الباحث القرآني
ثم قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ [الشورى ١٧].
قال: (﴿الْكِتَابَ﴾ القرآن ﴿بِالْحَقِّ﴾ متعلق بأنزل) أولًا قول المؤلف: (﴿الْكِتَابَ﴾ أي: القرآن) فيه نظر، وهو أن الكتاب أعم من القرآن، بدليل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ [الحديد ٢٥]، فأنت ترى الآية التي سقناها تطابق هذه الآية التي معنا، والمؤلف خص الكتاب بالقرآن وفيه نظر، بل الصواب أن المراد بالكتاب كل كتاب أنزله الله، فـ(أل) هنا للجنس.
وقوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ يقول المؤلف: (متعلق بأنزل). وعلى هذا يكون المعنى أن نزول هذه الكتب من عند الله حق، ولكنا نقول: الآية أعم مما قال المؤلف، فهي نازلة بالحق، يعني أنها نزلت حقًّا من عند الله، وهي أيضًا متصفة بالحق، بمعنى أنها جاءت بالحق، والفرق بين المعنيين ظاهر؛ لأنها على ما فسرنا تتضمن أن هذه الكتب حق من عند الله، وأن ما جاءت به هذه الكتب فهو حق، فتكون الباء هنا على كلام المؤلف تكون للتعدية، وعلى ما قلنا تكون للتعدية والمصاحبة أو الملابسة.
﴿بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ قال المؤلف: (العدل) وعبر عن العدل بالميزان لأنه يعرف به العدل.
﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ أي: ما يعلمك أيها المخاطب (﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ أي: إتيانها ﴿قَرِيبٌ﴾ ) وعبر المؤلف (أي: إتيانها) ليطابق قوله: ﴿قَرِيبٌ﴾؛ لأن قريب مذكر -يا إخواني- والساعة مؤنث، وكان مقتضى ذلك أن يقول: وما يدريك لعل الساعة قريبة، لكنه قال: ﴿قَرِيبٌ﴾ احتاج المؤلف أن يؤول هذا إلى قوله: (إتيانها) حتى يكون مذكرًا ويكون (قريب) مطابقًا له، إذن فالآية على تقدير المضاف، ألجأ إلى تقديره أن الخبر مذكر والساعة مؤنث، وقال بعض العلماء: إن (قريب) صفة يستوي فيها المذكر والمؤنث كقتيل وجريح، وقال: إن هذا له نظائر في القرآن، منها قوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ﴾ أيش؟ ﴿قَرِيبًا﴾ ولا قريبة؟ ﴿قَرِيبًا﴾ [الأحزاب ٦٣] ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ أيش؟ ﴿قَرِيبٌ﴾ ولا قريبة؟ ﴿قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف ٥٦]. قال: فلما اطرد تذكيرها في مواضع عدة وجب أن يقال: إن (قريب) يعني هذا اللفظ يستوي فيه المذكر والمؤنث، وبناء على هذا لا نحتاج إلى تقدير؛ لأن الأصل في الكلام عدم التقدير.
﴿قَرِيبٌ﴾ وصدق الله عز وجل، الساعة مهما طال الزمن فهي قريبة، لا من حيث الساعة العمومية ولا من حيث الساعة الخصوصية، الساعة الخصوصية ساعة كل إنسان بحسبه، ساعة كل واحد منا قريبة أو بعيدة؟ أجيبوا يا جماعة؟
* طلبة: قريبة.
* الشيخ: قريبة، لو نبلغ آلاف السنين؛ لأن ما مضى من سنيك كأن لا شيء الآن مضى أمس القريب كأنه لم يكن، ويوم ولادتك كأنه أمس، إذن ﴿السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ باعتبار كل إنسان بنفسه، وكذلك الساعة الكبرى هي قريبة أيضًا كما قال عز وجل: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات ٤٦]، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ ولذلك من عبارات الناس: كل آتٍ قريب، وكل ماضٍ بعيد، قال المؤلف: (ولعل معلق للفعل عن العمل وما بعده سد مسد مفعولين) كلام أعجمي ولا عربي هذا؟
﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ تنصب ثلاثة مفاعيل:
المفعول الأول موجود، وهو قوله: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾.
المفعول الثاني والثالث تنصبه لكنه علقت عن العمل بالإتيان بـ(لعل)؛ لأن (لعل) موجبة لتعليق أفعال القلوب عن العمل، فتسد مسد المفعولين، الآن فهمت (لعل) معلق للفعل عن العمل، وين (لعل)؟ ﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ أين الفعل المعلق؟ ﴿يُدْرِيكَ﴾ وما بعده، أي: ما بعد (لعل) سد مسد المفعولين، أين الذي بعد (لعل)؟ ﴿السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ فيكون هنا (لعل) علقتها عن العمل، أي: أبطلت عملها لفظًا دون المحل، والمعلقات كثيرة ذكرها ابن مالك رحمه الله في الألفية، فليرجع إليها.
* طالب: من رجع إلى كتب في تفسير وتعبير الرؤى التي يراها هل يعد معبرًا لها من هذا الرجوع؟
* الشيخ: هل يعد عابرًا؟
* الطالب: هل يعد عابرًا لها من هذا الرجوع؟
* الشيخ: لا، هذا غلط، هذا من الغلط العظيم؛ الرجوع إلى الكتب التي تعبر الرؤيا غلط؛ لأن الرؤيا تختلف باختلاف الرائي واختلاف المرئي الذي رُئيت فيه، إلى آخره، من الناس مثلًا من يرى أنه يؤذن فنفسر له الأذان بأنه سيحج؛ لقوله: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [الحج ٢٧] ومن الناس من يرى هذه الرؤيا ونقول: إنه سارق: ﴿أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ [يوسف ٧٠] على حسب الحال، إذن لا يجوز أن نرجع إلى كتب التعبير حتى ننظر في كل قضية بعينها، ثم إن عبر الرؤيا في الواقع ليس سببه العلم، قد يكون إنسان من أعلم الناس ولا يعرف يعبر رؤيا، وقد يكون من عوام الناس ويعبرها وتقع كما عبر، إذن لا نعتمد على هذه الكتب، لكن إن كان فيها قواعد عامة أنا لم أراجعها من قبل، إن كان فيها قواعد عامة يستعين بها الإنسان فهذا يمكن نرجع إليه.
* طالب: هل إذا رجع الكتاب كأنه رجع إلى معبر فعبرها؟
* الشيخ: لا، ما يصح.
* طالب: قلنا في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ [الشورى ١٤] قلنا: فيه احتمالان؛ الاحتمال الأول أنه الذين أورثوا الكتاب من كفار قريش، ألا يحدد الاحتمال الأول ويعينه يا شيخ قوله تعالى: ﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ [الشورى ١٥]؟
* الشيخ: لا، بل حتى قريش يقول لهم الرسول هذا، يعني معناه أنه يقول لقريش هذا الكلام: أني لست ببدع من الرسل ولا قائم على الرسل ولا (...) عليهم.
* طالب: لماذا نقول: عابر ولا نقول: معبر؟
* الشيخ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف ٤٣] ولا تُعبرون؟
* طالب: داحضة؟
* الشيخ: يعني باطلة أشد البطلان، والله أعلم (...).
* * *
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق لنا أن الذين يحاجون في الله يشمل أكثر مما ذكر المؤلف، المؤلف يقول: (في دين الله)، وذكرنا أنه أشمل مما قال، في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله ودينه، يعني أنه أعم مما قال المؤلف ليس بالدين فقط.
قوله: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ﴾ [الشورى ١٦] إعرابها؟ (حجة) مبتدأ، ﴿دَاحِضَةٌ﴾ خبر، والجملة؟
* طالب: خبر.
* الشيخ: للمبتدأ الأول، بارك الله فيك.
قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى ١٦] ما هو فائدة هذا القيد؟
* طالب: (...).
* الشيخ: تمام، يعني أنها عند الله داحضة على كل حال، أما في الدنيا فقد يكون المحاج من أهل الدين يكون ضعيفًا في الحجة فلا يدحض حجة هذا المبطل.
* الشيخ: قوله: ﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ ممن؟
* طالب: (...)
* الشيخ: من الله ومن أوليائه، أحسنت.
لماذا قال الله عز وجل في الفاتحة: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة ٧] ولم يقل: غير الذين غضبت عليهم؟
* طالب: (...).
* الشيخ: أحسنت، والنعمة من الله خاصة، لم يقل: صراط المنعم عليهم غير المغضوب، ولم يقل: الذين أنعمت عليهم غير الذين غضبت؛ لأن النعمة ممن؟ من الله وحده كما قال عز وجل: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل ٥٣] الغضب يكون من الله ومن عباده وأوليائه.
في الآية الكريمة إثبات الغضب لله عز وجل؟
* طالب: (...).
* الشيخ: يعني لو قال قائل: ﴿عَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ [الشورى ١٦] ولم يقل: من الله، فكيف يصح أن تقول: إن هذا دليل على أن الله يغضب؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: وثانيًا: دلت آيات أخرى على؟
* الطالب: أنه يغضب.
* الشيخ: على غضب الله على هؤلاء.
قوله: ﴿أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ ما المراد بالكتاب كتاب واحد؟
* طالب: القرآن والكتب السماوية.
* الشيخ: يعني إذن المراد بالكتاب الواحد ولَّا الجنس؟
* الطالب: الجنس.
* الشيخ: الجنس، ما هو دليلك على هذا؟
* الطالب: قوله سبحانه وتعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ لم يقل: أنزل كتاب ال..
* الشيخ: فهمنا أن (أل) هذه للجنس، لكن ما هو الدليل على هذا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: نعم، يدل لذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ [الحديد ٢٥].
هذه قاعدة مفيدة جدًّا: إذا احتمل النص معنيين على السواء، ولا منافاة بينهما؛ وجب أن يحمل عليهما جميعًا؛ لأن الله جل وعلا يعلم ماذا يحتمله كلامه، وكذلك الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذه قاعدة نافعة لطالب العلم، أما إذا تنافيا فيطلب المرجح من دليل آخر، وأما إذا كان أحدهما أرجح أخذ به وترك الآخر، فهاهنا ثلاثة أقسام: أن يكون أحدهما أرجح فيؤخذ به ويُترك الآخر، أن لا مرجح واللفظ لا يتحمل إلا أحدهما، يطلب الترجيح من دليل آخر، أن يكون اللفظ يحتملهما جميعًا؛ فيُحمل عليهما لأن ذلك أوسع وأشمل.
* في هذه الآية فوائد:
قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ [الشورى ١٧].
* من فوائد الآية الكريمة: علو الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ﴾.
* ومن فوائد هذه الآية: أن القرآن كلام الله؛ لأن القرآن كلام، وإذا أُضيف إنزاله إلى أحد صار كلامًا له وصفة من صفاته.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الكتب التي أنزلها الله نازلة بحق فليس فيها باطل، الباطل في الأخبار هو الكذب، والباطل في الأحكام هو الظلم والجور والفساد، فكلام الله عز وجل ليس فيه كذب وليس فيه ظلم ولا جور ولا فساد.
* ومن فوائدها أيضا: أنها نازلة من عند الله حقًّا؛ لقوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾، وأظنكم تذكرون أننا ذكرنا في معناها وجهين.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات القياس؛ لقوله: ﴿وَالْمِيزَانَ﴾؛ لأن الميزان ما تُوزن به الأشياء ويقارن بينها، ففيه إثبات القياس في الشرائع السماوية. وهذه المسألة -أعني مسألة القياس- أنكرها بعض العلماء، ولاسيما الظاهرية، عفا الله عنا وعنهم، وإنكارهم هو المنكر؛ لأن القياس جاء في الكتاب والسنة، فهنا ذكر الميزان، والميزان ما توزَن به الأشياء، وهذا لا يكون إلا بالقياس.
واعلم أن كل مثل ضربه الله في القرآن فإنه مثبت للقياس؛ لأن المقصود به قياس هذه الحال على هذه الحال: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ﴾ [يونس ٢٤] إلى آخره، عندنا هنا مشبه ومشبه به، والتشبيه يقتضي المماثلة، وإلحاق المشبه بالمشبه به، وهذا تمامًا هو القياس، وهذه خذها قاعدة: كل مثل في القرآن فإنه يتضمن إثبات القياس، وقال الله تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس ٨١] هذا فيه قياس، قياس أولوية ولا مماثلة؟ أولوية، ورسول الله ﷺ ذكر القياس في عدة أحاديث، منها أنه شبه قضاء الحج عن الميت بقضاء الدين[[أخرجه البخاري (١٨٥٢) من حديث عبد الله بن عباس.]]، ومنها «أن رجلًا جاء إليه وقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود -وهو والمرأة أبيضان- فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قال: نعم. قال: «أَلْوَانُهَا؟» قال: حُمْر. قال: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» قال: نعم. قال: «أَنَّى لَهَا ذَلِكَ؟». من الذي جاء بالأورق؟ قال: يا رسول الله، لعله نزعه عرق. قال: «فَوَلَدُكَ هَذَا أو قال: فابنُكَ هَذَا لَعَلَّه نَزَعَهُ عِرْقٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٣٠٥)، ومسلم (١٥٠٠ / ١٨) من حديث أبي هريرة.]] فإثبات القياس لا بد منه، ولا يمكن أن تتوسع الشريعة إلا بالقياس؛ لأن أكثر الحوادث لم يوجد بعينه في النصوص، لكن وُجدت قواعد وأصول ترجع إليه هذه الحوادث في حكمها.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الإشارة إلى قرب الساعة؛ لقوله: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ وسبق في التفسير هل المراد بالساعة الساعة العظمى الكبرى أو الساعة الصغرى، وهي موت كل إنسان؟ وقلنا: إن المراد المعنيان كلاهما.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن النبي ﷺ لا يعلم متى تقوم الساعة؛ لقوله: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ أي: ما يعلمك، وهذا حق ثابت؛ فإن «جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، فقال: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠)، ومسلم (٩ / ٥) من حديث أبي هريرة. ]]. يعني كما أنك أنت تجهلها فأنا أجهلها.
ولهذا من ادعى علم الساعة فإنه كافر مكذب لقول الله تعالى: ﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأعراف ١٨٧].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات علو الله عز وجل؛ لقوله: ﴿أَنْزَلَ الْكِتَابَ﴾، والمراد بالكتاب هنا كلامه عز وجل الذي أوحاه إلى رسله، ما وجه الدلالة من الآية؟
* طالب: (...).
* الشيخ: ﴿أَنْزَلَ﴾ هذا الدليل، لكن ما وجه الدلالة؟
* طالب: أن النزول يكون من العلو لأسفل.
* الشيخ: وجه الدلالة أن النزول يكون من الأعلى إلى الأسفل.
وعلو الله سبحانه وتعالى ثابت بالقرآن والسنة والإجماع والعقل والفطرة، كل الأدلة الممكنة حاصلة لإثبات علو الله عز وجل، وهل العلو علو ذاتي أو علو وصفي؟ بمعنى أن علوه علو صفة أو علو ذات وصفة؟ الثاني، ذات وصفة؛ لقوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى ١]، وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ﴾ يعني الوصف ﴿الْأَعْلَى﴾ [النحل ٦٠] إذن فعلوُّ الله عز وجل علو ذات وعلو صفة.
علو الصفة لا أعلم أحدًا ينتسب إلى الإسلام أنكره، كل المنتسبين للإسلام من مبتدعة وسنية كلهم يؤمنون بعلو الله تعالى علو صفة، لكن عاد ما هو علو الصفة؟ هنا تختلف الأفهام؛ بعضهم يقول: من علو صفته تعطيل صفاته، أفهمتم؟ هذه بحث آخر.
علو الذات هذا محل المعترك بين السنيين والبدعيين، انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام، ولا بأس أن نبسط؛ لأن هذه عقيدة يا إخواني: قسم أثبتوه، وقسم نفوه وقالوا: إن الله تعالى لا يقال: إنه فوق ولا تحت، وقسم نفوه وقالوا: إنه سبحانه وتعالى في كل مكان؛ في السماء وفي الأرض، في الأسواق، في المساجد، في المراحيض -وأعوذ بالله- في كل شيء.
إذن الأقوال ثلاثة:
القول الأول: علو الله تعالى بذاته، أنه بذاته فوق كل شيء، قلت لكم: هذا دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، نأخذ من كل نوع بدليل، القرآن: ما أكثر ما يقول الله عز وجل في كتابه: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ [البقرة ٢٥٥]، والعلي هنا صفة مشبهة، والصفة المشبهة صفة ثبوتية، لا تفارق موصوفها، ويقول عز وجل: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى ١] ﴿الْأَعْلَى﴾ اسم تفضيل حذف المفضل عليه ليدل على العموم، يعني الأعلى على كل شيء. نكتفي بهذا وإلا ففي القرآن ما لا يحصَى على وجوه متنوعة.
في السنة كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا سجد يقول: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى»[[أخرجه مسلم (٧٧٢ / ٢٠٣) من حديث حذيفة.]]، وقد دلت السنة القولية والفعلية والإقرارية على علو الله عز وجل، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» هذا سنة قولية، وقوله ﷺ للجارية: «أَيْنَ اللهُ؟» قالت: في السماء، قال: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة»[[أخرجه مسلم (٥٣٧ / ٣٣) من حديث معاوية بن الحكم السلمي.]] هذه إقرارية، ورفع يده إلى السماء عند الدعاء وهو يدعو الله[[متفق عليه؛ البخاري (١٠٣٠)، ومسلم (٨٩٥ / ٥) من حديث أنس بن مالك.]] : يا رب، سنة فعلية.
وقد جرت السنة الفعلية في أكبر اجتماع حصل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع أصحابه، وذلك في يوم عرفة حين قال: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» قالوا: نعم قال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٧٤١)، ومسلم (١٦٧٩ / ٢٩) من حديث أبي بكرة الثقفي.]] «اللَّهُمَّ» » إشارة إلى علو الله «اشْهَدْ» هذا سفل، شوف علو، سفل للخلق، قال: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» قالوا: نعم، قال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» قالوا: نعم، قال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» » «ثلاث مرات»، يُشهِد الله عز وجل على إقرار أمته أنه بلغ، وهل تشهدون أنتم؟ نعم والله نشهد أنه بلغ البلاغ المبين، وأنه عانى من أجل ذلك أكبر عناء صلوات الله وسلامه عليه، هذه سنة أيش هي؟ فعلية. إذن السنة بجميع أنواعها كلها دلت على علو الله.
الإجماع: إجماع الصحابة وأئمة المسلمين من بعدهم على علو الله، فإن قال قائل: أثبت لي قولًا واحدًا عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي على أنهم قالوا: إن الله عال بذاته، أقول: إن هؤلاء يقرؤون القرآن ويعرفون من السنة ما عرفوا، ولم يرد عنهم حرف واحد يدل على نقيض ما جاء في القرآن، وكفى بذلك دليلًا، لو كان عندهم معارضة لورد عنهم خلاف ما في القرآن، وهم يقرؤون القرآن، وهم عرب يعرفون المعنى ويعرفون المراد، ألا توافقون على هذا؟ وهذا من أحسن ما يكون في تقرير إجماع الصحابة، يعني إذا أتاك إنسان وقال لك: طيب يا أخي أثبت لي قول واحد عن الصحابة أنهم آمنوا بعلو الله بذاته، أقول: ما يحتاج أثبت لك، اقرؤوا القرآن واعلموا من السنة ما علموا، ولم يرد عنهم حرف واحد يقولون فيه: إن الله ليس في السماء أبدًا، ولا إنه بذاته في كل مكان، وهذا إجماع، وهكذا يا إخواني كل الصفات التي لم يرد عن الصحابة ما يناقضها، فهو دليل على إجماعهم.
طيب العقل: العقل هل يدل على علو الله؟ نعم يدل على علو الله؛ لأنك لو سألت أي إنسان: هل العلو أكمل أو السفول؟ لقال لك: العلو أكمل لا شك حتى في أمور الدنيا، يقول: هذا اللباس أعلى من هذا اللباس، كل يعرف أن العلو صفة كمال، وإذا كان كذلك فهل الرب موصوف بالكمال عقلًا أو لا؟ موصوف بالكمال عقلًا، ولهذا قال إبراهيم لأبيه محتجًّا عليه بدليل عقلي: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم ٤٢] هذا ما يعبد، هذا استدلال عقلي، أيضًا نحن نقول: العلو باتفاق العقلاء صفة كمال، والسفول باتفاق العقلاء صفة نقص، فحينئذ ثبت لله العلو الذاتي عقلًا.
بقينا بالفطرة، الفطرة لا تسأل؟ اسأل عجوزًا تدور بالرحى تطحن الطحين، اسألها: وين الله؟ وهي ما درست لا العقيدة الواسطية ولا الطحاوية ولا غير، اسألها: وين ربك؟ ويش تبغي تقول؟ على كل هذا تقول: في السماء ولا تتوقف لحظة؛ لأن هذا أمر مفطور عليه الخلق، ويقال: إن أبا المعالي الجويني -عفا الله عنا وعنه، وهو إمام الحرمين- كان يتكلم عن الاستواء، ومعروف أن الأشاعرة، وهو من أئمة الأشاعرة -عفا الله عنا وعنه- معلوم أنهم ينكرون استواء الله على العرش، يقولون: استوى على العرش، يعني استولى عليه، ما فيه علو، استولى عليه.
وأحدثكم أنا عن مجلس جمعني بعوام، مجلس عادي قهوة، تكلم أحد الطلبة في نفس المجلس قال يعني: إن أهل التأويل يعني أهل التحريف يقولون: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف ٥٤] يقولون: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ ثم استولى عليه، فقال العامي -عامي، جمال، يحمل على الجمال، يسافر من بلد إلى آخر- دعا عليه بدعوة معروفة عندنا في العامية يقولون: غربله الله -يعني عاقبه- العرش (...) قبل هذا؟ شوف، سبحان الله، فطرة؛ لأنه خلق ثم استوى، خلق إذن ثم استولى وقبل لمن هو له؟ عامي؛ إذن الفطرة تدل عليه.
المهم يقولون: إن أبا المعالي الجويني تكلم عن الاستواء وقال: إن الله تعالى كان ولم يكن عرش ولا مخلوق، وهو الآن على ما كان عليه. إذا صار كان ولا عرش فهو الآن على ما كان عليه، يعني ليس على العرش، فقال له أبو العلاء الهمداني: يا شيخ، دعنا من ذكر العرش -يعني نبحث بحثًا آخر- أخبرنا عن هذه الفطرة، ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو. صح، كل إنسان يقول: يا الله، اسأله وين يروح قلبه يمين ولا يسار ولا فوق؟ فوق، فجعل يلطم على رأسه: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني! عجز، لا يجيب؛ لأن هذه مسألة فطرية، كل إنسان مفطور -لولا أن الشياطين اجتالته- على علو الله تعالى بذاته فوق كل شيء.
فإذن علو الله سبحانه وتعالى دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة.
الطائفة الثانية أو القول الثاني في هذه المسألة: أن الله تعالى لا يوصف بالعلو إطلاقًا، بماذا يوصف؟ قال: في كل مكان، ثم شبهوا بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد ٤] ﴿أَيْنَ مَا﴾ هذه ظرف مكان، أي: في أي مكان كنتم فالله معكم، قالوا: الله معك في كل مكان، إذا كنت في المسجد أين يكون الله؟ في المسجد، الآخر في المرحاض، واحد غيري في المرحاض، أين يكون الله؟
* طالب: الله معه.
* الشيخ: يلزمه أن يقول هذا وإلا فليرجع أن يكون في المرحاض، كم من إله الآن؟ اثنان، وواحد في السوق؟ الله في السوق، صاروا كم؟ ثلاثة، وواحد في الطيارة؟ الله في الطيارة، هل هذا يقوله عاقل!
يلزم من هذا القول أولًا: وصف الله بما لا يليق؛ أن يكون الله في المراحيض والحمامات والأماكن القذرة والعالية والسافلة.
ثانيا: يلزم أحد أمرين: إما تجزؤ الله وإما تعدد الله، إما تجزؤ وإما التعدد، إن قالوا: بالتعدد صحنا بهم صيحة تتقطع منها قلوبهم، ماذا نقول لهم؟ كفرتم وصرتم أعظم من النصارى الذين قالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة ٧٣] وأنتم تقولون: ملايين الملايين. وإن قالوا: يتجزأ، قلنا الآن أبطلتم قولكم، إذا كان يتجزأ وكان مثلًا جزء منه مع فلان وجزء مع فلان ما صار مع فلان وهو يقول: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ [الحديد ٤] ولم يقل: جزء منه معكم، فأنتم الآن خُذلتم والحمد لله. وهذا والله لا أظن قدم مؤمن بالله تثبت عليه، لا أظن إنسان يؤمن بالله حقًّا تثبت قدمه على القول بأن الله بذاته في كل مكان أبدًا.
أما ما لبسوا به وشبهوا به من قوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ [الحديد ٤] فإننا نقول: لا يلزم من المعية أن يكون في نفس المكان، ولهذا العرب تقول في لغتها: القمر معنا ومكانه في السماء، وهم يقولون: معنا، العرب تقول: المرأة مع زوجها يعني في عصمته ولو كان هو في أقصى المشرق وهي في أقصى المغرب، أليس كذلك؟ القائد يوجه جنده إلى المعركة في الميدان ويقول: اذهبوا واغزوا باسم الله وأنا معكم، وهو في مكانه. فالمعية مدلولها واسع لا تستلزم الاختلاط لا في المكان ولا في الذات، إذن الحمد لله هذا القول بطل، القول بأنه بذاته في كل مكان هذا باطل.
بقينا القول الثالث ما هو؟ يقول: لا تصف الله أنه معك ولا أنه فوق ولا تحت ولا متصل ولا منفصل، ولا مباين ولا محايذ، لا تصف الله بعلو ولا نزول ولا يمين ولا يسار ولا متصل بالخلق ولا مباين، أين يكون؟ عدم، ولهذا قال بعض أهل العلم: لو قيل لنا: صفوا العدم ما وجدنا أدق من هذا الوصف.
ولما جيء بابن فورك إلى الأمير محمود بن سبكتكين رحمه الله، وهو من الأبطال، جيء إليه وقال له: صف لنا ربك، قال: الرب عز وجل ليس بداخل العالم ولا خارج العالم، ولا يمين ولا يسار، ولا متصل ولا منفصل، قال له: وصفت ربك بالعدم، ولو أردت أن تصفه بالعدم ما وجدت أحسن من هذا الوصف، وصدق رحمه الله، أين الله على هذا الزعم؟ غير موجود، معدوم.
فالحمد لله، نسأل الله أن يميتنا وإياكم على ملة الإسلام وطريق الذين أنعم الله عليهم، القول الذي لا يرتاب عاقل في صحته، ولا يمكن أن يؤمن إنسان بسواه إلا من اجتالته الشياطين؛ هو أن الله سبحانه وتعالى عال بذاته، عال بصفاته، ولا يمكن أن تستقر قدم مؤمن بالله واليوم الآخر إلا على هذا القول.
* طالب: الرجل هذا يؤول الصفات تأويلًا خاطئًا، فهل ترى أن (...)؟
* الشيخ: لا، هذا غلط عظيم، أنا رأيت بعض الناس الذين تنقصهم الدراية، ما هو العلم إذا رأى إنسان يعني يظنه من منكري العلو أول ما يسلم: السلام عليكم، كيف أصبحت، أين الله؟ كيف، هل الرسول عليه الصلاة والسلام يبدأ الناس بقوله: أين الله؟ هذا من الغلط، أبدًا، ابسط له القول، ولا تناقشه أيضًا إلا إذا فتح الباب، هو مسلم، والأصل في الإسلام السلامة، لا تناقشه إلا إذا فتح الباب، أو إذا رأيت المسألة يعني صدره متسع وهو نفسه يستطعم منك، فحينئذ ابدأه، فإحسان الدعوة والحكمة في الدعوة أمر مهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام ما قال لهذه الجارية: «أَيْنَ اللهُ؟»[[أخرجه مسلم (٥٣٧ / ٣٣) من حديث معاوية بن الحكم السلمي.]] إلا لسبب يقتضيه بالنسبة لهذه المرأة، والأعرابي الذي شهد أنه رأى الهلال ماذا قال له؟ قال له: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ»[[أخرجه أبو داود (٢٣٤٠)، والترمذي (٦٩١)، والنسائي (٢١١٢)، وابن ماجه (١٦٥٢) من حديث عبد الله بن عباس.]] ما قال له: أين الله؟ ورسول الله ﷺ أعطاه الله الحكمة يخاطب كل إنسان بما تقتضيه حاله.
* طالب: بالنسبة إلى الأشاعرة هل هم من أهل السنة والجماعة، أو لهم تقسيمان؛ متقدمون و..
* الشيخ: بارك الله فيك، أولًا من هم أهل السنة والجماعة؟ أهل السنة والجماعة الذين اجتمعوا على السنة وأخذوا بها، والإنسان قد يكون من أهل السنة والجماعة في شيء دون آخر، كما أن الإنسان يكون فيه خصال كفر وخصال إيمان، كذلك يكون فيه سنة وبدعة، فالأشعرية وأعنى بذلك المذهب الأشعرية كمذهب ليس على مذهب أهل السنة، لمخالفتهم إياهم في كثير من الأشياء الأصولية المهمة؛ كمسألة الصفات ومسألة الإيمان باليوم الآخر، فيه مخالفات كثيرة، ومسألة الإيمان وأعمال العبد وغير ذلك، لكن رجلًا من الناس نعرف صدقه وإخلاصه في دين الله ومدافعته عنه، ذهب إلى قول من أقوال الأشعرية لا نقول: إنه أشعري، بل نقول: هو من أهل السنة، لكن نقول: قال في مقالة الأشعرية في كذا وكذا.
أيضًا نقول: المسلمون الآن انقسموا إلى سنة وشيعة، فباعتبار هذا التقسيم كل من عدا الرافضة فهو سني بهذا التقسيم، فالمسألة لها اعتبارات.
* طالب: يسألوننا يقولون: ائتني بدليل أن الصحابة أثبتوا علو الله بذاته، ألا نسألهم بهذا السؤال نقول لهم: أيضًا أنتم ائتونا بدليل يثبت أنهم الصحابة أنكروا هذا..
* الشيخ: بلى، هذا هو الأصل، لكن نحن نريد دليلًا ثبوتيًّا، أما الدليل السلبي فهذا لا يحتاج، نقول: هات دليلًا على أنهم حرفوها إلى ما قلت، وقد أشرنا إليه قبل قليل قلنا: إنه لم يرد عنهم حرف واحد أنهم قالوا: إن الله ليس في السماء، أو لا داخل العالم ولا خارجه.
* طالب: بحد.
* الشيخ: بحد، إي، كلمة حد وكلمة جسم وما أشبه ذلك من العبارات المبتدعة التي يريد بها أهل التعطيل إلزام أهل السنة والجماعة بما لا يليق بالله، فالحد نسأل أولًا: كلمة حد لم ترد في الكتاب والسنة لا إثباتًا ولا نفيًا، فلتكن جانبًا، ثانيًا: من حيث المعنى إن أردت أن الله محدود، بمعنى أنه منحاز عن الخلائق هو وحده شيء، والمخلوقات شيء آخر، فهذا صحيح، إن أردت أنه محدود يعني أن شيئًا من المخلوقات أحاط به فهذا باطل، ولا يحتاج نقول: بحد ولَّا بغير حد، حتى إن بعض العلماء أنكر أن يقول القائل: استوى على العرش بذاته، قال: لا تقول بذاته، ما يحتاج نقول: بذاته يا جماعة، هل يحتاج؟ إذا قال: استوى على العرش يعني هو نفسه ما حاجة أن نقول بذاته، لكن بعض السلف اضطر إلى كلمة بذاته دفعًا للبدعة، يقول: ينزل إلى السماء الدنيا بذاته، نحتاج (بذاته)؟
* طالب: لا نحتاج.
* الشيخ: ليش؟ لأن الله أضاف الفعل لنفسه «يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا»[[متفق عليه؛ البخاري (١١٤٥)، ومسلم (٧٥٨ / ١٦٨) من حديث أبي هريرة. ]] ما احتاج أن يقول: بذاته، معروف من كلمة ينزل أنه هو الذي ينزل، لكن احتاجوا أن يقولوا: بذاته، ردًّا على المبتدعة الذين قالوا: ينزل الله أي: أمره، فقابلوا أمره بذاته، وكلمة (بذاته) صحيحة، والتعبير دل عليها، وكلمة أمره باطلة، انتبهوا أن السلف رحمهم الله أحيانًا يعبرون بأشياء يضطرون إلى التعبير بها، لكنها لا تخالف الحق، وإن كان الأولى تركها؛ لأن الصحابة تركوها، لكن الصحابة هل ظهرت عندهم هذه البدع؟ ما ظهرت، ولهذا يقول: (استوى على العرش) (ينزل إلى السماء) (يأتي للفصل بين العباد) ولا يقولون: بذاته؛ لأنه لم يكن عندهم من يقول: إنه يأتي أمره أو ينزل أمره أو ما أشبه ذلك، فكلمة (بذاته) تحقيق للمعنى، ويضطر الإنسان إليها دفعًا لقول أهل البدع، ما هو لأن المعنى لا يتم إلا بها، المعنى يتم بدونها، كل فعل أضافه الله لنفسه فالمراد نفسه؟ خلق السماوات تقول: بذاته؟ لا، خلق السماوات هو نفسه، ينزل إلى السماء، ما يحتاج يقول: بذاته، ما دام ينزل أي هو أي نفس الله، يأتي للقضاء أي هو وهلم جرًّا، لكن السلف رحمهم الله يضطرون إلى قول لا يخالف المراد دفعًا لباطل ابتدعه أهل البدع، مثلًا قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد ٤] ألا تعلمون أنه لم يشتهر عن السلف إلا قولهم: هو معهم بعلمه، قالوا هذا كما قال عبد الله بن المبارك: نقول: هو معهم بعلمه ولا نقول كما يقول هؤلاء: هو في الأرض. فقصدهم معهم بعمله، يعني ردًّا لمن قالوا: إنه معهم بذاته، يعني في المكان اللي هم فيه، لكن لو رجعنا إلى مدلول الآية بقطع النظر عن الرد عن أهل البدع قلنا: وهو معهم كما أضاف الله الخلق إلى نفسه، فهو معهم أي: نفسه، لكن هل يلزم من المعية أن يكون في الأرض؟ لا يلزم، بل هو بالنسبة لله تعالى ممتنع غاية الامتناع، انتبهوا لهذا، مع أنه معنا بعلمه وسمعه وبصره وسلطانه وتدبيره وكل ما تقتضيه معاني الربوبية، لكن هناك ظروف تلجئ الإنسان إلى قول، إلى شيء زائد عن النص لتوضيح النص والرد على من حرفه.
أرأيتم الآن، أرأيتم التسلسل مثلًا، التسلسل أصول الخلاف فيه ثلاثة؛ المنع في المستقبل والماضي، الجواز في المستقبل والماضي، الجواز في المستقبل والمنع في الماضي، تعرفون التسلسل؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: هو الصحيح ما تعرفونه؛ لأنه الواقع أنه محدث أيضًا، هذا من المحدثات، هل الله عز وجل لم يزل ولا يزال فعالًا؟ أو كان في الأول معطلًا عن الفعل ثم فعل؟ هذا واحد، وهل لا يزال فعالًا، أو سيأتي اليوم الذي تنتهي فيه الخلائق ويفنى كل شيء؟ هذه اثنان، أو إن الله تعالى لم يزل في الماضي ولا يزال في المستقبل فعالًا؟ الثالث هو الحق الذي لا شك فيه، أنه لم يزل ولا يزال فعالًا، لكن فعله تابع لمشيئته؛ إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، هذا القول -وهو جواز التسلسل في الماضي والمستقبل- هو المتعين، الجنة باقية أبدًا ولَّا لا؟ باقية أبدًا، وما يحدث فيها من النعيم متسلسل إلى ما لا نهاية له، وكذلك النار، في الماضي لم يخبرنا الله عز وجل إلا عن خلق السماوات والأرض والعرش وما أشبه ذلك، لكن نعلم أن الله عز وجل له أن يفعل ما شاء قبل هذه المخلوقات؛ لأنه قادر، والقادر على الشيء يجوز أن يفعل، وقوله عز وجل: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود ١٠٧] يشمل الماضي والمستقبل، وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والعقل، وإن كان بعض الناس أنكر على شيخ الإسلام رحمه الله حين صرح بجواز التسلسل في الماضي وقالوا: هذا لا يمكن، إذا قلت بالتسلسل في الماضي لزم أن يكون الخلق مع الخالق، وهذا باطل إلى أبعد الحدود، هل يلزم أن يكون الفعل مع الفاعل؟ إذا قلت: إن الله فعال لا يلزم، بل من الضروري أن المفعول قد سبقه فعل، وأن الفعل قد سبقه فاعل مريد، هذا شيء عقلي، فأنا أقول لكم: البحث في التسلسل وإتعاب النفوس فيه وإتعاب الأفكار وملء الأسفار منه كل هذا إنما حدث حينما قال به أهل البدع، ودخل على الأمة الإسلامية حين عُرِّبت الكتب الرومانية واليونانية، وإلا فالناس في غفلة عن هذا، على فطرهم، أن ربنا عز وجل لم يزل ولا يزال فعالًا، وأن ذلك لا يستلزم قدم الحوادث، فالمفعولات شيء والفاعل شيء آخر، واضح يا جماعة؟ انتبهوا لهذه المسائل.
هذه المسائل لو فكرتم لوجدتم الطريق الأسلم والأعلم والأحكم طريق من؟ طريق السلف، واستمع إلى القولة المشهورة الباطلة التي تجدونها في كتب من عُرفوا بالصلاح والإصلاح، يقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم. سبحان الله! كيف تكون أعلم وأحكم وليست بأسلم؛ لأنا نعلم أن الأعلم والأحكم يجب أن يكون الأسلم، ونعلم أيضًا أنكم إذا أقررتم أن طريقة السلف أسلم فهي الأعلم والأحكم، لكن هؤلاء أُتوا حيث لم يفهموا طريقة السلف، ظنوا أن طريقة السلف التفويض، وأن نكون أمام آيات الصفات وأحاديثها كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، يظنون أن السلفي إذا قلت له: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر ٢٢] ويش معنى (وجاء؟) الله أعلم، فُكَّنِي مِن شَرِّك، ما أدري. ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف ٥٤] ويش معناه؟ قال: ما أدري. ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن ٢٧] ويش معناه؟ قال: ما أدري. هذا رأيهم في مذهب السلف، وهل هذا حقيقة مذهب السلف؟ أبدًا، السلف يقولون: نعرف المعنى، نعرف ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أنه أتى عز وجل على وجه يليق بجلاله، أن له وجها يليق بجلاله، أن له استواء يليق بجلاله، نعلم هذا ونعرف المعنى، لكن تسألني عن الكيفية لا، لا أستطيع أن أتكلم لأنه ليس لي علم بهذا، هم لما ظنوا أن مذهب السلف هو التفويض، يعني تفويض المعنى والكيفية، قالوا: طريقة الخلف أعلم وأحكم، ونحن معهم إذا كان مذهب السلف أنهم لا يفهمون المعنى فالذي يفهم المعنى أحسن من الذي لا يفهم، لا شك في هذا، وإن كان فهمهم خاطئًا لكن طريقتهم سليمة، إلا أننا نقول لهم: طريقة السلف إثبات المعاني، وهذا مشهور متواتر عنهم، يقولون في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف. هذه الجملة التي اتفق عليها السلف تدل على أنهم يثبتون المعنى من وجهين:
أولًا: أنهم قالوا: أمروها كما جاءت، ونحن نعلم أن الله تعالى أتى بها ورسوله، أتى بها لإثبات معانٍ، ما هي لتقرأ ألفاظًا جوفاء.
ثانيًا: قولهم: بلا كيف يدل على ثبوت أصل المعنى؛ لأن نفي الكيف عما ليس بموجود لغو من القول، فإذا أصل المعنى موجود والكيفية مجهولة، والإمام مالك رحمه الله قال حين سئل عن الاستواء قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة[[أخرجه البيهقي في الاعتقاد (٥٤)، والأسماء والصفات (٨٦٧). ]]. هم لما ظنوا أن السلف لا يثبتون المعاني قالوا: إنها أسلم؛ ونحن نقول لهم: إما أن تكونوا كاذبين على السلف أو جاهلين بحقيقة مذهبهم، لا تخرجوا عن هذا، فكلامهم هذا عن السلف لا يخلو من ظلم، وهو إما القول بلا علم أو الكذب على السلف، وكلاهما ظلم، فهم ظالمون للسلف في هذا الكلام الذي قالوا: إنه مذهب السلف.
* طالب: (...).
* الشيخ: إذا قلنا: بمعنى العلم فسرناها بلازمها وقصرنا في معناها؛ لأنه معهم بعلمه وسمعه وبصره وسلطانه وغير ذلك كما ذكر ذلك ابن كثير في التفسير رحمه الله، وذكره ابن رجب أيضا في جامع العلوم والحكم، يعني ليس معهم بالعلم فقط، بل بكل ما تقتضيه الربوبية من علم وسمع وبصر وقدرة وسلطان وغير ذلك.
ثانيًا: المعية شيء، والعلم من لازمها ومقتضياتها، فهي أشمل إحاطة ومعنى، لكنهم يفسرونها بالعلم ردًّا لقول أولئك القوم الذين يقولون: إن الله معنا في نفس المكان، والعامي عندما تقول له: المعية لها معنى والعلم مقتضاها ولازمها ما يفهم، والحملة الشديدة في ذلك الوقت في زمن الأئمة بالنسبة لتحريف المعية، فلذلك أتوا بهذا المعنى السهل الذي يتصوره الإنسان عن قرب.
* طالب: متى يكون التأويل كفرًا؟
* الشيخ: إذا لبست ثوبك فقلت: أكلت خبزة تعني لبست ثوبي، هل له وجه؟ إذا كان التأويل ليس له وجه لا لغة ولا شرعًا فهو كفر؛ لأنه تكذيب، ولهذا نقول: جحد الصفات نوعان:
إما تأويلًا وإما تكذيبًا، إن كان تكذيبًا فلا شك أنه كفر، لو قال قائل: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه ٥]: إنه لم يستو على العرش كذب، ماذا نقول؟ نقول: كفر؛ لأنه مكذب، لو قال: نعم استوى على العرش لكن معناه استولى، قلنا: هذا تأويل، عاد ينظر إن كان للتأويل مساغ إن دل عليه دليل أخذنا به، وإن لم يدل عليه دليل رددناه، لكن إن كان له مساغ لم يكفر، وإن لم يكن له مساغ فإنه يكفر.
{"ayah":"ٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ وَٱلۡمِیزَانَۗ وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِیبࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق