الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾. [الشورى: ١٦]. الإعراب: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ﴾: مبتدأ، وحُجَّة: مبتدأ ثانٍ، و﴿دَاحِضَةٌ﴾: خبر المبتدأ الثاني، والمبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر مبتدأ الأول. ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ﴾ أي يجادلون فيه. قال المؤلف: (في دين الله)؛ يعني يحاجون في دين الله، والصواب: العموم، المحاجة في الله تشمل المحاجة في دينه، والمحاجة في أسمائه وصفاته، والمحاجة في ذاته؛ لأن الآية عامة ﴿فِي اللَّهِ﴾، والمحاجة أيضًا في قدره، فكوننا نخصها في دين الله فيه نظر، حتى لو قُدِّر أن الذين يحاجون إنما يحاجوننا في الدين ويقولون: إنه ليس بصحيح فأخذها بالعموم أولى؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قال المؤلف: (نبيَّه) مفعول ﴿يُحَاجُّونَ﴾؛ يعني كأنه قال: من يحاجون؟ فيُقال: نبيه. وهذا أيضًا فيه نظر؛ لأن تقييد المحاجة في الله عز وجل مع النبي ﷺ غير صحيح؛ لأنهم يحاجون نبي الله ويحاجون غيره أيضًا، فإطلاق الآية أولى، ويقولون: إن حذف المفعول يفيد العموم، فإبقاء الآية على ما هي عليه هو الأولى. إذن ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ﴾ أي يحاجون كل من يجادلهم في الله عز وجل، وأيضًا ليس في دين الله فقط، بل في دين الله وذات الله، وكل ما يتعلق بالله عز وجل. وقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ يعني مِن بعد ما استجاب له مَنْ مَنَّ الله عليهم بالاستجابة، وهذه الجملة كإقامة البرهان على هؤلاء. (﴿مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ بالإيمان لظهور معجزاته وهم اليهود) هذا قوله: (﴿مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ بالإيمان) صحيح. وقوله: (لظهور معجزته) بناء على أنهم يحاجون النبي ﷺ وإذا قلنا: بالعموم فلا حاجة لهذا القيد. وقوله: (وهم اليهود) أيضًا فيه نظر، بل نقول: كل من يحاج في الله حتى المشركون من قريش وغيرهم حاجوا النبي ﷺ، أليسوا يخاصمونه دائمًا ويستهزئون به ويسخرون منه؟ فتقييد هذا أيضًا باليهود فيه نظر، فصار عندنا الآن ثلاثة أشياء في هذه الآية خصصها المؤلف بشيء: الأول: قوله: ﴿فِي دِينِ اللَّهِ﴾ وهي أعم. والثاني: (نبيه)، وهي كذلك أعم. ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ يقول: (﴿دَاحِضَةٌ﴾ باطلة) لكن الدحوض أشد البطلان، يعني باطلة بطلانًا لا فوقه ﴿دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ فهل تنفعهم؟ لا، وسيأتي إن شاء الله بيان فائدة قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾. ﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى ١٦] عليهم غضب ممن؟ مِن الله ومن أولياء الله؛ ولهذا لم يقيد الغضب بكونه من الله لإفادة العموم، وتأمل سورة الفاتحة حيث قال الله عز وجل: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة ٧]؛ لأن النعمة من الله، وإضافتها إلى الرب عز وجل ثناء ومدح لله ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ ولم يقل: غير الذين غضبت عليهم بل قال: ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ ليشمل غضب الله وغضب أوليائه من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولئلا يسند الغضب إلى الله عز وجل في هذا المقام، وإلا فإن الغضب قد أُسنِد إلى الله تعالى في قوله: ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ [المائدة ٦٠]. ﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى ١٦] أي قوي، متى؟ قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، وقد يكون فيهما. * من فوائد هذه الآيات الكريمة: بيان بطلان جميع الحجج المخالفة لدين الله؛ لقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى ١٦]. * ومن فوائد هذه الآيات الكريمة: أن أولئك المحاجين لا وجه لمحاجتهم؛ لأن الحق قد بان وقبله الناس؛ لقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بطلان حجج أهل الباطل؛ لقوله: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾. * ومن فوائدها: أن هؤلاء المبطلين وإن غَلبوا أهل الحق في الظاهر، فإن حجتهم عند الله لا تنفعهم بل هي باطلة، وهذا من فوائد قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾؛ لأن حجة الكافر والمبطل قد لا تندحض أمام الناس، قد يكون الذي حاجَّه ضعيفًا في علمه أو فهمه أو في خصومته لكن مهما كان فهي عند الله باطلة بل داحضة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات الغضب لله عز وجل؛ لقوله: ﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾. فإن قال قائل: كيف تُثبت الغضب لله عز وجل وهو لم يُضف إلى الله هنا؟ بل قال: ﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ وهو نكرة، فكيف تثبته لله؟ فالجواب: أن السياق يُعَيِّن هذا؛ لقوله: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، وإذا دحضت عند ربهم فهل يرضى الله عنهم أو يغضب؟ يغضب، هذا وجه. الوجه الثاني: أن الله تعالى قد أثبت لنفسه الغضب في آيات أخرى، إذن يصح أن نثبت غضب الله، أو أن نثبت الغضب لله بهذه الآية الكريمة، وإنما أوردت هذا الإيراد؛ لأنه لا يجوز لنا أن نُثبت لله إلا ما أضافه لنفسه. وانظر إلى قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم ٤٢]، هل يمكن أن نثبت لله الساق في هذه الآية؟ لا، لا يجوز؛ لأن الله تعالى لم يضفه إلى نفسه بل قال: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾؛ ولهذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسرها بقوله: عن شدة. ولكننا نقول: هذه الآية لا نستطيع أن نثبت منها الساق لربنا عز وجل؛ لأن ظاهرها خلاف ذلك، لكن سياقها يوافق حديث إثبات الساق لله عز وجل، حيث جاء مُصرَّحًا به، أن الله تعالى يكشف عن ساقه، وحينئذٍ نقول: ما دام سياق الآية مطابقًا لسياق الحديث فإن النبي ﷺ أعلم الناس بتفسير كتاب الله، وإلا فلا يجوز أن نثبت لله عز وجل ما لم يُضفه إلى نفسه. الخلاصة: أنه يستفاد من هذه الآية إثبات الغضب لله، ما وجهه؟ السياق يدل عليه، وهو ليس ممتنعًا على الله بدليل ثبوته صريحًا في آيات أخرى. فإن قال قائل: بماذا تفسرون الغضب؟ قلنا: نفسر الغضب بأنه صفة لله عز وجل لائقة به، وليس كغضب المخلوقين. فإن قال قائل: ما قولكم فيمن يفسر غضب الله بانتقامه؟ فيقول: غضب بمعنى انتقم أو بمعنى أراد الانتقام؟ فالجواب أن نقول: هذا غلط خطأ؛ يبطله أدلة: أولًا: أن الله تعالى قال: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [الزخرف ٥٥] ومعنى ﴿آسَفُونَا﴾ أغضبونا؛ ﴿انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾، فجعل الانتقام مرتبًا على الغضب؛ فهما متباينان. ثانيًا: أن نقول: إن الغضب الذي نثبته لله ليس كغضب المخلوق، إذا غضب أساء التصرف ولم يتصرف تصرف الحكيم؛ لأن الإنسان إذا غضب تكلم بكلام يندم عليه، وفعل أفعالًا يندم عليها، ربما يُطَلِّق زوجاته، ربما يوقف أملاكه، ربما يحرر عبيده من شدة الغضب، لكن غضب الله عز وجل ينتفي عنه ذلك غاية الانتفاء، فهو حكيم وإن غضب عز وجل. فإن قال قائل: هل الغضب صفة مدح أو صفة عيب؟ فالجواب: الغضب صفة مدح في محله؛ لأنه يدل على قوة الغاضب وقدرته على الانتقام بخلاف الحزن؛ ولهذا لا يُوصف الله بالحزن؛ لأنه صفة ذم، وإنما يُوصف بالغضب؛ لأنه يدل على قدرته على الانتقام، انظر مثلًا إلى رجل أساء إليه ابنه هل يحزن أو يغضب؟ يغضب ويُؤدِّبه، وانظر إلى شخص ضعيف أساء إليه رجل قوي، هل يغضب أو يحزن؟ يحزن، ولا يستطيع أن يغضب، ماذا يفعل إذا غضب، رجل كبر الجمل، بقوة الفيل، يضرب شخصًا يكون قدر فخذه وضعيف، هذا يغضب ويش يسوي إذا غضب؟! يجمز عليه؟ ما ينفع! إذن الغضب لا يكون إلا من قادر على الانتقام؛ ولهذا نقول: إن الغضب في محله صفة مدح. * من فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء -والعياذ بالله- مع الغضب لهم عذاب شديد، فيجمعون بين غضب الله عليهم وبين عذابه الشديد، نسأل الله تعالى أن يشملنا وإياكم برحمته، وأن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى..
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب