابة لهذا، وقالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الواحد؟ قال لهم: «أَبْشِرُوا إِنَّكُمْ فِي أُمَّتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي شَيْءٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ؛ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ»[[أخرجه الترمذي (٣١٦٩) من حديث عمران بن الحصين ولفظه: «إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه؛ يأجوج ومأجوج» الحديث.]]. وهم من بني آدم كما دل على ذلك القرآن، فمنكم واحد وألف منهم، ففرح الصحابة رضي الله عنهم بذلك.
المهم أن الله قال: فريق وفريق مع اختلاف الفريقين اختلافًا عظيمًا، فدل ذلك على أن الفريق في اللغة يُطلق على القليل والكثير، ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ ما هي الجنة؟ الجنة هي الدار التي أعدها الله تعالى للمؤمنين والمتقين، وهي دار فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأصناف النعيم في هذه الجنة -جعلني الله وإياكم منهم- موجودة في القرآن والسنة، أما السعير -والعياذ بالله- فهي النار تُسَعَّر بها الأجساد، وفيها من أنواع العذاب والنكال ما يتمنى أهلها أن يموتوا ولا يحصل لهم، قال الله تعالى: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ [الزخرف ٧٧، ٧٨] ﴿وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الشورى ٨] أي على دين واحد هو الإسلام، نعم، لو شاء الله أن يجعل الناس أمة واحدة لجعلهم أمة واحدة على الضلال أو على الهدى؛ يعني لو شاء هذا أو هذا؛ لأن الأمر كله بيده عز وجل.
وقوله: ﴿لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ يعني فرقة واحدة على دين واحد. وقوله: (وهو الإسلام) قد يُنازَع فيه؛ لأن الآية مطلقة وليس فيها ما يدل على أنه الإسلام أو غير الإسلام؛ لأن قوله: ﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [الشورى ٨]. ذكر الأمرين فنقول: إن الآية تحتمل المعنيين جميعًا، لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة؛ يعني على الإسلام أو على الكفر، ولكنه عز وجل لحكمته جعلهم متفرقين: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن ٢].
قال: ﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ [الشورى ٨] قوله: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ﴾ ﴿مَنْ﴾ اسم موصول عامة، ولكن يجب أن نعلم أن هذا العموم مقيد بمن علم الله فيه خيرًا، فهو الذي يدخله في رحمته؛ لأن كل فعل أضافه الله إلى مشيئته فلا بد أن يكون لحكمة كما قال الله تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير ٢٨، ٢٩]. وقال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان ٣٠].
إذن ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ [الشورى ٨] ممن علم الله فيه خيرًا ليكون إدخاله في الرحمة على وفق الحكمة.
وقوله: ﴿فِي رَحْمَتِهِ﴾ المراد هنا بالرحمة التي هي وصفه، أو المراد الرحمة التي هي خلقه؟ الثانية؛ لأن الرحمة التي هي وصفه لا يدخلها الناس، وإنما يدخلون في الرحمة التي هي خلقه؛ وهي الجنة، ويدل لهذا قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي للجنة: «أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٨٥٠)، ومسلم (٢٨٤٦/ ٣٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]. فقال لها: «أَنْتِ رَحْمَتِي».
(﴿وَالظَّالِمُونَ﴾ الكافرون) ﴿الظَّالِمُونَ﴾ مبتدأ، وليست معطوفة على ﴿مَنْ﴾ لفساد المعنى واللفظ. (﴿وَالظَّالِمُونَ﴾ الكافرون) فسر المؤلف هنا ﴿الظَّالِمُونَ﴾ بالكافرين؛ لأن الله تبارك وتعالى وصف الكافرين بالظلم، فقال: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة ٢٥٤]، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام ٨٢] فسرها النبي ﷺ بالشرك وقال: «أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٧٧٦)، ومسلم (١٢٤/ ١٩٧)، وأحمد (٣٥٨٩) واللفظ له من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.]].
(﴿وَالظَّالِمُونَ﴾ الكافرون) ﴿مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ ﴿مَا﴾ نافية، و﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، و﴿وَلِيٍّ﴾ مبتدأ مؤخر دخل عليه حرف الجر الزائد للتوكيد.
(﴿مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ يدفع عنهم العذاب) أي من ولي يتولاهم ويتحمل عنهم، ولا نصير يدفع عنهم، فليس لهم من يُسلِّيهم في حال المصيبة ولا من يدفع عنهم إذا وقعت.
* في هذه الآية الكريمة فوائد؛ منها: أن القرآن كلام الله؛ لقوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا﴾ [الشورى ٧]. وجه كونه كلام الله أن هذا القرآن كلام أو شيء مخلوق؟ كلام، وإذا كان كلامًا وقد أضافه الله إلى نفسه علمنا أنه كلام الله عز وجل، وهل هو مخلوق؟ لا، لماذا؟ لوجهين: الوجه الأول: أنه وَصْفُه، وجميع أوصاف الله غير مخلوقة؛ لأن الصفة تابعة للذات، فالخالق هو الله، وصفاته غير مخلوقة.
ثانيًا: لو قلنا: إنه مخلوق لبطل الأمر والنهي؛ لأننا إذا قلنا: إنه مخلوق صار شيئًا مخلوقًا على شيء معين كما تُخلق الشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والأنهار على شكل معين، فيكون مثلًا: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [الأنعام ٧٢] ليست أمرًا، لماذا؟ لأنه خُلِق رسمًا، خُلِق على هذا الرسم، الآن مثلًا لو رسمت في القرآن: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ وأنت تقول: إن هذه ليست كلامًا، ولكنها مخلوقة لم تفد الأمر، وكذلك يقال في الأخبار، الأخبار تأتيك آية طولية كلها في خبر ما، إذا قلت: إن القرآن مخلوق صارت مجرد نقش فقط، ما هي كلام؛ ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: (إن القول بأن القرآن مخلوق مبطل للشريعة؛ لأنه لا يكون فيه أمر ولا نهي). إنما هي أشكال خُلِقت على هذا.
﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أنتم الآن إذا شاهدتم: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ تجدون أنها وشي يختلف بعضه عن بعض، ﴿أَقِيمُوا﴾ لها شكل و﴿الصَّلَاةَ﴾ لها شكل، فإذا قلنا: إن هذه أشياء خلقها الله على هذا الشكل لم يكن أمرًا ولا نهيًا، إذن الآية تفيد أن القرآن كلام الله؛ لأن الله تعالى أضافه إلى نفسه.
* من فوائد هذه الآيات الكريمة: فخر العرب؛ لأن القرآن عربي وهو للأمم كلها.
* ومن فوائدها: حكمة الله تبارك وتعالى في إنزال القرآن باللغة التي يفهمها من أُنزل إليه، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم ٤].
* ومن فوائد الآية الكريمة: التأكيد على معرفة اللغة العربية. وجه ذلك: أنه إذا كان القرآن عربيًّا، وكنا مخاطَبين به وملزَمين بالعمل به فإنه لا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بتعلم اللغة العربية.
* ومن فوائد الآية: الإشارة إلى أن الناس جميعًا ينبغي أن يكونوا يتحدثون باللغة العربية؛ لأن الناس كلهم جميعًا يجب أن يكون دينهم الإسلام، فإذا كان يجب أن يكون دينهم الإسلام فإنه يلزم من ذلك أن يجب أن يتعلموا لغة الإسلام؛ ولذلك نرى أن الإسلام لما كان في أوج عزته وقوته دخل الناس في دين الله، وتعلموا اللغة العربية، ومن الفرس والروم من كانوا أئمة في الدين وأئمة في العربية، القاموس المحيط، مرجع الناس في اللغة الآن وقبل الآن، من مؤلفه؟ الفيروزآبادي، من قريش، أو من بني هاشم؟ لا هذا، ولا هذا، فارسي، ومع ذلك هو مرجع اللغة العربية.
البخاري إمام المحدثين، يعني إمام نقلة سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، عربي ولَّا غير عربي؟ غير عربي؛ لأنه في الفتوحات الإسلامية كانت الغلبة للمسلمين الذين يتكلمون باللغة العربية، فتعلم الناس العربية ضرورة أنه لا يمكن الوصول إلى فهم الدين إلا باللغة العربية، ما حال الناس اليوم؟ على العكس، الآن العربي يحاول أن يتعلم اللغة الغير عربية؛ لأن الإسلام -مع الأسف الشديد- بمعاصي أهله خُذِلوا وذلوا، وكانوا من أذل الأمم إن لم أقل: أذل الأمم.
أنا أقول: أذل الأمم ولا أبالي؛ لأن عند المسلمين من الثروات العظيمة والمعادن العظيمة والأماكن الفسيحة والواسعة ما إذا قسناه بحالهم وجدنا أنهم أذل الأمم، من يكون عنده مثل هذه الثروات، ثم يتخلف هذا التخلف؟ حفنة من اليهود تلعب بعقولهم ليلًا ونهارًا، ولو قلت: أمم من النصارى يلعبون بهم، ولو كان لهم عزة لكانوا هم الذين يتحكمون في الناس ويقاتلونهم حتى يكون الدين كله لله، لكن لما ذلوا ذلت لغتهم، الآن تجد المتاجر في بلاد العرب، في مدننا، في قرانا، تجدها مملوءة باللافتات باللغة غير العربية، أحيانًا تجد المتاجر كأنك في سوق لندن إلا أن يشاء الله، كل هذا من الذل.
* من فوائد هذه الآيات الكريمة: إثبات حكمة الله، تؤخذ من قوله: ﴿لِتُنْذِرَ﴾؛ لأن اللام هنا للتعليل، وكلما وجدت لام التعليل في القرآن فإن فيها إثبات حكمة الله عز وجل، وحينئذٍ نعلم أن جميع ما يفعله الله عز وجل أو يشرعه فهو لحكمة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الاقتصار على أحد موضوعي الرسالة إذا اقتضت الحكمة ذلك، وجهه: أنه قال: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الشورى ٧] ولم يذكر البشارة، مع أن الله تعالى في مواضع كثيرة يذكر الإنذار والبشارة: ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ [مريم ٩٧]؛ لأن السياق مع قريش، وقريش -كما تعلمون- عتاة معتدون، فناسب ذكر الإنذار دون ذكر البشارة؛ لأنه إذا رأيت شخصًا معتديًا، فهل أنت تحاول استقامته بالبشارة أولًا أو بالإنذار أولًا؟ بالإنذار أولًا، وهذا من بلاغة القرآن أن يجعل كل شيء في موضعه.
* ومن فوائد هذه الآيات الكريمة: أن النبي ﷺ مُلزَم بإنذار أم القرى إلزامًا أوليًّا؛ لقوله: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ وما سواها إنذارًا ثانويًّا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى أن النبي ﷺ لن يصل إلى مَنْ أُرْسِل إليهم مباشرة، وإنما ينذر من حوله؛ لقوله: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾. وأنا ذكرت لكم قبل قليل هذه الفائدة ذكرناها في كتاب التفسير.
* أيضًا فيه فائدة أخرى: وهي أن القرآن باللغة العربية لا يمكن أن ينتذر به إلا ﴿أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ الذين هم عرب، وأما فارس والروم والأقباط وما أشبههم فهؤلاء لا ينتفعون بالقرآن إلا بعد أن يعرفوا اللغة العربية ويعرفوا معاني القرآن، ولعل هذا -والله أعلم- أيضًا من الحكم أن الله قال: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تخويف الناس من يوم القيامة؛ لقوله: ﴿وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ﴾.
* ومن فوائدها: أن يوم القيامة واقع لا محالة؛ لقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الناس في ذلك اليوم ينقسمون إلى قسمين: فريق في الجنة، وفريق في السعير، أهل الجنة يتجهون إلى الصراط ليصلوا إلى الأعلى، إلى الجنة، وأما أهل النار فلا يصعدون الصراط؛ لأنه لا يُرجى منهم أن ينجوا، بل إنهم يساقون إلى جهنم وِرْدًا؛ أي على أشد ما يكون من العطش، وتمثل لهم النار كأنها سراب، يظنونها ماءً فيسرعون إليها، فإذا جاؤوها وجدوا الأمر بالعكس فيتوقفون، ولكنهم يُدَعُّون إلى نار جهنم دعًّا ويقال لهم: ﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [الطور ١٤] ﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا﴾ [الطور ١٦].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات مشيئة الله عز وجل؛ لقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الشورى ٨].
* ومن فوائدها: الرد على القدرية. أتعرفون من القدرية؟ القدرية هم الذين يقولون: إن الله سبحانه وتعالى لا علاقة له في فِعل العبد، يقولون: العبد مستقل، ما لله فيه إرادة، وغُلاتهم ينكرون عِلْم الله بأحوال العبد إلا ما وَقَعَ منها، يقولون: إن الله ما يعلم ماذا يصنع العبد، لكن إذا صنعه العبد عَلِم به، وهؤلاء لا شك في كفرهم؛ لأنهم أنكروا علم الله، مُقتصدوهم ينكرون المشيئة والخَلْق، هذا اللي استقر عليه رأيهم، يقولون: إن الله لا مشيئة له في فِعْل العبد، وليس خالقًا لفعل العبد، العبد حر، يقول ويسكت، يفعل ويترك، ينام ويستيقظ، استقلالًا ما لله فيه مشيئة؛ ولهذا سُمُّوا مجوس الأمة المحمدية؛ لأنهم بهذه العقيدة يجعلون للحادث خالِقَيْن؛ حوادث العباد، مَنْ خلقها؟ العباد، وحوادث الله خلقها الله؛ ولهذا يسمون مجوس الأمة الإسلامية.
في الآية الكريمة رد عليهم، وجه الرد: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الشورى ٨]. وهذا كما قال تعالى في سورة هود: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود ١١٨، ١١٩].
فيه الرد على القدرية، وفيه حجة للجبرية؛ لأن الله قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ إذن هم انقسموا بمشيئة الله، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فهذا دليل على أن الإنسان لا اختيار له، بل فعله بمشيئة الله، فيقال: هذا مما احتج به من في قلوبهم زيغ؛ لأن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون المتشابه، ويدعون المحكم، يتعبون المتشابه في مثل هذه الآية، ويقول: هذا دليل على أن فعل العبد بمشيئة الله، ولا يمكن لأحد أن يغير مشيئة الله.
نقول: سبحان الله! أنتم نظرتم إلى الأدلة بعين أعور، والعين الباقية عليها غبش أو غمش، ما هي جيدة، فنظروا بعين أعور وربع أو أكثر، هناك آيات صريحة في إضافة العمل إلى الإنسان نفسه، وأنه بمشيئة الإنسان، أليس الله يقول: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف ٢٩]؟ أليس الله تبارك وتعالى يقول: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير ٢٨]؟ والآيات في هذا كثيرة.
أليس الإنسان يحس بنفسه أنه يفعل الفعل ولا مكره له، أنت تأتي إلى المسجد بدون أحد يكرهك، تدخل المسجد بدون أحد يكرهك، تخرج من المسجد بدون أحد يكرهك، وهذا شيء ملموس، إذن ما معنى كون فعلنا بمشيئة الله؟
نقول: معنى فعلنا بمشيئة الله أننا مهما فعلنا من شيء فالله قد شاءه، ومشيئته له سابقة لمشيئتنا لكننا لا نعلم بمشيئة الله إلا بعد وقوع الشيء فنعرف أن الله قد شاءه، هذا واضح ولَّا غير واضح؟ يعني أنا الآن أشاء أن أتكلم معكم، وأشاء أن أُحرِّك يدي، أليس كذلك؟ هل شاء الله أن أتكلم، وأن أُحَرِّك يدي؟ نعم، بماذا عرفت؟ بوقوعه؛ لأني أعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يكون في ملك الله ما لا يشاؤه، وأنا في ملك الله، والسماوات والأرض كلها في ملك الله، فإذا لا يمكن أن يكون في ملكه ما لا يشاء، لكن أنا لا أعلم مشيئة الله إلا بعد وقوع الشيء؛ ولهذا قال بعض العلماء: (إن القدَر سِرٌّ مكتوم) لا يعلم به العباد؛ لأن العباد لا يعلمون به إلا بعد وقوعه.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى يَمُنُّ على من يشاء من عباده فيدخلهم في رحمته؛ لقوله: ﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ [الشورى ٨].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ليس في الجنة ما يكدر، وجهه؟ قوله: ﴿فِي رَحْمَتِهِ﴾ والرحمة تستلزم حصول المطلوب، والنجاة من المرهوب؛ ولهذا ينادى أهل الجنة: «إِنَّ لَهُمْ أَنْ يَصِحُّوا فَلَا يَسْقَمُوا، وَأَنْ يَشِبُّوا فَلَا يَهْرَمُوا، وَأَنْ يَحْيَوْا فَلَا يَمُوتُوا»[[أخرجه مسلم (٢٨٣٧/٢٢) عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: «ينادي منادٍ: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا».]]. وأيضًا أن نقول: وأن يُسرُّوا فلا يحزنوا، جميع النعيم كامل لأهل الجنة، وليس فيها تنغيص، ولا خوف من مرض، ولا خوف من موت، بل إنهم لا ينامون، حتى النوم لا ينامون من القلق والألم؟ أجيبوا.
لا والله، لا ينامون من الفرح والسرور، حتى تكون أوقاتهم كلها مستغرقة في الفرح والسرور، وعدم نومهم دليل على كمال حياتهم؛ لأن النوم إنما نحتاج إليه لنقض التعب السابق واستجداد القوة اللاحقة، أليس كذلك؟ ولهذا كلما تعب الإنسان احتاج إلى النوم، وإذا نام قام نشيطًا، إذن نحن محتاجون إلى النوم في الحياة الدنيا لنقص حياتنا، لكن في الآخرة ما فيه نقص، دائمًا هم في سرور، اللهم اجعلنا منهم؛ ولذلك قال: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ الرحمة ما فيها شيء يحزن ولا يكدر، وإنما كلها خير.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الكفار ظلمة، بل هم أظلم الظلمة، أعظم الذنب الكُفْر أن تجعل لله نِدًّا وهو خلقك، فأظلم الظالمين هم الكفار، وإذا كنا نؤمن بهذا، ويجب علينا أن نؤمن بهذا، فهل نرجو من الكفار خيرًا وهم أظلم الظلمة؟ لا والله، لا نرجو منهم خيرًا للإسلام أبدًا؛ لأنهم أظلم الظلمة؛ ولهذا يجب أن تغرس في قلبك بُغض الكافرين والكُفر، يجب أن تجعلها غريزة مستقرة كامنة تبغض كل كافر وكل كفر.
وإذا كان في الإنسان خصال كفر وخصال إيمان؟ القسط والعدل أن أحبه على ما معه من إيمان، وأبغضه على ما معه من الكفر، والإنسان قد يكون فيه خصلة إيمان وخصلة كفر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»[[أخرجه مسلم (٦٧/١٢١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]. وهذان لا يخرجان الإنسان من الإيمان.
إذن انتبهوا لهذا، الكفار أظلم الظالمين، ومن كان أظلم الظالمين فإنه لا يمكن أن يُرْجى منه خير ولا عدل، واعلم أنه إن عدل فلاستغلال الفرصة؛ ليأخذ بدل العدل مرة الظلم مرات، الآن اليهود نعلم أنهم أشد الناس حرصًا على المال، ومع ذلك نجدهم يبذلون، ولكن يبذلون قرشًا ليأخذوا دينارًا، لا تفكر أبدًا أنهم يبذلون شيئًا إلا لينالوا أكثر منه، وهذا شيء معلوم: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة ٩٦].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الظالمين لا يجدون ناصرًا ولا يجدون وليًّا، لا ناصرًا يدفع العذاب أو يرفعه، ولا ولي يواسيهم فيُهوِّن عليهم المصائب، ليس لهم هذا، وهذا يدل على أنهم في حسرة شديدة؛ لأنهم لا يرجون نفعًا وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف ٣٩].
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا؛ لأن النفي أبلغ وأوفق للسياق، ونحن قلنا: نحمل الآية على المعنيين متى؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، ولا مرجِّح، لاحظ هذا القيد؛ لأنك إذا لم تقل: ولا مُرجِّح، جاءك أهل التعطيل وقالوا: ما قلناه يحتمل، لا، لازم تفهم هذا، إي نعم، لكن الله نفى باعتبار الواقع.
* الطالب: في غير هذه البلاد مثلًا يوجد علماء متضلعون في بعض العلوم، ولكن مثلًا يكون معتزليًّا أو أشعريًّا، ففي أثناء الدرس مثلًا قد يقرر المذهب، فهل طالب العلم إذا كان يعلم الحق في هذه المسألة أن يناقش شيخه فيها، خاصة أنه يكون كبيرًا في السن قد يصعب أن يرجع عن رأيه؟
* الشيخ: هو لا شك أن أولًا: الذين يدعون إلى البدعة، هؤلاء تجنبهم، والرزق على الله، حتى لو كانوا علماء في النحو والبلاغة لا خير فيهم، هؤلاء الذين يدعون، أما الذين لا يدعون إلى بدعتهم ويتسترون فلا بأس أن تجلس إليهم فيما ينفع، لكن إذا رأيتهم خرجوا على الجادة فيجب عليك أن تنبههم، لكن لا تنبههم أمام الطلاب؛ لأن الإنسان قد تأخذه العزة بالإثم، خصوصًا إذا رأى نفسه أنه مبرز في علم من العلوم، يجيء طالب علم ويرد عليه أمام الناس هذا، ثق بأنه سينتفخ ويكون أكبر من الجبل ولا يرجع، لكن من الممكن أن تكتب له كتابًا تبين له الحق إذا لم تستطع أن تناقشه مباشرة، إن كان داعية لا تقربه أبدًا وحذِّر منه؛ لأن هذا يُخشى منه، ثم إذا رأى الناس أنك أنت وفلان وفلان ترجعون إليه توهم أنه على الحق، عرفت؟ نسأل الله تعالى أن يجمعنا وإياكم برحمته، وأن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
{"ayahs_start":7,"ayahs":["وَكَذَ ٰلِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِیࣰّا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ یَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَیۡبَ فِیهِۚ فَرِیقࣱ فِی ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِیقࣱ فِی ٱلسَّعِیرِ","وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ وَلَـٰكِن یُدۡخِلُ مَن یَشَاۤءُ فِی رَحۡمَتِهِۦۚ وَٱلظَّـٰلِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِیࣲّ وَلَا نَصِیرٍ"],"ayah":"وَكَذَ ٰلِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِیࣰّا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ یَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَیۡبَ فِیهِۚ فَرِیقࣱ فِی ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِیقࣱ فِی ٱلسَّعِیرِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق