الباحث القرآني
قبل أن نبدأ بالتفسير أحبُّ أن أحثَّ طلابَ العلم على تعلُّم تفسير القرآن؛ لأنَّ القرآن أشرفُ كتابٍ وأعظمُ كتابٍ؛ فإنَّه كلام الله عز وجل، تكلَّم به حقيقةً، وسمعه جبريل فألقاه إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم إنَّ هذا شأنُ الصحابة رضي الله عنهم، فقد كانوا لا يتجاوزون عشر آياتٍ حتى يتعلَّموها وما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلَّمْنا القرآنَ والعِلْم والعَمَل جميعًا[[أخرج الطبري في تفسيره (١/٨٠) عن أبي عبد الرحمن، قال: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا: أنهم كانوا يستقرِئون من النبي ﷺ، فكانوا إذا تعلَّموا عَشْر آيات لم يخلِّفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلَّمنا القرآن والعمل جميعًا.]]. تعلَّموا القرآنَ والعِلمَ والعَمَل.
ومن المعلوم أنَّ الإنسان إذا قرأ القرآن بدون معرفةٍ لمعناه فإنَّه لا يستفيد منه شيئًا؛ كما لو قرأ كتابَ فقهٍ أو كتابَ طبٍّ أو كتابَ أدبٍ وهو لا يعرف المعنى فإنَّه لا يستفيد من هذا شيئًا، أهمُّ شيءٍ في القرآن أن تتدبَّر آياته وتتَّعظ بها؛ كما قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص ٢٩].
يوجد بعضُ الناس تميل نفسُه إلى فنٍّ من فنون العلم ويُهمِل القرآن، لو ناقشتَه في أقلِّ معنًى للآيات وجدتَه ليس عنده منها خبرٌ ولا وَقَف منها على علم ولا أَثَر، وهذا نقصٌ كبيرٌ في العلم، أصلُ المعلومات وأهمُّها وأشرفُها وأجلُّها هو تعلُّم القرآن الكريم، ولذلك تنبغي العنايةُ به.
واعلمْ أنَّ القرآن الكريم لم ينزل على أنَّه كتابُ نحوٍ أو كتابُ صرفٍ أو كتابُ فلَكٍ أو ما أشبه ذلك، إنما نزل ليستقيم العبدُ في معاملته مع الله ومعاملته مع الخلْق، ولذلك تجد القرآن الكريم لا يعتني كثيرًا بالآيات الكونية الفلَكية وإنما يُشير إليها إشارةً، لكنَّه في الأحكام الشرعية يأتي فيها بالتفصيل والبيان، ولقد حاولَ بعضُ المتأخِّرين أن يُنَزِّل المعلومات الكونية الفلكية والأرضية، حاولَ أن يجعل القرآنَ دالًّا عليها بالتفصيل، فصار يسوق الآيات ويتكلَّف في معناها ليُخضِعها إلى موافقة ما قيل عن علم الفَلَك والأرض، وهذا غلطٌ؛ لأنَّ القرآن إنما نَزَل لهداية الخلْق في العبادات والمعاملات، وما أتى فيه من كلامٍ عن الأمور الكونية فهذا أتى على وجهٍ إجماليٍّ التفصيلُ فيه قليلٌ إن كان هناك تفصيل، فليعتنِ طالبُ العلم بتفسير كلام الله عز وجل.
ثم نبدأ درسَ اليوم، يقول: (سورة الشورى)، ويُقال: (سورة شورى)، يُقال هذا وهذا؛ أمَّا (الشورى) فـ(أل) فيها للبيان، وأمَّا (شورى) فهي مأخوذة من قوله: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى ٣٨] وليس فيها (أل)، فهذه السورة تُسَمَّى (سورة شورى) و(سورة الشورى).
يقول: (مكيَّة) ما معنى مكية؟ هل المراد ما نزل بمكة، أو المراد ما نزل قبل الهجرة؟
المراد الثاني، ما نزل بعد الهجرة ولو في مكة فهو مدني؛ كقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة ٣] هذه نزلتْ في عرفة والنبيُّ ﷺ واقفٌ بعرفة، وما نزل قبل الهجرة ولو في الأسفار أو في أيِّ مكانٍ فإنه مكِّيٌّ؛ إذَن الحد الفاصل بين السور المكية والمدنية هو الهجرة.
يقول: (إلا ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ [الشورى ٢٣] الآيات الأربع). استثنى المؤلف رحمه الله من هذه السورة هذه الآيات الأربع؛ يعني أنها مدنية وبقيَّة السورة مكية، ولكن لاحِظوا أنَّ أيَّ إنسانٍ يستثني آياتٍ من سورة مدنية لتكون هذه الآياتُ مكيةً أو بالعكس فإنَّنا نُطالبه بالدليل، وإلا فالأصل أنَّ السورة المكية مكيةٌ بجميع آياتها، وأنَّ السورة المدنية مدنيةٌ بجميع آياتها.
قد يقول قائل: الشاهد مثلًا أو الدليل أنَّ أسلوب الآيات المدنية يختلف عن أسلوب الآيات المكية.
نقول: هذا لا يكفي.
قد يقول -مثلًا- قائلٌ: الدليل على الاستثناء أنَّ هذه الآيات -مثلًا- تبحثُ في الفروع؛ في فروع الدين، وهذه علامةٌ على أنها مدنية؛ لأنَّ غالب السور المكية تبحث في أصول الدين.
نقول: هذا ليس بدليل. وعلى هذا فالأصل أنَّ هذه السورة أيش؟ مكيةٌ بجميع آياتها حتى يقوم دليلٌ واضحٌ على أنَّ هذه الآيات التي استثناها المؤلفُ مدنية.
ثم اعلمْ أنَّ جميع السور المبدوءة بالحروف الهجائية مكيةٌ إلا سورتين هما: البقرة وآل عمران، والباقي كلُّه مكيٌّ.
ثم قال: (ثلاثٌ وخمسون آية). الآية هي عبارة عن جملةٍ من القرآن الكريم انفصلتْ عمَّا قبلها، انفصالًا معنويًّا أو انفصالًا توقيفيًّا؟ انفصالًا توقيفيًّا؛ يعني أنَّ الآيات فصلُ هذه عن هذه بالتوقيف، وليس تابعًا للمعنى، ولهذا تجدون قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون ٤، ٥] هاتان آيتان، مع أنَّ ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ مرتبطةٌ تمامًا بقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾، المهمُّ أنَّ فصل آيةٍ عن آيةٍ إنما هو بالتوقيف.
كذلك أيضًا وضْعُ الآيات بعضها إلى بعض هو أيضًا توقيفيٌّ ليس للرأي فيه مجالٌ وليس لأحدٍ فيه أيُّ عملٍ، بل هو توقيفيٌّ؛ إذا نزلت الآية قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَكَانِ كَذَا مِنْ سُورَةِ كَذَا»[[أخرج الترمذي (٣٠٨٦) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: كان رسول الله ﷺ مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السُّوَر ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعضَ مَن كان يكتب فيقول: «ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يُذكَر فيها كذا وكذا»، وإذا نزلت عليه الآية فيقول: «ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكَر فيها كذا وكذا...» الحديث.]].
فصار الآن فصلُ الآيات بعضها عن بعض..
* طلبة: ترتيبها.
* الشيخ: طيب، ترتيبها توقيفيٌّ.
أمَّا السُّوَر فبعضها ترتيبه توقيفيٌّ وبعضها ترتيبه غير توقيفيٍّ؛ فمثلًا البقرة وآل عمران ترتيبها توقيفيٌّ، آل عمران بعد البقرة، ولا يُشكِل عليك حديث حذيفة «أنَّه صلى مع النبيِّ ﷺ ذات ليلةٍ، فقرأ بالبقرة، ثم قرأ بالنساء، ثم قرأ بآل عمران»[[أخرج مسلم (٧٧٢ / ٢٠٣) عن حذيفة قال: صلَّيتُ مع النبي ﷺ ذات ليلةٍ فافتتح البقرة، فقلتُ: يركع عند المئة. ثم مضى، فقلتُ: يصلِّي بها في ركعة. فمضى، فقلتُ: يركع بها. ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلًا... الحديث.]]؛ لأنَّ الترتيب النهائي أنَّ آل عمران بعد البقرة، ويكون حديثُ حذيفة قبل الترتيب النهائي، ولهذا تجدون في الحديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يَقرن دائمًا بين البقرة وآل عمران؛ كقوله: «اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ»[[أخرجه مسلم (٨٠٤ / ٢٥٢) من حديث أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه.]]؛ يعني: البقرة وآل عمران.
فصار عندنا الآن ترتيب السُّوَر بعضُه؟
* طالب: توقيفي.
* الشيخ: وبعضه غير توقيفي. ترتيب الآيات؟
* الطلبة: توقيفي.
* الشيخ: توقيفي. تفصيل الآيات؟
* الطلبة: توقيفي.
* الشيخ: توقيفي، طيب.
وإنما سُمِّيت القطعة أو الجملة من القرآن آيةً لأنها معجزةٌ؛ يعني الآية الواحدة لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثلها؛ لا في موضعها، ولا في صيغتها، ولا في مدلولها.
قال الله تعالى: ﴿حم (١) عسق﴾ [الشورى ١، ٢] هذه خمسة أحرف: حاء، ميم، عين، سين، قاف. خمسة أحرف، لكنَّها أحرف هجائيَّة؛ يعني هي مثل ألِف، باء، تاء، ثاء، جيم، حاء، خاء. هذه حاء، ميم، عين، سين، قاف. ليس لنا أن نتكلَّم لماذا اختار الله عز وجل هذه الحروفَ بعينها دون غيرها، هذا ليس إلينا، ولا يمكننا أن نحيط بذلك علمًا، لكنْ لنا أن نسأل: هل لهذه الحروف معنًى أو ماذا؟
المؤلف يقول: (الله أعلم بمراده به). وهذا يقتضي أنَّه أثبتَ لهذه الحروف معاني لكنَّها غير معلومة، وهذه الحروف الهجائية التي ابتُدِئتْ بها بعضُ السُّوَر اختلف فيها العلماء -رحمهم الله- سلفًا وخلفًا: ما معناها؟ وهل هي رموزٌ أو أسماءٌ للسُّوَر التي ابتُدئتْ بها أو ماذا؟ ولكنَّنا إذا طبَّقْنا ذلك على ما تقتضيه الأدلَّة وجدنا أنها حروفٌ هجائيةٌ ليس لها معنى، الدليل أنَّه لا يوجد في القرآن شيءٌ ليس له معنى معلومٌ لجميع الناس؛ لأنَّه لو قُدِّر أنَّ في القرآن شيئًا مجهولًا لجميع الناس لم يكنْ هذا القرآن بيانًا للناس؛ لأنَّ مقتضى البيان ألَّا يكون فيه شيءٌ إلا كان معلومًا للناس جميعًا أو لبعض الناس، أمَّا أن يوجد فيه ما ليس معلومًا لجميع الناس فهذا لا يمكن، وقد قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل ٨٩]، وقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل ٤٤]، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة ١٨، ١٩]، وهذا يشمل البيانَ اللفظيَّ والبيانَ المعنويَّ. إذَن اعلمْ أنَّه لا يوجد شيءٌ في القرآن لا يفهم الناسُ معناه، أبدًا، لا بدَّ أن يفهموا معناه، فإذا وُجِد شيءٌ لا يُعرَف معناه يعني ذلك أنَّه ليس له معنى، هذا واحد.
ثانيًا: إذا طبَّقْنا هذه الحروف على قول الله تبارك وتعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء ١٩٣ - ١٩٥] وقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف ٣] قلنا: هذه الحروف في لغة العرب ويش معناها؟ ليس لها معنى. إذَن فمقتضى كَوْن القرآن باللسان العربي المبين ألَّا يكون لهذه الحروف معنى؛ لأنَّ هذه الحروف ليس لها معنى في اللغة العربية، وهذا هو الذي نقله ابن كثير رحمه الله عن إمام المفسِّرين في عهده مجاهد بن جبرٍ رحمه الله، الذي أخذ تفسير القرآن عن عبد الله بن عباس، قال: إنَّ هذه الحروف الهجائية ليس لها معنى[[ذكر ابن كثير في تفسيره (١ / ٦٧) عن مجاهد أنَّه قال: (الم) و(حم) و(المص) و(ص) فواتح افتتح الله بها القرآن.]]. نجزم بذلك أو لا؟ نجزم بذلك، لا تخرُّصًا، ولكن استدلالًا بالقرآن واستدلالًا بحال القرآن:
استدلالًا بالقرآن لأنَّه نزل باللغة العربية، وهذه الحروف الهجائية ليس لها معنًى في اللغة العربية.
استدلالًا بحال القرآن أنَّ القرآن ليس فيه شيءٌ أيش؟ لا يعرف الناسُ معناه كلُّهم، لا بدَّ أن يكون في شيء معلوم، وعلى هذا فإنَّنا نجزم بأنَّ هذه الحروف ذاتها ليس لها معنى.
لكنْ إذَنْ يَرِد علينا إشكال؛ إذا قلنا: ليس لها معنًى، صار إنزالها وكلامُ الربِّ بها -عز وجل- عبثًا، والله تبارك وتعالى لا يفعل شيئًا عبثًا.
فنقول: ليس بعبثٍ؛ هي ذاتُها ليس لها معنًى، لكنْ لها مغزًى يقترن بالتحدِّي وهو أن يُقال: إنَّكم أيها العرب تركِّبون كلامَكم من هذه الحروف، والقرآن لم يأتِ بحرفٍ لم تتكلَّموا به، بل كلُّه من الحروف التي تتكلَّمون بها، وهذا مثال: حاء، ميم، عين، سين، قاف، ومع هذا عجزتم أن تأتوا بمثله، فيكون في هذا مغزًى عظيمٌ، وهو أنَّ القرآن الذي أَعجزكم أيها العرب مع أنَّكم أئمةُ الفصاحة هل أتى بحروفٍ جديدةٍ تقولون: واللهِ لا نعرف هذه الحروف، أو هو من الحروف التي أنتم تنطقون بها؟ الجواب: الثاني، ومع ذلك أَعجزكم.
ويدلُّ لهذا المغزى الذي أقرَّه شيخ الإسلام رحمه الله ومَن سبقه ومَن لَحِقَه، يدلُّ على هذا أنَّك لا تكاد تجد سورةً مبدوءةً بهذه الحروف إلا وبعدها ذِكْر القرآن الكريم أو ذِكْر ما لا يمكن إلا بوحي؛ ننظر الآن ﴿الم﴾ [البقرة ١] في أول البقرة، ويش بعدها؟ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة ٢]، في آل عمران: ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران ١ - ٣]، الأعراف: ﴿المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف ١، ٢]، وهلمَّ جرًّا، ليس فيه إلا سورتان أو ثلاث، لكن حقيقة الأمر أنَّ الذي يلي هذه الحروف لا يتأتَّى العلمُ به إلا عن طريق الوحي.
﴿حم (١) عسق﴾ نقول في تفسيرها: هذه حروفٌ هجائيةٌ ليس لها معنى، لكن لها مغزى.
(﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مِثْل ذلك الإيحاء ﴿يُوحِي إِلَيْكَ وَ﴾ أوحى ﴿إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ﴾ [الشورى ٣] فاعل الإيحاء). ﴿كَذَلِكَ﴾ تأتي في القرآن كثيرًا، وإعرابها في جميع المواطن إلا يسيرًا أن تقول: الكاف نائبةٌ منابَ (مِثْل) منصوبةٌ على أنها مفعولٌ مطلقٌ، وعاملُها ما يأتي بعدها. الكاف بمعنى (مِثْل) منصوبة على أيش؟ على أنها مفعولٌ مطلقٌ عاملُها ما يأتي بعدها. حوِّل الكاف إلى (مِثْل) تقول: مِثْلَ ذلك. أين العامل فيها؟ العامل فيها ﴿يُوحِي﴾؛ أي: يُوحي إليك مثلَ ذلك الإيحاءِ اللَّهُ العزيزُ الحكيمُ.
وقوله: (ذلك) المشارُ إليه الوحيُ النازل على الرسول عليه الصلاة والسلام.
﴿يُوحِي إِلَيْكَ﴾ الوحيُ في اللغة: الإعلام بسرعة وخفاء، ويُطلَق على الرمز؛ ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم ١١]، ويُطلَق على الإلهام كما في قوله: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل ٦٨]، وقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص ٧]. أمَّا في الاصطلاح فالوحيُ إعلامُ الله تعالى بالشرع لأنبيائه ورُسُله.
وقوله: ﴿وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ الواو حرف عطف، و﴿إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ معطوفة على ﴿إِلَيْكَ﴾، وإذا كانت معطوفةً على ﴿إِلَيْكَ﴾ كان تقدير الفعل: ويُوحي إلى الذين من قبلك. لكنْ لاحِظوا أنَّ المؤلف رحمه الله صرفها فقال: (وأوحَى ﴿إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ ) فقدَّر فعلًا ماضيًا مع أنَّها معطوفة على معمولِ فعلٍ مضارعٍ، فلماذا؟ لأنَّ إيحاء الله إلى رسوله محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مستمرٌّ، وإيحاؤه إلى مَن سَبَقه ماضٍ منتهٍ، فلهذا قدَّر المؤلف فعلًا ماضيًا.
ولكنَّنا نقول: الأصل عدم التقدير؛ لأنَّ القرآن كاملٌ لا يحتاج إلى تقديرٍ إلا ما دعت الضرورة إليه، هُنا لا ضرورة، ونقول: كذلك يُوحِي إليك ويُوحِي إلى الذين من قبلك، ويكون ذِكْر الإيحاء لمنْ سَبَقنا من باب ذِكْر صورة الحال؛ فإنَّه سبحانه وتعالى حين وحْيِه إلى مَن سَبَق يُوحي، في المضارع، فيكون هذا على حكاية الحال.
وقوله: ﴿وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ المراد بهم الأنبياء والرُّسُل.
(﴿اللَّهُ﴾ فاعلُ الإيحاء). لو قال: فاعل ﴿يُوحِي﴾، كان أحسن من حيث بيان الإعراب، فعلى هذا نقول: ﴿يُوحِي﴾ فعل مضارع، و﴿اللَّهُ﴾ فاعل.
﴿اللَّهُ﴾ الله هو عَلَمٌ على ربِّنا عز وجل، قيل: وأصله الإله، فحُذِفت الهمزة لكثرة الاستعمال، كما حُذِفت الهمزة من (خير) و(شر) في قولهم: فلانٌ خيرٌ من فلانٍ، أو: فلانٌ شرٌّ من فلانٍ، والتقدير: أَخْيَرُ، وأَشَرُّ.
﴿اللَّهُ﴾ معنى هذه الكلمة العظيمة؛ قيل: إنَّه اسمٌ جامدٌ ليس له معنى، فهو غير مشتقٍّ. لكن هذا القِيل غير صحيح؛ لأنَّ الله تعالى قال: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف ١٨٠]، والاسم المجرَّد عن معنًى لا يدخل في الحُسنى، بل ولا في الحَسَن، فكلُّ اسمٍ من أسماء الله فإنَّه متضمِّنٌ لصفةٍ من صفات الله أو أكثر، وليس في أسماء الله اسمٌ جامدٌ لا يحمل معنى أبدًا.
وعلى هذا فنقول: (الله) مشتقٌّ من الألوهيَّة، والألوهيَّة هي التذلُّل للمَألوهِ مع المحبَّة والتعظيم، إذَنْ فـ(الله) بمعنى المتألَّه إليه حُبًّا وتعظيمًا.
﴿اللَّهُ الْعَزِيزُ﴾ قال: (في ملكه ﴿الْحَكِيمُ﴾ في صنعه). أولًا قال: (﴿الْعَزِيزُ﴾ في ملكه)، لكنْ لم يفسِّر معنى العِزَّة.
(العزيز) في الأصل: الغالب، (العزيز) يعني الغالب القاهر لِمَن سِواه عز وجل، واستمِعْ إلى قول الله تعالى عن المنافقين: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ [المنافقون ٨]، مَن يريدون بالأعزِّ؟ يريدون أنفسَهم، ويريدون بالأذلِّ الرسولَ ﷺ وأصحابَه. ماذا قال الله ردًّا عليهم؟ قال: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون ٨] أي: لله الغَلَبة ولرسوله وللمؤمنين.
وتأمَّل قوله: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ﴾ ولم يقُل: واللَّهُ الأعزُّ، مع أنَّهم هم يقولون: ﴿الْأَعَزُّ﴾ و﴿الْأَذَلَّ﴾، لم يقُل: والله أعزُّ، قال: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ﴾؛ لأنَّه لو قال: والله هو الأعزُّ، لَأَثْبتَ للمنافقين عِزَّةً مفضولةً، لكنَّ الحقيقة أنَّه لا عِزَّة للمنافق، بل هو مغلوبٌ دائمًا، بل حالُه تدلُّ على أنَّه مغلوبٌ لأنَّه مختفٍ جبانٌ، يُظهِر أنَّه مسلمٌ وليس بمسلم، ولهذا نقول: إنَّ الكافرين الخُلَّص الصُّرَحاء أشجعُ من المنافقين؛ لأنَّهم يُصَرِّحون ويُعلنون، المنافق ذليلٌ يُظهِر الإسلامَ خوفًا من المسلمين، ويُبطن الكفر لأنَّه كافرٌ والعياذ بالله.
الخلاصة: ﴿الْعَزِيزُ﴾ المؤلف رحمه الله لم يبيِّن معناها، فنقول: العِزَّة يعني أيش؟ الغَلَبة.
﴿الْحَكِيمُ﴾ يقول: (في صنعه)، وهذا ناقصٌ جدًّا؛ لأن حكمة الله تعالى في صنْعه وفي شَرْعه، فهو حكيمٌ في صنعه؛ أي: في خَلْقه، وهو حكيمٌ في شرعه، واقرأْ قولَ الله تعالى في سورة الممتحنة: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا﴾ كل هذه أحكام شرعية، ثم قال: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة ١٠]، فهو جل وعلا حكيمٌ في شرعه، وحكيم في صنعه؛ يعني: في خَلْقه، كلُّ ما خَلَقه الله تعالى فالحكمة تقتضي وجودَه، وكلُّ ما أعدمَه الله تعالى فالحكمة تقتضي عَدَمه، هذا أمرٌ مسلَّمٌ به. كلُّ ما شرعه الله إيجابًا أو تحريمًا أو تحليلًا فالحكمة تقتضي شرعه كذلك؛ الواجب تقتضي الحكمةُ إيجابَه، والمحرَّم تقتضي الحكمةُ تحريمه، والمباح تقتضي الحكمةُ إباحتَه، لكن لا يَلْزم من وجود الحكمة في ذلك أن تكون معلومةً لنا، لا يَلْزم من هذا، هو فيه حكمة لكنْ قد نَعْلمها وقد لا نَعْلمها. وهل إذا حُجِبَ عنَّا عِلْمها يعني العدم؟ أجيبوا يا إخوان.
* الطلبة: لا.
* الشيخ: لا، لأنَّنا قاصرون بكل شيء، خُلِقَ الإنسانُ ضعيفًا في كلِّ شيء؛ ضعيفًا في قوَّته، في إدراكه، في علمه، في كل شيء، ولهذا لَمَّا قالوا: ما هي الروح يا محمد؟ قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء ٨٥] ختم الآية بقوله: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ كأنَّه يقول: ما بَقِي عليكم من العلم إلا الروح حتى تسألوا عنها، بل الذي فاتكم من العلم أيش؟ أكثرُ من الذي أدركتموه، ولهذا قال: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ولذلك واجبُ المسلم تجاه خَلْق الله وتجاه شَرْع الله أن يستسلم تمامًا وأن يقول: هذا هو الحكمة.
أضربُ مثلًا في الشرائع؛ لماذا يأتي الناس بحصى -حجراتٍ صغيرةٍ- يضربون بها مكانًا معيَّنًا؟ قد يقول قائل: أيش الحكمة من هذا؟ ما الحكمة؟
فنقول: مجرَّد كَوْن الله شَرَع ذلك دليلٌ على الحكمة، ونكتفي بهذا، مع أنَّ مِن أعظم الحِكَم فيه كمال التعبُّد؛ أنْ يأتي الإنسانُ بحجرٍ يضرب به مكانًا لمجرَّد امتثال أَمْر الله ففيه كمال التعبُّد؛ لأنَّ انقياد النفس لِمَا تعلم فائدتَه أسهلُ من انقيادها لِمَا لا تعلم فائدتَه، وانقيادها لِمَا لا تعلم فائدتَه أَبْلغُ في التذلُّل والتعبُّد لله عز وجل، مع أنَّ هذا العمل مقرونٌ بذِكْر؛ كلُّ حصاةٍ ترميها تقول: الله أكبر. مقرونٌ أيضًا باتِّباعٍ؛ كلُّ حصاةٍ ترميها وأنت تشعر أنَّك مُتَّبعٌ لرسول الله ﷺ.
على كلِّ حالٍ نقول: إنْ قَصْر المؤلفِ ﴿الْحَكِيمُ﴾ على حِكْمة الصنعة أيش فيه؟
* الطلبة: قاصرٌ.
* الشيخ: قاصرٌ بلا شك، فهو حكيمٌ في صنعه وحكيمٌ في شرعه تبارك وتعالى.
لا بدَّ أن نعرف ما هي الحكمة، يقول العلماء: إنَّ الحكمة هي وضْع الأشياء في مواضعها؛ بمعنى أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا خَلَق شيئًا أو شَرَع شيئًا فإنَّه في مكانه اللائق به. ولهذا قال بعض السلف: إنَّ الله تعالى لم يأمر بشيءٍ فيقول العقل لَيْتَه لم يأمر به، ولم يَنْهَ عن شيءٍ فيقول العقل: لَيْتَه لم يَنْهَ عنه. فكلُّ ما ثَبَت بالشرع فإنَّه لا يُنافي العقل، بل إنَّ العقل يؤيِّده ويشهد بصحته، فالحكيم إذَنْ هو واضعُ الأشياءِ مواضعَها سواءٌ الشرعية أو الكونية، فما أَمَر الله بشيءٍ فقال العقل: لَيْتَه لم يأمر به، وما نهى عن شيءٍ فقال العقل: لَيْتَه لم يَنْهَ عنه.
أمَّا في الأمور الكونية فإنَّ الله سبحانه وتعالى ربما يقدِّر أشياءَ تظنُّها فسادًا، فإذا بها تكون صلاحًا وخيرًا؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء ١٩]، فالله سبحانه وتعالى قد يقدِّر أشياء إذا نظر إليها الإنسانُ أوَّلَ وهْلةٍ قال: هذه ما فيها فائدة، أو قال: هذه مَضَرَّة، لكنْ إذا تأمَّل وجد أنَّ الحكمة تقتضي ذلك، وأنت أيُّها العبد إذا آمنتَ أنَّ الله حكيمٌ في شَرْعه وحكيمٌ في خَلْقه فإنَّه لا يبقى لك شكٌّ في أنَّ ما شَرَعه خيرٌ وما قدَّره خيرٌ.
وللحكيم معنًى آخَر غير الحكمة، وهو الحاكم؛ لأنَّ هذه المادة (ح ك م) تدلُّ على المعنيين: على الحكمة وعلى الحُكْم، فهو سبحانه وتعالى هو الحاكم، يحكم في الناس ويحكم بين الناس؛ يحكم في الناس بما يُلزمهم به من الأحكام الشرعية، ويحكم بين الناس فيما يختصمون فيه، فهو الحاكم، وحُكمه مبنيٌّ على العدل التامِّ، لا ظُلم ولا جَوْر، لا بالنسبة لِمَا يحكم فيه بين الناس، ولا بالنسبة لِمَا يحكم به في الناس، كلُّه عَدْلٌ، كلُّه خيرٌ، إذَن الحكيم له معنًى آخَر وهو أيش؟ الحُكم.
الحُكم ينقسم إلى: حُكمٍ قَدَريٍّ، حُكمٍ شرعيٍّ. ولهذا إذا أُصِيبَ الإنسانُ بمصيبةٍ قال: هذا حُكم الله - يعني هو تعبير عامِّي- هذا حُكم الله، يعني القَدَري أو الشرعي؟
* الطلبة: القدري.
* الشيخ: القدري. لكنْ إذا قيل له: يجب عليك كذا وكذا. قال: ليش يجب؟ قال: هذا حُكم الله. هذا حُكم الله الشرعي.
وكلاهما في القرآن؛ فمِن الأول -أعني الحُكم القَدَري- قول الله تبارك وتعالى عن أخي يوسف: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ [يوسف ٨٠] أي: يقدِّر لي. لم يقل: يحكم فِيَّ، قال: ﴿أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾، فالحُكم هنا قَدَري.
ومثال الثاني -الحكم الشرعي- قول الله تبارك وتعالى حينما ذكر أحكام الكافرات اللاتي يأتين من الكفَّار إلى المؤمنين، قال: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة ١٠] ﴿حُكْمُ اللَّهِ﴾ أي: الشرعي، أو الكوني؟
* الطلبة: الشرعي.
* الشيخ: الشرعي.
طيب، ما الفرق بينهما؛ بين الحكم الشرعي والحكم القدري؟
الفرق بينهما أنَّ الحكم القدري يكون فيما يرضاه الله وفيما لا يرضاه الله؛ الحكم الكوني يكون فيما يرضاه الله وما لا يرضاه الله؛ يَسْرق الرجل، يزني، يشرب الخمر، هذا حُكم الله القدري أو الشرعي؟
* الطلبة: القدري.
* الشيخ: القدري، وهذا لا يرضاه الله.
يصلِّي الإنسان، يتصدَّق، يصوم، يحج، هذا حُكم الله، كوني ولَّا شرعي؟
* طالب: (...).
* الشيخ: هو قَدَري، لكنَّه يرضاه الله أو لا يرضاه؟
* الطلبة: يرضاه.
* الشيخ: يرضاه الله. إذَن الحكم الكوني -أو القدري إنْ شئتَ- يكون فيما يرضاه الله وما لا يرضاه الله.
أمَّا الحكم الشرعي فلا يكون إلا فيما يرضاه الله، فلا يحرِّم الله شيئًا إلا وهو يرضى ألَّا يكون، ولا يوجب شيئًا إلا وهو يرضى أن يكون.
كذلك أيضًا فَرْق آخَر؛ الحكم الكوني أو القدري -والمعنى واحد- لا بدَّ من وقوعه، إذا حَكَم الله بشيءٍ كونًا لا بدَّ أن يقع، أفهمتم؟
الحكم الشرعي قد يقع وقد لا يقع؛ هل كلُّ الناس ملتزمون بأحكام الله الشرعية؟ لا.
فهذان فرقان بين الحكم الكوني والحكم الشرعي، وكلاهما يتضمَّنه قوله تعالى: ﴿الْحَكِيمُ﴾.
* من فوائد الآيات: بيانُ قدرة الله تبارك وتعالى؛ حيث إنَّ كلامه المنَزَّل على نبيِّه من الحروف التي يتكلم بها الناس ويركِّبون منها كلامهم، ومع ذلك أَعْجزَهم؛ وجه الدلالة: ﴿حم (١) عسق﴾.
* ومن فوائدها: إثبات نبوَّة النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لقوله: ﴿يُوحِي إِلَيْكَ﴾.
* ومن فوائدها: إثبات النبوَّة في الأُمَم السابقة؛ لقوله: ﴿وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾.
* ومن فوائدها: إثبات هذين الاسمين لله عز وجل وهما: ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
واعلمْ أنَّ أسماء الله سبحانه وتعالى لا بدَّ أن تتضمَّن شيئين:
الأول: ثبوت ذلك اسمًا لله تبارك وتعالى؛ فمثلًا (العزيز)، الآن نحن نشهد أنَّ من أسماء الله (العزيز)، كذلك نشهد أنَّ من أسماء الله (الحكيم).
والشيء الثاني مما تتضمَّنه: الصفة التي دلَّ عليها هذا الاسم؛ فمثلًا (العزيز) دلَّ على إيه؟
* طالب: العِزَّة.
* الشيخ: و(الحكيم) على الحكمة.
لا بدَّ لكل اسم من هذين، قد يتضمَّن الاسم شيئًا ثالثًا، وهو الفعل المترتِّب على ذلك، وإن شئتَ فقل: الأثر المترتِّب على ذلك؛ فمثلًا (السميع) يتضمَّن إثباتَ اسم (السميع) لله، صحيح، وإثباتَ السمع له، والصفة معنى زائدٌ على الذات، والثالث: أنه يسمع كلَّ شيء.
في (الحكيم) نقول كذلك؛ إثبات (الحكيم) اسمًا لله، والثاني: إثبات الحكمة على أحد المعنيين، وإثبات الحُكم على المعنى الآخَر، والثالث: أنَّ الله سبحانه وتعالى يحكم بين العباد ويحكم في العباد.
* ومن فوائد هذه الآيات الكريمة: كمالُ عِزَّته وكمالُ حكمته، كمال العِزَّة وكمال الحكمة؛ لأنَّ الله قَرَن بين العزيز والحكيم إشارةً إلى أن عِزَّته وغَلَبته مبنيةٌ على الحكمة.
عِزَّة المخلوق قد توجب أن يتصرَّف تصرُّفًا سفيهًا؛ كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ﴾ أيش؟ ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ [البقرة ٢٠٦] فهنا صار له عِزَّة لكنَّها لم تنفعه لأنها ليستْ مقرونةً بالحكمة.
كذلك أيضًا حكمة الله عز وجل مقرونةٌ بعِزَّته؛ لأن الحكيم قد يكون خوَّارًا ليس عنده غَلَبةٌ فيفوته شيءٌ كثيرٌ، ويفوته الحزمُ من أجْل أنه يقول: إنَّ ذلك هو أيش؟ هو الحكمة. لكنَّ حكمة الله عز وجل مقرونةٌ بعزَّته، ولهذا نحن نستفيد الآن من قَرْن الأسماء بعضها ببعضٍ، نستفيد بذلك معنًى زائدًا على ما نستفيده من مجرَّد الاسم.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنَّ الشرائع التي أُوحِيتْ إلى الرسل عزَّة وحكمة؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون ٨]، وقال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النساء ١١٣] فمن تمسَّك بهذه الشرائع نال الأمرين جميعًا، وهما العِزَّة والحكمة، والحُكم أيضًا.
* * *
نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق لنا أنَّ سورة الشورى فيها اسمان.
* طالب: سورة (الشورى) و(شورى).
* الشيخ: نعم، (شورى) و(الشورى)، طيب. هل هي مكِّية أو مدنية؟
* طالب: (...).
* الشيخ: مكية. ما هو المكِّي وما هو المدني؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: ما نزل بمكة قبل الهجرة، يعني قَيْدين، ما نزل قبل الهجرة. والمدني؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: ولو في مكة؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: هل تحفظ شيئًا نزل بمكة بعد الهجرة؟
* الطالب: قوله تعالى: (...).
* الشيخ: قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ ...﴾ [المائدة ٣].
* الطالب: (...).
* الشيخ: أين نزلتْ هذه؟
* الطالب: بعرفة.
* الشيخ: بعرفة، بارك الله فيك.
طيب، استثنى المؤلف من هذه السورة آيات أربع، فما رأيك؟
* طالب: نطالبه بالدليل على (...).
* الشيخ: نعم، على هذا الاستثناء، نطالبه بالدليل على هذا الاستثناء؛ لأنَّ الأصل أنَّ السورة المكية جميع آياتها مكية، وأنَّ السورة المدنية جميع آياتها مدنية، أليس كذلك؟ فمَن ادَّعى خلافَ الأصل فعليه الدليل.
طيب، قوله تبارك وتعالى: ﴿حم (١) عسق﴾ ما تقول فيها؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، الحروف الهجائية أحسن من قولنا: الحروف المقطَّعة؛ لأنها قد تكون حرفًا واحدًا؛ مثل: ﴿ن﴾، ﴿ص﴾.
* الطالب: (...).
* الشيخ: فيها خلاف، والراجح؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: أحسنت، بارك الله فيك. ما هو الدليل على رجحان هذا القول؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: في اللغة العربية.
* الطالب: في اللغة العربية نقول: إنَّ هذه الحروف لا معنى لها.
* الشيخ: نعم، هذا واحد. وجهٌ آخَر: أنَّ الله أنزل الكتاب تبيانًا لكلِّ شيء، ولو قلنا: هذه ليس لها معنى معروف، صار يعني أنَّ في القرآن ما لا يُعلَم معناه، وهذا ينافي قولَه تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل ٨٩]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل ٤٤].
* الشيخ: ﴿الْحَكِيمُ﴾ [الشورى ٣] قال المفسِّر: (في صنعه)، فما رأيك في هذا (...)؟
* طالب: (...).
* الشيخ: فيه قصور، الصواب أنَّه الحكيم في صنعه وشرعه، تمام.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["حمۤ","عۤسۤقۤ","كَذَ ٰلِكَ یُوحِیۤ إِلَیۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكَ ٱللَّهُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"],"ayah":"كَذَ ٰلِكَ یُوحِیۤ إِلَیۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكَ ٱللَّهُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق