الباحث القرآني

ثم قال عز وجل: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ [فصلت ٤٤] ﴿جَعَلْنَاهُ﴾ الضمير يعود على القرآن والمفسر قال: (أي الذكر) وإنما قال: ذكْر لأنه سبق ذكرُه قريبًا ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ﴾ [فصلت ٤١] ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ﴾ وعلى كل حال المعنى مُتَّفَقٌ عليه أنّ الضمير الهاء في ﴿جَعَلْنَاهُ﴾ يعود إلى القرآن ﴿لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا﴾ أي بلغة العجم وهو قد نزل على من؟ على العرب ﴿لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ ﴿لَقَالُوا﴾ أي المكذبون للرسول ﷺ (﴿لَوْلَا﴾ هلَّا ﴿فُصِّلَتْ﴾ بُيِّنَت ﴿آيَاتُهُ﴾ حتى نفهمَها) ولكنَّ الله تعالى قد قطَع عليهم الحجة فقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف ٣] وقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف ٢] وقوله: ﴿لَوْلَا﴾ بمعنى هلَّا أفادنا المؤلف رحمه الله أنَّ (لولا) تأتي للتحضيض وتأتي شرطيَّة ويُقال في إعرابها: حرف امتناع لوجود، وهنا تتقاسم هذه الحروف تتقاسم الوجود والعدم فـ(لو) حرف امتناع لامتناع، و(لَمَّا) حرف وجود لوجود، و(لولا) حرف امتناع لوجود تقول: لَمَّا جاءني أكرمته. هنا الإكرام وُجِد لوجود المجيء وتقول: لو جاء زيد لأكرمتُه. هنا امتنع الإكرام لامتناع الوجود، وتقول: لولا زيدٌ لهلكْت أو لفعَلْت كذا وكذا فهنا امتناع لوجود، هنا (لولا) ليست من هذا ولا مِن هذا (لولا) هنا انتقلت عن معنى الشرطية إلى معنى التحضيض، مِن بقيَّة كلامهم (﴿أَ﴾ قرآنٌ ﴿أَعْجَمِيٌّ وَ﴾ نبيٌّ ﴿عَرَبِيٌّ﴾ استفهام إنكار منهم) يعني لو كان القرآن بلغة العجم لقالوا: لولا فُصِّلَت آياتُه وبُيِّنَت باللغة العربية ثم لقالوا أيضا: ﴿أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ يعني لا يمكن أن يكون القرآن بلغة العجم نزلَ على نبي عربي، وهذا الذي قالوه استفهام حقيقة يعني بمعنى أنَّ قولَهم حق لا يمكن أن ينْزِل قرآنٌ أعجمي على نبي عربي، وقد نصَّ الله على ذلك في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم ٤] فكلامُهم هذا حقّ فنحن نقبل كلامهم هذا، أما قولهم: ﴿لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ فنقول: هي مُفَصَّلَة لكنها حجَّة لو كان القرآن أعجمِيًّا وعلى هذا قولهم يكون صحيحًا لو كان القرآن باللغة الأعجمية لصار لهم حجة في قولهم: ﴿لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ وحقّ في قولهم: ﴿أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ قال المؤلف: (بتحقيق الهمزة الثانية) تحقيق الهمزة الثانية أن تقول: ﴿أَأَعْجَمِيٌّ﴾ كما هي القراءة المشهورة، يقول: (وقلبِها ألِفًا) ﴿ءَاعْجَمِيٌّ﴾ قلبنا الثانية ألفًا (بإشباع ودونه) ﴿ءَاعْجَمِيٌّ﴾ بمعنى أنك تمُدّ الألف مدًّا طبيعيًّا أو تمدُّها مدًّا زائدًا على ذلك، والمد الطبيعي قوله: (ودونه) والمد الزائد قوله: (بإشباع) وعلى هذا فيكون فيها كم قراءة؟ ثلاث قراءات، ﴿أَأَعْجَمِيٌّ﴾ ﴿ءَآعْجَمِيٌّ﴾ ﴿ءَاعْجَمِيٌّ﴾ ثلاث قراءات، والقراءات -كما هو معلوم- كلها سنة القراءات كلها سنة لأنها ثبتَت عن النبي ﷺ، وينبغي للإنسان الذي أتقنَها وحفظَها أن يقرأَ بهذا مرة وبهذا مرة كما نقول في العبادات التي وردت على وجوه متنوعة إنَّه ينبغي أن تَفعَلَ هذا مرة وهذا مرة، ولكن هل نقرَأ بما يخالِف القرآن الذي بين أيدي العوام بقراءة أخرى؟ الجواب: لا ولهذا نرى أنَّ مِن عدم الحكمة ما يفعلُه بعض الطلبة إذا كان يعرِف القراءات يقرَأ في القراءة التي ليست بين أيدي العوام فإنَّ هذا خطأ عظيم؛ لأنَّ العامِيَّ لا يدرك هذه الأشياء وسوف يهبِطُ قدْرُ القرآن في نفسِه وتقِلُّ عظمَتُه عنده، ثم ربما يتهم هذا القارئ بأنَّه أخطَأ وغلِط، لكن بعض الناس يكون عنده علم وليس عنده حكمة، وهذا خلَلٌ في توازُنِ العبد وسيْرِ العبد أن يكون عندك علم ولكن لا حكمة، إذا كان الصحابة رضي الله عنهم تنازعوا وهم مَن هم في اختلاف القراءات فكيف بعوامِّ هذا الزمن، يقول: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ ﴿قُلْ﴾ يعني: قل يا محمد في جوابِهم (﴿هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى﴾ مِن الضلالة ﴿وَشِفَاءٌ﴾ من الجهل) ﴿هُوَ﴾ الضمير يعود على القرآن الذِّكْر ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى﴾ أي علم ونور ﴿وَشِفَاءٌ﴾ يقول المؤلف رحمه الله: (مِن الجَهل) وهذا فيه نظَر لأن (مِن الجَهْل) داخِل في قوله: ﴿هُدًى﴾ إذ أنَّ الهدى هو العلم وضدُّه الجهل، لكنْ ﴿شِفَاءٌ﴾ يعني مِن المرض مرض القلوب كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ [يونس ٥٧] فالصواب أنَّ قولَه: ﴿هُدًى﴾ مِن الضلالة وهي الجهل فهو هدًى مِن الجهل والضلالة ﴿شِفَاءٌ﴾ مِن المرض مرْض القلوب بل هو أيضًا شفاءٌ مِن مرض الأبدان فإنَّ القرآن يُستَشْفَى به في أمراض القلوب ويستشفى به كذلك في أمراض الأبدان، وكم مِن إنسانٍ مريض مرضًا بدنِيًّا شفاهُ الله تعالى بالقرآن، وقصة اللديغ مشهورة لديكم أو عند أكثركم الذي كان سيِّدَ قومِه ونزل به سريَّةٌ من الصحابة ولم يُضِيفُوهم فسخَّرَ الله تعالى عقربًا كبيرَةً شديدة فلدَغَتْ سيدَهم فطلبوا راقيًا من الصحابة قالوا: لا نرقى لكم إلا بكذا وكذا من الغنم فأعطَوْهم فذهب أحدُهم يقرأ عليه سورة الفاتحة حتى قامَ كأنما نُشِطَ من عقال لكنهم تربَّصوا في الغنم التي أخذوها خافوا ألا تكون تَحِلُّ لهم حتى أتوا النبي ﷺ فسألوه فقال: «خذوا واضربوا لي معكم بسهم»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٢٧٦)، ومسلم (٢٢٠١ / ٦٥) من حديث أبي سعيد الخدري.]] قال ذلك لا حاجةً إلى اللحم ولكن تطيِيبًا لقلوبِهم واطمئنَانًا لنفوسهم ليتبَيَّنُوا أنه حلال لا إشكال فيه، المهم أنهم أخبروا النبي ﷺ أنهم قرئوا على هذا اللديغ الفاتحة فقال: «وما يدريك أنها رقية؟» » فتبيَّن بهذا أنَّ القرآن شفاءٌ من أمراض القلوب وأسقام الأبدان لكن لِمَن؟ للذين آمنوا آمنوا بالقرآن وبأنه مِن عند الله وبأنه شفاء أما رجلًا لم يؤمِن به ولم يرفع به رأسًا ولم ير بمخالفته بأسًا فإنَّ هذا لا ينتفع به. قال: ﴿وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ نسأل الله العافية ﴿وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ مبتدأ ﴿فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة خبر المبتدأ الأول الذي هو ﴿وَالَّذِينَ﴾ يعني كأنه قال: ﴿هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ وأما الذين لا يؤمنون ففي ﴿آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ لا يؤمنون بإيش؟ لا يؤمنون بالله ولا بالرُّسل ولا بالكتب هؤلاء ﴿فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ أي ثِقَل لأنَّ الوقْر بمعنى الحِمْل الثقيل قال الله تعالى: ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ [الذاريات ٢] يعني السَّحاب تحمِل الماءَ الكثير، فعلى هذا يكون ﴿فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ أي ثِقَل وصَمَم فلا يسمعون والعياذ بالله ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ فلا يبصرون فصارَت منافذ الفهم عند غير المؤمنين مسدودة، لا يسمعون ولا يبصرون فلا يصِل هدى القرآن إلى قلوبهم ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ فإذا قال قائل: كيف يكون الكلام الواحد لقوم هدى وشفاء ولآخرين عمًى وضلالة؟ قلنا: هذا بحسب ما في القلب أنهم أخبروا النبي ﷺ أنهم قرؤوا على هذا اللديغ الفاتحة، فقال: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٢٧٦)، ومسلم (٢٢٠١ / ٦٥) من حديث أبي سعيد الخدري.]]. فتبين بهذا أن القرآن شفاء من أمراض القلوب وأسقام الأبدان لكن لمن؟ للذين آمنوا، آمنوا بالقرآن، وبأنه من عند الله، وبأنه شفاء، أما رجل لم يؤمن به ولم يرفع به رأسًا، ولم يرَ بمخالفته بأسًا فإن هذا لا يُنتفع به. قال: ﴿وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت ٤٤] نسأل الله العافية، ﴿وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ مبتدأ ﴿فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة خبر المبتدأ الأول الذي هو ﴿وَالَّذِينَ﴾ يعني :كأنه قال: هو للذين آمنوا هدى وشفاء، وأما الذين لا يؤمنون ففي آذانهم وقر، لا يؤمنون بأيش؟ لا يؤمنون بالله، ولا بالرسل، ولا بالكتب، هؤلاء في آذانهم وقر؛ أي ثِقَل؛ لأن الوقر بمعنى الحِمْل الثقيل، قال الله تعالى: ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ [الذاريات ٢] يعني السحاب تحمل الماء الكثير، فعلى هذا يكون ﴿فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ أي ثقل وصمم، فلا يسمعون والعياذ بالله. ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ فلا يبصرون، فصارت منافذ الفهم عند غير المؤمنين مسدودة، لا يسمعون ولا يبصرون، فلا يصل هدى القرآن إلى قلوبهم ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت ٤٤]. فإذا قال قائل: كيف يكون الكلام الواحد لقوم هُدًى وشفاء ولآخرين عمى وضلال؟ قلنا: هذا بحسب ما في القلب؛ لأن الله قال: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف ٥] ونحن نرى الغذاء الحسي يكون لقوم غذاءً وشفاءً ويكون لآخرين مرضًا وعلَّة، مثلًا بعض الناس يُحجب عن التمر مثلًا، عن العنب، عن كل ما فيه حل فيضره، وآخرون ينفعهم الحلال مع أن الطعام واحد لكن المحل يكون قابلًا محل هؤلاء قابل له ومحل الآخرين غير قابل. ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت ٤٤]، ﴿أُولَئِكَ﴾ المشار إليهم الذين لا يؤمنون، وأشار إليهم بصيغة البعيد ليس رفعةً لشأنهم ولكن إظهارًا للتبرؤ منهم وإبعادهم. ﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ يعني كالذي يُنادَى من مكان بعيد، والذي يُنادَى من مكان بعيد يعوقه عن الحضور والاستجابة أمران: الأمر الأول: أنه لبُعده قد لا يسمع النداء. الأمر الثاني: أنه لبُعده قد يرى أن الاستجابة شاقة عليه فلا يجيب، وعلى هذا فكونهم ينادون من مكان بعيد يتعلق بندائهم آفتان: الأولى: الأخ؟ * طالب: (...) يرون المسافة بعيدة (...). * الشيخ: نعم، يرون المسافة بعيدة فيكسلون، ويرون أنه من المشقة فيدعون إجابة المنادي، والثاني؟ * طالب: (...). * الشيخ: أنهم لا يدركون المنادي؛ لبعدهم عنه، فلا يجيبون على الوجه المطلوب، (﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ أي هم كالمنادى من مكان بعيد لا يسمع). * في هذه الآية الكريمة فوائِد، منها: حكمة الله عز وجل في كون الوحي النازل على النبي على وفق لغة القوم الذين أُرسِل إليهم، يؤخذ من قوله: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ [فصلت ٤٤] إلى آخره، والله تعالى جعله قرآنًا عربيًّا. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الحجة لا تقوم حتى يفهم الإنسان معنى هذه الحجة، وأن مجرد البلاغ لا يعد حجة قائمة حتى يفهمها من بلغته؛ لأنه لو ألقيت كلامًا عربيًّا بأفصح ما يكون على قوم عجم، وهم لا يعرفون مقصودك أصلًا، هل يفهمون شيئًا؟ وكذلك بالعكس لو جاء رجل أعجمي، وقام يتكلم بأفصح ما يكون من لغة العجم ونحن لا نعرف مراده؛ لم نفهم منه شيئًا، ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم ٤]. فإن قال قائل: يرد على قولكم هذا -وهو أنه لا بد من فهم الحجة بعد بلوغها- يرد على ذلك قوله تعالى: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام ١٩] ولم يقل: ومن بلغ وفهم. قلنا: هذا مطلق لكن الآيات الأخرى تقيده أنه لا بد من البيان والمعرفة. وكذلك لو قال قائل: يرد على قولكم هذا قول النبي ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِه الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِمَا جِئْْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[[أخرجه مسلم (١٥٣ / ٢٤٠) من حديث أبي هريرة.]]. فقال: «لَا يَسْمَعُ بِي». فيقال: نعم؛ لأنه إذا سمع به يجب عليه أن يبحث حتى وإن كان لا يفهم يجب عليه أن يبحث، أما أن يترك فهو لا يعذر لتفريطه وتهاونه، وعلى هذا فلا بد من بلوغ الحجة، ولا بد من فهمها. ونحن في الحقيقة لا نتهاون في تكفير من كفَّره الله، ولا نبالي أن نكفر من كفره الله، لكننا لا نتجاسر أن نكفر من لم يكفره الله عز وجل؛ لأن الحكم ليس إلينا، الحكم بالتكفير وعدم التكفير إلى الله عز وجل، ليس إلينا ولا إلى عواطفنا، وإلا لو كان إلينا أو إلى عواطفنا لكنا نكفر من كان فاسقًا، بل قد نكفر من كان تاركًا للأولى؛ لأن الإنسان لا شك أن معه غيرةً يبغض بها من خالف الشرع، لكن كوننا نحكم عليه بالكفر أو بعدم الكفر ليس إلينا بل هو إلى الله، والخلق عبيد الله عز وجل ليسوا عبيدنا حتى نحكم عليهم بما نرى بل نحكم عليهم بمقتضى كلام الله ورسوله، فإذا دار الأمر بين أن نقول: هذا كافر وهو ينتسب إلى الإسلام وبين أن نقول: ليس بكافر، أيهما أحوط؟ أن نقول: ليس بكافر؛ لأنا بهذا سالمون، لكن لو نكفره، ثم بناءً على التكفير نستبيح دمه وماله؛ لأن المسألة ما هي سهلة، ونستبيح ألا نصلي عليه ولا ندعو له بالرحمة، المسألة صعبة جدًّا؛ ولهذا خطأ من يتسرعون بالتكفير أشد من تهاون من لا يكفرهم؛ أشد لما يترتب على التكفير من المصائب والبلاء. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن التناقض بين الرسول والوحي مستحيل، الدليل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ وهذا مستحيل أن يتناقض الوحي ومن أُوحِي إليه. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن القرآن يكون لأقوام رحمة ولآخرين نِقمة، ويشهد لهذا قوله عليه الصلاة والسلام: «الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»[[أخرجه مسلم (٢٢٣ / ١) من حديث أبي مالك الأشجعي.]]. رحمة لمن؟ للمؤمنين ونِقمة على الكافرين، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الحاقة ٥٠]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا يمكن أن يُبتغى الهدى من غير القرآن؛ لقوله: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى﴾ فمن ابتغى الهدى من غير القرآن أضله الله قال الله تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه ١٢٣، ١٢٤]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن القرآن شفاء من أمراض القلوب وأسقام الأبدان؛ لقوله: ﴿هُدًى وَشِفَاءٌ﴾، وقد فهمنا أثناء التفسير أن الفاتحة رقية، كذلك أيضًا إذا أردت أن ترقي أحدًا فانظر مع الفاتحة الآيات المناسبة، فمثلًا إذا كنت تريد أن ترقيه من السحر فاقرأ إضافةً للفاتحة ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ [الفلق ١]، و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس ١]؛ لأنهما السورتان اللتان رُقِي بهما الرسول ﷺ، كذلك انظر إلى آيات السحر التي تبطل السحر مثل قوله تعالى عن موسى: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس ٨١] وأمثال ذلك، إذا كنت تريد أن ترقي من مرض اقرأ الآيات المناسبة مثل: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء ٨٠]؛ لأن التناسب بين الآيات التي هي الدواء وبين المرض الذي هو الداء لا بد أن يكون أمرًا مهمًّا، يراعيه الإنسان كما يراعي ذلك في الأدوية الحسية، الحار يعالج بأيش؟ بالبارد؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحمى قال: «إِنَّ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ؛ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢٦٣)، ومسلم (٢٢١٠ / ٨١) من حديث عائشة.]]. وقد شهد الأطباء الآن أن البرودة لمن أصيب بالحمى من أكبر العلاج حتى كانوا يجعلون المريض أحيانًا إلى جنب مراوح المكيف من أجل البرودة، وحتى يضعون أحيانًا على المريض بالحمى ثوبًا مبلولًا بالماء من أجل التبريد. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الإنسان كلما كان أقوى إيمانًا كان أهدى وأشفى، من أين نأخذه؟ ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ وقد أخذنا قاعدة مفيدة مهمة أن كل حكم مرتب على وصف فإنه يقوى بقوة ذلك الوصف كل حكم مُعلَّق بوصف، أو مرتب على وصف فإنه يقوى بقوة ذلك الوصف، ويضعف بضعف ذلك الوصف. أنتم معنا يا جماعة؟ انتبهوا لهذا. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بلاغة القرآن بتصوير المعقول في صورة المحسوس، هؤلاء الذين لا يؤمنون لو أنك نظرت إليهم نظرة حسية لم تجد في آذانهم وقرًا؛ لأنهم يسمعون وقد يكونون أقوى سمعًا من المؤمنين، ولم تجد أيضًا أنهم إذا قرئ عليهم القرآن عميت أعينهم كما قال: ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾، ولم تجد أنهم يُنادون من مكان بعيد، بل تُعرض عليهم الدعوة وهم إلى جنب الداعي، لكن هذا من بلاغة القرآن أن يصور الشيء المعقول بصورة المحسوس؛ حتى يكون أقرب إلى الفهم، فهنا صور الله حال هؤلاء بأنهم صم وبأنهم عمي وبأنهم بعيدون مِنَ الداعي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب