الباحث القرآني

ثم قال الله تبارك وتعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ﴾، السين للتنفيس، وهي تفيد القُرْب والتحقيق، (سوف) للتسويف، وهي تُفيد التحقِيق مع البُعْد، ولذلك يجب أن نُفَرِّق بين (سوف) والسين، إذا كان الشيء سيكون قريبًا فقل: سيكون، وإذا كان بعيدًا فقل: سوف يكون، ولهذا تجدون قول الله تعالى: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [التكاثر ٣، ٤]؛ لأنَّه لم يأتِ بعْد، وهو بعِيد بالنسبة لكونِه في الدنيا. ﴿سَنُرِيهِمْ﴾ يعني: عن قُرْبٍ إراءَةً متحققة، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ﴾ أي: نُظْهِرُها لهم حتى يروها بأعينهم، أو حتى يروها ببصائرهم. ﴿آيَاتِنَا﴾ الآيات جمع آية، وهي في اللغة العلامة، والمراد بآيات الله علاماته الدالة على كمال علمه وحكمته وقُدْرته، وغير ذلك من مقتضيات ربوبيته. واعلم أنَّ آيات الله تعالى نوعان: آياتٌ شرعية؛ وهي ما جاءت به الرسل، ومنها هذا القرآن الكريم، وآيات كونية؛ وهي الدالة على كمال الله تبارك وتعالى في العلم والخلق، وكلِّ ما يتعلق بربوبيته، وهي ما يعجز البشر عن مثله، فالبشر كلهم عاجزون عن أن يخلقوا أرضًا، أو سماءً، أو نجومًا، أو شمسًا، أو قمرًا، ولهذا قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ [فصلت ٣٧]، هذه آيات كونية؛ لأنه يعجز عن مثلها البشر، الآيات الشرعية مثل قوله تعالى: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [القلم ١٥]. (﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ﴾: أقطار السماوات والأرض من النَّيِّرَات والنبات والأشجار). قوله: ﴿فِي الْآفَاقِ﴾، الآفاق جمع أُفُق، وهو الناحية، والآفاق هنا جمع، فتدل على أنَّ هذه الآيات ستكون في كلِّ ناحية من السماء والأرض، ففي السماء نجوم، في السماء شمس، في السماء قمر، فيها مشارق، فيها مغارب، كل هذه من آيات الله، من يستطيع أن يخلق مثل الشمس؟ لا أحد، مَن يستطيع أن يُجرِيَها بهذا الانتظام البديع منذ خلقها الله عز وجل إلى أن يأذن الله بخراب العالم؟ لا أحد يستطيع، مَن يستطيع أن يُزَحْزِحَها من مشارقها الشرقية الشمالية إلى مشارقها الشرقية الجنوبية؟ لا أحد، وهلم جرًّا، هذا في آفاق السماء. من آفاق السماء ما يحصل من الأمطار الغزيرة أو الخفيفة، والرعد، والبرق، وغير ذلك، المهم أنَّ آفاق السماء كلّ ما عَلَا، كلّ ما علا فإنَّه داخل في آفاق السماء. كذلك أيضًا آفاق الأرض؛ آفاق الأرض فيها من آيات الله عز وجل ما يدل على كمال علمه وقدرته وحكمته ورحمته؛ جبال، وأنهار، وبحار، فيافي، أودية، هضاب، إلى غير ذلك، نباتات مختلفة، تجد النبات كأنه رُقعة ثوب مُوَشَّى، هذا أخضر، وهذا بنفسجي، وهذا أبيض، وزهورها مختلفة، وثمارها مختلفة، تُسقَى بماء واحد ويُفَضِّلُ الله بعضها على بعض في الأُكُل. كذلك أيضًا يدخل في قوله: ﴿فِي الْآفَاقِ﴾ ما يحصل في الآفاق من حرْب وسِلْم، وأمن وخوف، وشدة ورخاء، كل هذا من آيات الله في الآفاق، كذلك ما يحصل من غلبة وانهزام، وغير هذا، فالله تعالى وعَد بأن يُرِي العباد آياته في الآفاق، أفهمتم الآن؟ صار كلّ ما في الآفاق العلوية والسفلية مما لا يستطيع الخلق أن يأتوا بمثله فهو من آيات الله. ﴿وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾، يعني: ونُريهم آياتنا في أنفسهم، وذلك من نواحٍ متعددة؛ أوَّلًا: من جهة الخِلْقَة؛ كيف خلق الله سبحانه وتعالى الآدمي على هذه الصفة البديعة الغريبة التي لا يوجد من الحيوانات ما هو مثله في حُسْن القامة وحُسْن التدبير والعقْل، وغير ذلك. كذلك أيضًا في أنفسهم من طُول وقِصَر، وبياض وسواد، وحُسْن خُلُق، وسُوءِ خلق، كذلك في أنفسهم من تقلُّبَات الأحوال، وكون الإنسان أحيانًا يريد كذا، وأحيانًا يريد كذا، وأحيانًا يريد الشيء ويصمم عليه وإذا به مصروف عنه، يُصرَف عنه، هذه من آيات الله، ولهذا قيل لأعرابي: بم عرفت ربك؟ قال: بصرْف الهمم وتقليب القلوب، تجد الإنسان -مثلًا- متَّجِهًا إلى أن ينصرف إلى الشمال، فإذا به ينصرف إلى الجنوب بدون أي سبَب، لكن بتقدير الله عز وجل. كذلك أيضًا من آيات الله في الإنسان تركيب هذا البدن العجيب البديع، واسأَلْ أهل التشريح عن هذا تجد العجب العجاب، إن أتَيْت إلى الرأس وما فيه من المخ وما فيه من الأدوات، وإذا أتيت إلى الأمعاء، وإلى المعدة، وإلى الكبد، وإلى الغُدَد، وإلى غيرها، تجد العجب العجاب، يعني أنَّه دولة في الواقع، كلّ شيء منه له عمله الخاص، مَن يستطيع أن يُرَكِّب هذا؟ الله عز وجل. كذلك أيضًا من الآيات في الأنفس ما حصل لقريش في بدر، حيث إنَّ قريشًا في بدر خرجَتْ إلى بدر كما وصَف الله عز وجل: ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال ٤٧]، يقول القائل منهم: والله لن نرجع حتى نقدم بدرًا فنقيم فيها ثلاثًا، ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتعزِف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدًا[[دلائل النبوة للبيهقي (٩٤٨) من حديث عروة بن الزبير.]]. هكذا قالوا، ولكن الأمر صار بالعكس والحمد لله، صار العرب يتحدثون عن هزيمتهم إلى أن يشاء الله من أمَد الدنيا، هذا من الآيات. كذلك من آيات الله تعالى في الإنسان أنَّ الناس يختلفون اختلافًا عظيمًا في الفهم والحفظ والعمل، تجد هذا يختار هذا العمل، الآخر يقول: كيف يصبر هذا الرجل على هذا العمل؟ أليس كذلك؟ وآخر بالعكس، هذا من آيات الله تبارك وتعالى. فكذلك أيضًا الناس يختلفون في الفهم، من الناس مَن إذا قرأْتَ عليه العبارة فهمها بأول مرة، ومن الناس مَن لا يفهمها بأول مرة، من الناس مَن إذا تلوت عليه العبارة حفظها بأول مرة، ومن الناس مَن ليس كذلك، كل هذا من آيات الله، وإلَّا فالدم واحد، والعصب واحد، والعظام واحدة، والجلد واحد، وكل شيء واحد، لكن يختلف الناس هذا الاختلاف العظيم، كل هذا داخل في قوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾. نشوف المفسر: (﴿وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ من لطيف الصَّنعة وبديع الحكمة). ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، ﴿يَتَبَيَّنَ﴾ بمعنى: يتضح، ﴿لَهُمْ﴾ أي: لهؤلاء المكذِّبين، ﴿أَنَّهُ﴾ يقول المؤلف: (أي: القرآن)، ويحتمل أن يُرَاد به الرسول عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن يراد المعنيان جميعًا، (﴿أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ الحقّ المنزَّل من الله تبارك وتعالى بالبعث والحساب والعقاب، فيُعاقَبُون على كفرِهم به وبالجائِي به). ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ الحق في الأصل هو الشيء الثابت الواقع لا محالة، ومنه قوله تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ﴾ [الحاقة ١، ٢] يعني: الشيء الثابت، ويُطلَق على معانٍ متعددة، منها أنَّه الصدق، فالصدق حق، وضدُّه الكذب؛ باطل، ومنها العدل، فالعدل حق، وضدُّه الجور وهو باطل، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ [الأنعام ١١٥]. ومنها -أي من معاني الحق- أنه الشيء الثابت الذي لا يزحزحه أحد، وضدُّه الشيء الذي لا يثبُت ولا يستَقِرّ، وكلُّ إنسان يُبْطِلُه، فأنت الآن نجد أن القرآن الكريم مهما جادل به المجادِل ليدفعَه فحجَّتُه باطلة، ولا يمكن لأحد أن يغْلِبَ القرآن، بل القرآن غالب. لكن اعلموا أيها الإخوة أن كون القرآن غالبًا إنما هو بحسب حامله، ولذلك تجد السيف البتَّار بيد الجبان لا يُغني شيئًا، لا بد أن يكون القرآن بحسب حامله، وإلَّا فالقرآن نفسه لا يمكن أن يغلب أبدًا، إلا أنه قد يغلب من جهة حامله، وهذا ليس عيبًا في القرآن، ولكنه عيب في حامل القرآن. ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (المنزَّل من الله بالبعث والحساب)، وهذا التخصيص من المؤلف رحمه الله على سبيل المثال، وإلَّا فإنه يتبيَّن أنَّه الحق في كل شيء؛ في كونِه يغلِب ولا يُغلَب، وفي كون أحكامه عدلًا، وأخباره صدقًا، وغير ذلك. قال: (فيعاقَبُون على كفرهم به)، أفادنا المؤلف رحمه الله أن المراد بالتبَيُّن هنا لازِمُه وهو المعاقبة؛ لأنه لو كان المراد التبَيُّن فقط بدون عقاب على مخالفته بعد التَّبَيُّن لم يكن هناك فائدة. ومن ذلك أيضًا من كونه يُطلَق البيان أو العلم ويُراد به اللازم قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ [الزلزلة ٦]، طيب يُرَوْهَا فقط أو لِيُرَوْها ويُجَازَوْا عليها؟ الثاني، يعني لِيُرَوْهَا ويُجَازَوْا عليها، هذه أيضًا يتبيَّن (فيعاقَبُون على كفرِهم به وبالجائي به)، مَن الجائي به؟ الرسول الله ﷺ. قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، لَمَّا بَيَّن الله سبحانه وتعالى أنه سيُظْهِر الآيات حتى يتبيَّن أنَّ هذا القرآن حق، وأنَّ محمدًا حق، ذكَرَ شيئًا أعظَم دلالة على أنَّ القرآن حق، وعلى أنَّ الرسول ﷺ حقّ، مَن هو؟ الله عز وجل، ولهذا قال: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. والجواب: بلى يكفِي ذلك؛ لأنَّ الله تعالى إذا رأى هذا الرجل يدعو الناس إلى ما يدعوهم إليه ويقاتِلُهم به، وينصره الله عليهم، ويمكِّنُ له في الأرض، ويتْبَعُه الناس، هل يمكن أن يُقِرَّ الله ذلك وهو باطل؟ لا يمكن أبدًا، لا يمكن إطلاقًا، فكون الله تعالى يُمَكِّن لرسوله ﷺ في الأرض، ويجلب قلوب الناس إليه، وينصرُه على أعدائه، ويفتح بدينه الشرق والغرب، كلُّ هذا دليل على أيش؟ على أنَّه حقٌّ. وشهادة الله سبحانه وتعالى لرسولِه نوعان: شهادة قولية، وشهادة فعلية؛ أمَّا الشهادة القولية فدليلها قوله تعالى: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ [النساء ١٦٦]، هذه شهادة من الله، ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾. أمَّا الشهادة الفعلية فهي تمكين الله تعالى لمحمد ﷺ في الأرض، ونصره إياه، وغلَبَةُ دينه على جميع الأديان. وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ﴾ قال المؤلف: (فاعل يَكْفِ)، والباء مزيدة فيه لتحسين اللفظ، ونظيرُها: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾، أي: وكفى اللهُ شهيدًا، وعلى هذا فنقول في إعرابها: الباء حرف جر زائد إعرابًا، فائدته تحسين اللفظ، و(رب) فاعل (يكف) مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها حرف الجر الزائد. وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ﴾ أضاف الربوبية إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهل هذا للتخصيص أو للتشريف والتكريم؟ الثاني، لماذا؟ لأنَّه ربُّ كل شيء، وانظر إلى قولِه تعالى: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا﴾ [النمل ٩١]، وبعدها قال: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾؛ لئلَّا يظن الظانُّ أن ربوبيته خاصة بهذه البلدة، كذلك أيضًا إضافة الربوبية إلى الرسول من باب التشريف والتكريم، والإشارة إلى أنه سوف ينصره على عدُوِّه؛ لأنَّ ربوبية الله للرسول عليه الصلاة والسلام ربوبية خاصة. (﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ بدَلٌ منه) بدل من أين؟ بدل من قوله: ﴿بِرَبِّكَ﴾، والبدل يقولون في تعريفه: هو الذي إذا أسقطت الْمُبْدَل منه استقام الكلام، البدل هو الذي إذا حذَفْت الْمُبْدَل منه استقام الكلام، تقول: أعجبني زَيْدٌ خُلُقُه، هذا بدل، أَسْقِط (زيد): أعجبني خُلُق زيد، معلوم؟ أكلْتُ الرغيفَ ثُلُثَه، أَسْقِط الرغيف يستقيم الكلام أو لا؟ هذا ضابط البدل. هنا نقول: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ﴾، أَسْقِط ﴿بِرَبِّكَ﴾، تقول: أَوَلَمْ يكفِ أنَّ الله على كل شيء شهيد، يستقيم، لكن لا شك أنَّ القرآن الكريم لا يمكن أن يوجَد بدل ومُبْدَل منه إلا لفائدة عظيمة، فيكون ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ﴾ شهادةً ونصرة وتثبيتًا، وما أشبه ذلك. ثم قال: ﴿أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، هذا بعضٌ من مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى، ﴿أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، قال: (بدل منه) أي: أَوَلَمْ يَكْفِهم في صدقك أنَّ ربك لا يغيب عنه شيء ما؟ وهذا واضح، والشهادة هنا أيش هي؟ * طالب: قولية وفعلية. * الشيخ: الشهادة هنا فعلية، يعني: أَوَلَمْ يَكْفِ بربِّك أنَّ الله على كل شيء شهيد، وقد مكَّنَ لك في الأرض، وثبَّتَك، ونصرَك عليهم وعلى كل عدُوٍّ لك؟ والجواب: بلى والله إنَّ هذا لكافٍ، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [العنكبوت ٥٠]، بعدها؟ ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت ٥١]، فالكتاب أعظم آية، شهادة الله على صِدْق رسوله أعظم آية. ثم قال: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾، ﴿أَلَا﴾ أداة استفتاح، وتُفيد شيئين؛ الشيء الأول: التوكيد، والشيء الثاني: التنبيه، وهل هي مركبة من الهمزة و(لا) أو هي غير مركبة؟ الجواب: هي غير مركبة، بل هي كلمة واحدة. ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ﴾: شكٍّ، ﴿مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾ لإنكارهم البعث، فهم -والعياذ بالله- في شَكّ من لقاء الله، ولو كانوا يرجون لله لقاءً لاستقاموا وخافوا منه، كل إنسان يؤمن بأنه مُلَاقٍ ربَّه فإنه سوف يستقيم على أمر الله؛ لأنه يعلم أنَّ الرب عز وجل سوف يحاسبه على هذا. ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا﴾ أداة استفتاح أخرى تُفيد التنبيه والتوكيد، (﴿أَلَا إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ علمًا وقُدْرَة، فيجازيهم بكفرهم)، هم في شكٍّ من لقاء الله، لكن سوف يُنَبِّئُهم الله عز وجل بما عملوا؛ لأنَّه بكل شيء محيط، وعلى هذا فَصِلَةُ قوله: ﴿أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ بما قبلها الإشارة إلى أنَّه سوف يجازيهم. * في هذه الآيات فوائد: منها: أنَّ الله تعالى سيُظْهِر ما يتبين به صِدْق الرسول عليه الصلاة والسلام ﴿فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾، من أين نأخذها؟ من قوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾. * ومنها: أنَّ هذه الإراءَة قريبة محققة، من أين تؤخذ؟ من ﴿سَنُرِيهِمْ﴾؛ لأنها صُدِّرَت بالسين الدالَّة على التحَقُّق والقُرْب. * ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يُفَكِّر في آيات الله تعالى في الآفاق وفي نفسه؛ لأن ذلك طريق إلى أن يتبَيَّن له الحق، من أين نأخذها؟ ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، فأنت كلما ازددتَ تأمُّلًا وتدَبُّرًا لآيات الله الآفاقية، والآيات اللي في نفسك، فإنك لا شك تزداد إيمانًا، ويتبيَّن لك صِدْق الرسول عليه الصلاة والسلام. * ومن فوائد هذه الآيات الكريمة: أن الإنسان ناقص العلم نقصًا عظيمًا، وجهه: أنَّ الله تعالى يُرِيهِ آياته في نفسه، فالإنسان غير عالم بنفسه إلا إذا علَّمَه الله، ولذلك يا إخوان الآن نفسك التي هي مادة حياتك ما تعرفها، أتعرف النفس؟ أبدًا ما نعرفها. ولهذا اختلف فيها النُّظَّار من المتكلمين والفلاسفة وغيرهم؛ منهم من قال: إن النفس هي الدم، ومنهم من قال: إنَّ النفس جزء من البدن، ومنهم من قال: إن النفس عَرَضٌ في البدن، ومنهم من قال: إن النفس لا تُوصَف بشيء، فلا هي داخل العالم ولا خارجه، ولا مُتَّصِلة ولا منفصلة، إلى آخر ما يقولون في النفي المطلَق، ومنهم من قال: إن النفس مخلوق من مخلوقات الله، وأنها ذات جِرْم، وأنَّها تدخل في البدن وتسير فيه كما تسير الجمْرُ في الفحم، أو الماء في الْمَدَر. ويدُلُّ لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأنَّ الإنسان إذا قُبِض أُخِذَتْ نفسه، أخذَتْها الملائكة وجعلَتْها في كفن وحَنُوط[[أخرجه أحمد (١٨٥٣٤) من حديث البراء بن عازب.]]، وأنه إذا قُبِض اتَّبَعه البصر[[أخرجه مسلم (٩٢٠ / ٧) من حديث أم سلمة.]]، وهذا يدل على أنها شيء مخلوق له جِرْم وجسد، لكننا مع ذلك لا نعلم منها إلا قليلًا، ولهذا لَمَّا سألوا عن الروح قال الله تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء ٨٥]. * ومن فوائد هذه الآيات: أنَّ القرآن والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم حق؛ لقوله: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾. * ومن فوائدها: أنَّ الآيات الدالة على ذلك آياتٌ تُوصِل إلى اليقين؛ لقوله: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ﴾، التَّبَيُّن يعني الوضوح والظهور، ومنه قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ [البقرة ١٨٧]، فإذا علِمْت أنَّك لم تصِلْ إلى اليقين فاتَّهِم نفسَك، عليك أن تُعَالِج هذا المرض العُضَال الخطير حتى تصل إلى اليَقِين، حتى تصِلَ إلى ما يدُلّ عليه قول الرسول ﷺ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠)، ومسلم (٩ / ٥)، من حديث أبي هريرة.]]. * ومن فوائد الآية الكريمة: كفاية الله تعالى عن كل شيء بشهادته؛ لقوله: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: الاستدلال بالآثار على مُؤَثِّرَاتها، وجهُ ذلك أن الله تعالى استدل بتمكينه الرسولَ على أنَّه حق، فالإِنسان يستدل بالآثار على مُؤَثِّرَاتها، ولهذا قيل: البَعَرَة تدل على البعير، وهذا جواب من أعرابي سُئِل: بِمَ عرفت ربك؟ قال على البديهة: البعرة تدل على البعير ، اختار هذا؛ لأنه أعرابي ما يعرف إلا الإبل، البعرة تدل على البعير، والأَثَر يدل على الْمَسِير، صح؟ إذا رأيتَ مثلًا صورة القَدَم على الأرض عرفت أنه قد سار على هذا أحد، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجَاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدُلُّ على السميع البصير؟ والجواب: بلى، هذا الأعرابي استدل بالآيات الآفاقية على وجود الله وعلى قدرته. * ومن فوائد هذه الآيات: الحذر من المخالفة، وهذه فائدة تربَوِيَّة، من أين تُؤْخَذ؟ ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، فإذا علمْتَ أن الله شهيد على كل شيء؛ على نفسك، أفعالك، أقوالك، كل التصرُّفات، فإنَّك سوف تُرَاقِب الله عز وجل، ومَن لم يتَّعِظْ بمثل هذه الآية فإنه لن يَتَّعِظ، إذا علمْتَ أنَّ الله شهيد عليك في خلواتك، في وحدتك، في جلوسك مع أهلك، في جلوسك مع صَحْبِك، فإنَّك سوف تراقب الله عز وجل، وهذا هو معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠)، ومسلم (٩ / ٥)، من حديث أبي هريرة.]]. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان حال هؤلاء المكذِّبين، وأنَّ سبب تكذيبهم أنهم في شكٍّ من لقاء الله، ومعلوم أن مَن كان في شك من لقاء الله فلن يعمل لله، ولهذا تجدون الله تعالى يَقْرِن دائمًا بين الإيمان به واليوم الآخر؛ لأنَّ مَن نَقَص إيمانُه باليوم الآخر فسوف ينقص عمله، ومَن كمُلَ إيمانه باليوم الآخر فسوف يكمُلُ عمله؛ لأنَّه يرجو أن يكون سعيدًا في ذلك اليوم. أنت عندما تركع أو تسجد اجعل على بالك أنَّ هذا الركوع والسجود سوف ينفعك متى؟ يوم القيامة، وهو ينفعك من الآن؛ لأنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، لكن الثمرة الملموسة يوم القيامة، التي تظهر لكل أحد، في الدنيا يظهر للمؤمن الانتفاع التام بالطاعات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما يفعل أعدائي بي، إنَّ جَنَّتِي في صدري، حَبْسِي خلوة، ونَفْيِي سياحة، وقَتْلِي شهادة، رحمه الله، فالإنسان المؤمن يجد هذا في نفسه قبل يوم القيامة، في يوم القيامة يكون الظهور الكامل، يُكْشَف عن كل شيء. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان إحاطة الله بكلِّ شيء؛ عِلمًا، وقُدرَة، وسلطانًا، وتدبيرًا، وغير ذلك، محيط بكل شيء، بأفعاله وأفعال العباد، قال الله تبارك وتعالى: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق ١٢]. * من فوائد هذه الآية الكريمة أيضًا: تحقِيق مراقبة الله؛ لأنَّك إذا آمنت أنَّ الله بكل شيء محيط فسوف أيش؟ تُرَاقِبه المراقبة التامة بحيث لا يفقدك حيث أَمَرَك، ولا يراك حيث نهاك، والله أعلم. * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿حم (١) عسق (٢) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم﴾ [الشورى ١ - ٥]. * الشيخ: أحسنت، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق لنا أنَّ الله سبحانه وتعالى وَعَدَ بأن يُرِيَ هؤلاء المكذِّبين آياتِه في الآفاق وفي أنفسهم، فهات مثالًا لإِراءته إياهم آياته في الآفاق؟ * طالب: (...). * الشيخ: يعني آياته الكونية كالشمس والقمر والنجوم، والأرضية؟ * الطالب: الأرضية (...). * الشيخ: ما في الأرض من البحار والأنهار والأشجار والجبال وغير ذلك، وفيها أيضًا الآفاق؛ آيات الله الشرعية في الآفاق. * طالب: آيات الله الشرعية؟ * الشيخ: نعم في الآفاق. * الطالب: الملائكة. * الشيخ: لا. * طالب: ما جاء من الرسل. * الشيخ: لا، ما قلنا: الفتوحات الإسلامية والغلَبة والنصر لأولياء الله؟ طيب، في الأنفس؛ آيات الله تعالى في أنفسهم؟ * طالب: في أنفسهم معدة الشخص.. * الشيخ: معِدَة الشخص؟ * الطالب: كيف الهضم.. * الشيخ: يعني فقط المعدة؟ * الطالب: لا، هذا واحد من المثال. * الشيخ: طيب هات. * الطالب: مثال ثانٍ العيون.. * الشيخ: نعم، الآيات في النفس الخِلْقِية والخُلُقِية، كذا؟ طيب، وهي عاد أنواع كثيرة متعَدِّدة. ما معنى قوله: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾؟ * طالب: هذا استفهام إنكاري على المكذِّبين.. * الشيخ: أو استفهام تقريري؟ * الطالب: استفهام تقريري.. * الشيخ: إي، ويش معناه؟ * الطالب: مُشْرَبٌ بالتحدي، يعني: أَوَلَم تكفِ شهادة الله سبحانه وتعالى؟ * الشيخ: نعم، يعني: أَوَلَم يَكْفِ شهادة الله عز وجل بأنَّ ما جاء به الرسول فهو حقّ؟ طيب، ذكرْنا أن شهادة الله نوعان: ما هما؟ * طالب: (...). * الشيخ: لم نقل هذا. * طالب: قولية وفعلية. * الشيخ: قولية وفعلية، أين الدليل على شهادة الله القولية بأنَّ رسول الله حق؟ * الطالب: قوله تعالى: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ [النساء ١٦٦]. * الشيخ: أحسنت، الفعلية؟ * الطالب: (...). * الشيخ: تمام، شهادة الله القولية أنَّه قال: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾، شهادة قولية، وهذه أصدَقُ الشهادات، الشهادة الفعلية أنّ الله سبحانه وتعالى يطَّلِع ويعلم أنَّ رسوله ﷺ يستبيح الدماء والأموال والنساء والذُّرِّيَّة في دعوته التي يدعو إليها، ومع ذلك فقد مكَّنَ له ونصره، حتى أنه نصره بالرُّعب مسيرة شهر، وهذه شهادة فعلية من الله عز وجل على أن رسول الله ﷺ حق. ثم نبدأ درس اليوم، يقول: سورة الشورى، ويقال: سورة شورى، أنا عندي مكتوب (سورة شورى)، وهي تُقال هذا وهذا، أما الشورى فـ(أل) فيها للبيان، وأما (شورى) فهي مأخوذة من قوله: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى ٣٨]، وليس فيها (أل)، فهذه السورة تسمى سورة شورى وسورة الشورى، يقول: (مكية)، ما معنى مكية؟ هل المراد ما نزل بمكة، أو المراد ما نزل قبل الهجرة؟ * طالب: الثاني. * الشيخ: الثاني، نعم، المراد الثاني؛ ما نزل بعد الهجرة ولو في مكة فهو مَدَنِيّ، كقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة ٣]، هذه نزلت في عرفة، والنبي ﷺ واقف بعرفة[[متفق عليه؛ البخاري (٤٤٠٧)، ومسلم (٣٠١٧ / ٣)، من حديث عمر بن الخطاب.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب