الباحث القرآني

ثم قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ الواو حرف، الذين معطوف على ما سبق عطف أعيان ولا أوصاف؟ أوصاف ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ قال المفسر: (أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة) استجابوا لربهم بمعنى أجابوه. وقد سبق لنا ذكر الأمثلة على كون استجاب بمعنى أجاب. وقوله: (من التوحيد والعبادة) تفسير لا بأس به، ولو قال رحمه الله: ﴿اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ أي: أجابوه إلى كل ما دعاهم إليه من فعل الأوامر وترك النواهي لكان أبين وأعم. ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ معطوف على (استجابوا)، فهي داخلة في صلة الموصول. ﴿أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ قال المؤلف: (أداموها) وفيها نظر، بل معنى ﴿أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ أتوا بها مستقيمة على الوجه الذي طلب منهم؛ لأن هناك فرقًا بين إقامة الصلاة وبين إدامة الصلاة، نعم إدامتها من إقامتها لا شك، ولكن ليست الإقامة هي الإدامة، إذن الإقامة معناه أن يأتي بالصلاة مستقيمة على الوجه المطلوب، ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾. وقوله: ﴿الصَّلَاةَ﴾ يعم الفريضة والنافلة. ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ أمرهم أي: شأنهم، والمراد الشأن العام، لا الشأن الخاص، الشأن العام الذي يهم الجميع يتشاورن فيه، ومعنى يتشاورون فيه يعني يتبادلون الرأي هل يقدمون أو يحجمون، هل يعدلون أو يبقون الشيء على ما هو عليه، المهم أن المشاورة هي تداول الرأي ليخرجوا بنتيجة مرضية للجميع. قال الله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (يتشاورن فيه ولا يعجلون) ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، (من) هنا للتبعيض، ويحتمل أن تكون للجنس، فإن كانت الأولى صار المدح لمن ينفق بعض ماله، وإن قلنا بأنها للجنس صار المدح لمن ينفق ماله كله أو بعضه، فأيهما أولى: أن نقول: للتبعيض أو للجنس؟ للجنس أولى، ليشمل القليل والكثير والكل. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ قال: (أعطيناهم ﴿يُنْفِقُونَ﴾ في طاعة الله). * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المتوكلين أنهم يستجيبون لله عز وجل؛ أي: يجيبونه إلى ما طلبه منهم، ومعناه: المبادرة وعدم التأخير؛ لأن التأخير عن تنفيذ الواجب نقص في الاستجابة. وأضرب لكم مثلًا برجل أمر ابنه أن يأتي إليه بحاجة، فتوانى الابن وبقي ساعة أو ساعتين، ثم جاء بالحاجة، فهل يقال: إن الابن امتثل امتثالًا كاملًا؟ لا، الامتثال الكامل بالمبادرة، وهذا معنى قوله: ﴿اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ [الشورى ٣٨]. * ومن فوائد الآية الكريمة: العناية بإقامة الصلاة. وجه ذلك أن الله نص عليها بعد التعميم؛ لأن قوله: ﴿اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ [الشورى ٣٨] يشمل الصلاة وغيرها، فلما قال: ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ نص عليها بخصوصها، وهذا دليل على العناية بها، وحق والله أن يعتنى بها؛ لأنه ليس هناك عبادة أقوى صلة بك في الله عز وجل من الصلاة، أليس كذلك؟ الإنسان يتصدق لكن لا يشعر بالصلة بينه وبين ربه، يصوم، يحج، لكن الصلاة الحقيقية الشرعية أن الإنسان يشعر بأنه في صلة بينه وبين الله، ومن أجل ذلك سميت صلاة؛ لأنها صلة بين الإنسان وبين الله، «إذا قال الإنسان: الحمد لله قال الله: حَمِدَنِي عَبْدِي»[[أخرجه مسلم (٣٩٥ / ٣٨) من حديث أبي هريرة.]]، وهكذا محاورة، ثم هو يشعر بأنه إذا ركع ففوقه رب يعظمه، وإذا سجد فكذلك يضع أشرف أعضائه في مواطئ الأقدام، ولذلك صارت العناية بالصلاة حيث قال: ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾. أين فُرضت الصلاة؟ فرضت الصلاة ليلة المعراج من الله إلى الرسول ولَّا بواسطة؟ بدون واسطة، هذا يدل على أهميتها والعناية بها. ثم إنها فُرضت خمسين صلاة، وخفف الله على العباد فجعلها خمس صلوات، لكنها في الواقع خمسون صلاة، بمعنى أنك إذا صليت فريضة واحدة كأنما صليت عشرا، ما هو من أجل أن الحسنة بعشر أمثالها؛ لأن هذا لجميع الحسنات، لكن كأنك صليت الظهر مثلًا عشر مرات، صليت وسلمت، صليت وسلمت حتى بلغت عشرة، وبهذا يظهر الفرق بينها وبين سائر العبادات؛ الثواب الحسنة بعشر أمثالها، لكن هذه كأنك فعلًا صليت خمسين صلاة. * من فوائد الآية الكريمة: مراعاة الأحوال الاجتماعية، وأن الأمور العامة يجب التشاور فيها؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى ٣٨]. وهل تدل الآية على أن الإنسان إذا أراد أن يفعل فعلًا خاصًّا به يشاور؟ لا، لا تدل على هذا، لكن المشاورة مشروعة، إذا أشكل عليك شيء فلديك شيئان: الاستخارة والمشاورة، لكن الأمر العام لا بد من التشاور فيه، يُستثنَى من ذلك إذا بان الأمر لولي الأمر فإنه لا حاجة إلى المشاورة فيه، يعني لو تبين للأمير أو الرئيس أو الملك مصلحة ما يريد فلا حاجة إلى التشاور؛ لأن التشاور يُرجَع إليه متى؟ عند الإشكال والتردد، أما مع ظهور المصلحة فلا حاجة إلى أن يشاور، لماذا؟ لأن المشورة حينئذ لا تزيد الأمر إلا إشكالًا وفوضى، فالناس ليسوا على رأي واحد، إذا أردت أن يتمزق الأمر فضعه بين يدي عشرة، وإن أردت أن يذوب بالكلية فضعه بين يدي عشرين، لا بد من اختلاف الناس. إذن ﴿أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى ٣٨] على عمومه أو يُستثنى منه؟ يستثنى منه، ما ظهرت مصلحته لولي الأمر فإنه لا حاجة إلى أن يشاور. ويدل لهذا الاستثناء عمل السلف الصالح، فها هو عمر رضي الله عنه، وهو من أشد الخلفاء اهتمامًا بالرعية، لا يشاور إذا كانت المصلحة ظاهرة له، وإنما يشاور إذا أشكل عليه الأمر، لو أحصيت ما شاور فيه ما بلغ إلا العشرات أو أقل، وقد بقي عشر سنوات في الخلافة. هذا العمل السلفي من الخلفاء الراشدين يقيد قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى ٣٨] إذن ما الذي يستثنى؟ * طالب: (...). * الشيخ: فلا حاجة للمشاورة؛ لأن المشاورة في هذه الحال ضرر في تنفيذ الأمر والمضي فيه. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من صفات الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون بذل المال في طاعة الله؛ لقوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الشورى ٣٨]. وهل يطلب من الإنسان أن ينفق جميع ماله؟ هذا ينبني على (من) هل هي للتبعيض أو للجنس، إذا قلنا: للتبعيض صار المدح على من أنفق بعض ماله، وإذا قلنا: للجنس أي أنهم ينفقون من هذا الجنس الذي رزقهم الله صار عامًّا، والتفصيل هو التأصيل إن شاء الله، إذا كان الإنسان لا ينقص إنفاقه شيئًا من واجبات الإنفاق على الأهل فلا حرج أن ينفق جميع ماله، مثل أن يكون عند الإنسان مئة ريال لا يحتاجها للإنفاق على أهله، وليس عنده سواها، نقول هنا: أنفق جميع المال، ثم اكتسب للإنفاق على أهلك، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، أما إذا كان يحتاج المال للإنفاق الواجب على أهله وهو ضعيف الاكتساب فهنا نقول: لا تنفق جميع مالك، أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. * طالب: الشورى (...) قد تظهر له المصلحة في شيء وليس فيه مصلحة. * الشيخ: هو مؤتمن، الأصل أنه مؤتمن، وإذا أراد أن يخون منع الشورى ولو احتاج لها. * الطالب: شيخ طيب إذا ظهرت يا شيخ خيانته (...) هو ظهر له ذلك (...). * الشيخ: ما علينا منه في ذمته هذه؛ لأننا لو قلنا: إن ولي الأمر يشاور في كل شيء مشكلة ولا يمكن تستقيم الحال، معناه لو يكتب للشرطة: احبسوا فلانًا لأنه أساء نقول: يللا اجمع الناس شاور. * الطالب: فيه ناس معينون. * الشيخ: ما يخالف، معينون بأشخاصهم ما هو بمعناه أن كل الناس يجابون، جاء بالشورى هل نقول: كل مسألة تتعلق بالعامة لا بد أن تشاور عليها؟ ما يمكن هذا، وكما قلت الآن، بينا لك أن عمر رضي الله عنه من أشد الخلفاء مشاورة ومع ذلك تكاد تحصي مشاوراته، لا بد من هذا وإلا ما يستقيم الأمر. * طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، إنسان إذا أشكل عليه شيء هل يبدأ بالاستخارة أو بالاستشارة؟ * الشيخ: سؤال جيد، يقول: إذا أشكل على الإنسان الشيء هل يبدأ بالاستخارة أو الاستشارة، نقول: يبدأ بالاستخارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ»[[أخرجه البخاري (٦٣٨٢) من حديث جابر.]] هم: يعني أصابه الهم فيه وتردد وشك، وليس مراده أن كل أمر تهم به تصلي ركعتين، إذا هم أحدكم بالأمر، إذا هم الإنسان يروح يتغذى يصلي ركعتين يستخير؟ لا، إذن إذا هم أحدكم بالأمر يعني إذا أهمه الأمر ولم يتبين له شيء فليصل ركعتين، فنقول: ابدأ أولا بالاستخارة لوجهين: الأول: أنه ظاهر الحديث. الثاني: أن كونك ترجع إلى الله خير من كونك ترجع إلى آراء الناس، فإذن نبدأ بالاستخارة قبل الاستشارة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب