الباحث القرآني
ثم قال الله عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (مِن) للتبعيض، وآيات جمع (آية)، وهي العلامة المعيَّنة لما كانت له، العلامة التي تُعيِّن الشيء وتحدده يقال لها: آية، (من آيات الله) أي: مِن علاماتِه الدالة على كمال قدرته عز وجل وكمال سلطانه خلق السماوات والأرض، فإنه لا يمكن لأي أحد أن يخلق مثلهن. وسبق الكلام على السماوات والأرض ولِمَ جُمِعَت الأولى والثانية أُفْرِدَت، وما أشبهه.
(وخلق ﴿مَا بَثَّ﴾ فرَّق ونشَرَ ﴿فِيهِمَا﴾ ) أي: في السماوات والأرض، (﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ وهي ما يدُبُّ على الأرض)، قوله: ﴿وَمَا بَثَّ﴾ يعني: خلَقَ، ﴿مَا بَثَّ﴾ (بَثَّ) بمعنى فرَّق ونشر، ﴿فِيهِمَا﴾ أي: في السماوات والأرض، ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ أي: مما يدُبُّ على الأرض من الإنسان وغيره فهو من آيات الله، من آيات الله في هذه المخلوقات أن الله سبحانه وتعالى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؛ تجد الحيوانات وهي بُهمٌ لا عقول لها، تجدها تكسب رزقها وتذهب تطلبه، وتخزن ما تخزن منه إن كانت مما يخزن من الأقوات، وتجدها تَحِنُّ إلى أولادها وترحم أولادها وتجوع لشِبَعِهم، إلى غير ذلك مما إذا تأملته عَجِبْت من هذه المخلوقات البُهم.
الطيور أعطاها الله عزَّ وجل قوَّة نظر بعيدٍ، بدليل أنها ترى الحَب وهي في جو السماء، والآدمي لا يرى هذا بلا شك، لكن لما كانت الطيور لا تمشي على الأرض يسَّر الله لها بصرًا نافذًا قويًّا؛ حتى ترى الحب وهي في جو السماء، فتنزل وتأخذه وتطير، إلى غير ذلك من الآيات العجيبة.
انظر مثلًا إلى الذَّرِّ الصغير كيف يهتدي إلى جحره وهو يأتي إليه من بعيد، ثم إنه يمشي على خطٍّ واحد، شاهدناه بأعيننا يمشي على خط واحد على البساط الذي ليس فيه أثر تراب، فتجده يصل إلى النهاية وإذا به ينحرِفُ على زاوية، كيف اهتدى إلى هذا؟ إلا بهداية الله عز وجل. وقد قيل: إنه كلما مشى فإنه يخرج منه شيء -أي مادة- يشُمُّها الذر الآخر فيمشي تبعه، هذا من آيات الله عز وجل.
تجد النمل -وهو أكبر من الذَّرِّ- يحرص على أن يأتي بزاده من بعيد ثم يخزنه في جحره، وإذا أراد أن يخزنه أكل رؤوس الحَب من أجل ألَّا ينبت؛ لأنه لو بقي الحَب برؤوسه نبت وفسد عليه، فتجده يقضَم أعلى الحبة وأسفلها حتى لا تنبت، ثم إذا جاء المطر وابتلَّت الأرض ووصل البلل إلى جحره تجده ينقل هذا الحَب ليخرجه إلى الشمس والهواء حتى ييبس. من الذي علَّمه؟ الله عز وجل لا شك، فهو من آيات الله.
وما أحسن الاستعانة على هذا بقراءة كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم رحمه الله، مفتاح دار السعادة هذا ذكر فيه عجائب، حتى ذكر فيه قصة: أن رجلًا وضع طعمًا لذرة من الذرات إما لحمة أو غيرها، حاولت الذرة أن تحملها عجزت، فرجعت إلى جحرها واستغاثت بأخواتها، فأقبلن إليه يزفون، لما أقبلن عليه نزعه رفعه من الأرض، فجعلت الذر تطلبه ما وجدت شيئًا، فانصرفت وبقيت الأولى التي كانت قد دلت عليه، فوضع الطعم، فلما تيقنته ذهبت إلى قومها فدعتهم، فلما أقبلن نزعه، فطلبنه فلم يكن رجعن، ثم وضع الطعم للمرة الثالثة فتأكدته هذه الذرة، ثم رجعت إلى قومها تستفزعهم، فلما أقبلن نزعه، فلما طلبنه ولم يجدنه أكلن هذه الذرة نهائيًّا؛ قطعنها أوصالًا. يقول: فحكيت ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية متعجبًا منه، قال: نعم، كل شيء مفطورٌ على عقوبة الظالم الكاذب، وهذه كذبت عليهن وظلمتهن فلم يَبْقَ إلا أن تُعْدَم؛ لأن الساعي في الأرض فسادًا يجب إعدامه حتى الآدمي.
ولكني أسألكم هل عليه دية هذه المقتولة، الرجل؟ نعم، هو ظالم لها، نسأل الله أن يعفو عنه.
على كل حال، قصدي بذلك أن كل شيء هداه الله عز وجل لما خلقه له حتى الذَّر، شاهدته أنا في حوض نخلة لما سقيت النخلة الماء دخل الماء من تحت الأرض إلى جحر الذر، فجعلت الذر تحمل بيضها الأبيض وبسرعة حتى أخرجته عن الماء. من الذي هداها لهذا؟ الله عز وجل.
وآيات الله كثيرة، ولهذا قال عز وجل: ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾، وفي الآية الأخرى: ﴿وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ﴾ [الجاثية ٤]، فأتى بالماضي وأتى بالمضارع الدالِّ على الاستمرار.
قوله: (﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ وهي ما يدُبُّ على الأرض من الناس وغيرهم، ﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ﴾ للحشر، ﴿إِذَا يَشَاءُ﴾ جمعَهم ﴿قَدِيرٌ﴾ ) ﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ﴾ أي: جمع هذه المخلوقات، ﴿إِذَا يَشَاءُ﴾ أي: إذا يشاء جمعهم، فالمفعول به محذوف دَلَّ عليه السياق، ﴿قَدِيرٌ﴾ أي: لا يعجزه شيء، يقول المفسِّر رحمه الله: (في الضمير تغليب العاقل) الضمير يعني في ﴿جَمْعِهِمْ﴾، تغليب العاقل؛ لأن الميم الدالة على الجمع لا تكون إلا في العقلاء، وأما غير العقلاء فيؤتى بنونِ النسوة، لكن هنا أتى بضمير الجمع مع أن ما في الأرض من دابة أكثره غير عقلاء، لكن يقول المؤلف رحمه الله: (تغليب للعاقل).
* في هذه الآية الكريمة: بيان أن خالق السماوات والأرض هو الله؛ لقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ولم يشاركه أحد في ذلك.
* ومن فوائدها: أن هذه المخلوقات من آيات الله عز وجل. ولكن يا إخواننا لا يتبين أنها من آيات الله إلا بالتأمل والتدبر؛ لأننا اعتدنا هذه المخلوقات؛ اعتدنا طلوع الشمس وغروبها، وطلوع القمر وغروبه، فلم يكن ذلك محركًا لقلوبنا لأنه شيء معتاد، لكن لو أننا تدبرنا هذه المخلوقات لتبين لنا أنها من آيات الله العظيمة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من آيات الله عز وجل ما يبث في السماوات والأرض من دابة من الآدميين وغير الآدميين، فإن في كل شيء منها آية تدل على كمال وحدانيته عز وجل ورحمته وحكمته.
* ومن الفوائد: أن ظاهر الآية أن في السماوات دواب؛ لقوله: ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾، أما الأرض فالدواب فيها معلومة لنا، أكثرها معلوم لنا نعرفه ونشاهده، أما السماوات ففيها دواب لكن لا ندري ما هي.
إن قلت: (الملائكة) صار في ذلك إشكال، إن قلت: غير الملائكة، قلنا: إن الله على كل شيء قدير؛ لأن الملائكة بيَّنَ الله تبارك وتعالى أنهم أولو أجنحة فقال: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [فاطر ١]، وذو الجناح يطير، وربما يكون يمشي أيضًا.
على كل حال نحن لسنا مكلفين إلا بما نفهمه من ظاهر الآية ولا نتجاوز ذلك، فنقول: ظاهر الآية الكريمة أن السماوات فيها دواب كالأرض، وإذا سألنا سائل: ما هذه الدواب؟ قلنا: إما الملائكة أو غيرها، الله أعلم.
وقال بعض العلماء: ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ أي: في الأرض، كما في قوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ﴾ [الرحمن ١٩] إلى قوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن ٢٢]، وزعموا أن ذلك لا يكون إلا في المالح، والصواب أن الآية على ظاهرها في آية الرحمن ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا﴾، وأن البحرين المالح والعذب كلاهما يخرج منه اللؤلؤ والمرجان وإن كان في أحدهما أكثر.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تمام قدرة الله عز وجل في جمع هذه الدواب ليوم الحساب؛ لقوله: ﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على أولئك المنكرين للبعث الذين قالوا: ﴿ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الجاثية ٢٥]، المنكرون للبعث يقولون: إن كنتم صادقين هاتوا آباءنا، فيقال: إن الله تعالى لم يشأ ذلك، وسيشاؤه فيما بعد، وأنتم لم يقل لكم: إنكم مجموعون اليوم بل قيل: ﴿إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الواقعة ٤٩، ٥٠]، وأما تحديهم بما لم يلتزمه المتكلم فهذا ضائع سُدًى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تمام قدرة الله تبارك وتعالى بجمع هذه المخلوقات.
فإن قيل: هل في الآية ما يدل على تقييد القدرة بالمشيئة؟
فالجواب: لا؛ لأن المقيد بالمشيئة ليس القدرة ولكن الجمع، وبهذا نعرف أن بعض الناس الذين يقولون: إنه على ما يشاء قدير قد أخطؤوا خطأ عظيمًا وقيدوا ما أطلقه الله؛ فإن الله قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة ٢٠] على ما يشاؤه وما لا يشاؤه، وهؤلاء يقولون: إنه على ما يشاء قدير، فقدَّموا المعمول، وتقديم المعمول يفيد الحصر، إذن هو قدير على الذي يشاء، وأما الذي لا يشاؤه فليس قدير عليه، وهذا غلط عظيم، الله قادر على كل شيء؛ اللي يشاؤه واللي ما يشاؤه.
إذن هل ننهى من نسمعه يقولها؟ نعم، ننهاه عن ذلك ونقول: يا أخي قل ما قاله الله عز وجل: ﴿إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت ٣٩]، لا تقل: على ما يشاء قدير. نسأل الله تعالى أن يجمعنا وإياكم برحمته، وأن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
{"ayah":"وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِیهِمَا مِن دَاۤبَّةࣲۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا یَشَاۤءُ قَدِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق