الباحث القرآني

ثم قال تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ﴾ [فصلت ٢٥]، قال المؤلف: ﴿قَيَّضْنَا﴾ (سبَّبْنا)، والصواب أن معناها هيَّئْنَا؛ أي: هيَّئْنا لهم قرناء، وذَكَرَ الفاعل بضمير الجمع للتعظيم؛ لأن ضمير الجمع يراد به تارة التعظيم، وتارة التعَدُّد، وهنا لا يمكن أن يكون المراد به التعدُّد؛ لأن الله إلهٌ واحد. (﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ﴾ [فصلت ٢٥] من الشياطين)، والمراد شياطين الإنس وشياطين الجن؛ لأن هناك قرينًا خفِيًّا وهو قرينُ الجن، يأمر الإنسان بالسوء وينهاه عن الخير، وهناك قرين سوء من الإنس، ولهذا مثَّل النبي ﷺ قرين السوء بأنه كنَافِخ الكير؛ إما أن يُحْرِق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة[[روى البخاري (٥٥٣٤) واللفظ له، ومسلم (٢٦٢٨ / ١٤٦) عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «مثَلُ الجليسِ الصالح والسوء كحاملِ المسك ونافخ الكير، فحاملُ المسك إِمَّا أن يُحذيَك، وإمَّا أن تبتاعَ منه، وإما أن تجدَ منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرقَ ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة».]]. ﴿فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ (زينوا) أي: القرناء لهم؛ أي للمقترين بهم، ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ يقول المؤلف: (﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ من أمر الدنيا واتباع الشهوات، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ من أمر الآخرة بقولهم لا بعث ولا حساب) هؤلاء القرناء حسَّنوا لهم ما بين أيديهم مِن أمر الدنيا، وقالوا لهم: اتَّبِعوا الشهوات، كيِّفُوا كما شئتم، أتْرِفُوا أنفسكم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ [الواقعة ٤٥] ومَنَّوْهم، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي: ما أمامهم؛ لأن الخلف والوراء قد يُراد به الأمام كما في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف ٧٩]؛ يعني أمامَهم. إذن زيَّنوا لهم الآخرة أيضًا بأن منَّوْهم بأحد أمرين: إما بالنجاة من العذاب في قولهم: لا بعثٌ ولا حسابٌ، وإما بأن ينتقلوا إلى خير من ذلك ويقولوا: إن الذي أترَفَنا في الدنيا سوف يترِفُنا في الآخرة، كقول بعضهم: ﴿هَذَا لِي﴾ ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ [فصلت ٥٠]، وكقول صاحب الجنتين: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾ [الكهف ٣٦]، فهكذا يُمَنِّي الشيطان أوليائَه؛ يقول: انبسطوا في الدنيا، أترفوا أنفسَكم، وفي الآخرة سوف تنتقلون إلى ما هو أفضل، زينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم ومنوهم الأماني. قال تعالى: ﴿وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ [فصلت ٢٥] ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: وجب، ﴿الْقَوْلُ﴾ قول مَن؟ قول الله تبارك وتعالى. فما هو القول الذي حَقّ؟ فسَّره المؤلف بقوله: (وهو ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود ١١٩]). وقيل: القول هو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس ٩٦، ٩٧]، ونقول كما أسلفنا في القاعدة في التفسير: إن الآية إذا كانت تحتَمِل معنيَيْن لا مُرَجِّحَ لأحدهما على الآخر، ولا منافَاةَ بينهما، فإنها تُحمَل على المعنيين جميعًا، نقول: حقَّ عليهم قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾، وهذا في الدنيا؛ يعني مهما عالجْتَ الإنسان الذي حقَّتْ عليه كلمة الله فلن يهتدي، وحقَّت عليهم كلمة الله في الآخرة، وهي ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة ١٣]، إذن لا فائدة. إن أبرَزَ مثَلٍ لنا في هذا ما حصل للنبي ﷺ مع عمِّه أبي طالب، الذي كان –أعني عمَّه- كان يُدافِع عنه أشد المدافعة ويُؤْوِيه وينصرُه ويشهَد بأنه حق، لكنه لم يَنْقَدْ لذلك ولم يتَّبِع، هل أغنَى عنه مِن الله شيئًا؟ لا، عند موته يقول: يا عمِّ قل: لا إله إلا الله، كلمة أحَاجُّ لك بها عند الله. ولم ينفعْه ذلك كان آخر ما قال أنه على مِلَّةِ عبد المطلب؛ لأن أبا طالب عند موتِه حضرَه النبي عليه الصلاة والسلام، وحضره رجلَان من كبار قريش، فكان الرسول يقول: «يَا عَمِّ قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٣٦٠) ومسلم (٢٤ / ٣٩) من حديث المسيب بن حزن.]]، وهما يقولان له: أترغب عن ملَّةِ عبد المطلب؟ يعني عن ملَّةِ الكفر، آخِر ما قال: هو على مِلَّةِ عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، مع العلم بأنَّه يقر ويعترِف بأنَّ الرسول حقٌّ، يقول: ؎وَلَقَـــــدْ عَلِمْتُ بَأَنَّ دِيـــنَمُحَــــمَّدٍ ∗∗∗ مِــــنْ خَــيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّـــــةِدِيـــنَا ويقول في لاميته المشهورة: ؎وَلَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٌ ∗∗∗ لَدَيْنَا وَلَا يُعْنَى بِقَوْلِالْأَبَاطِلِ أي: بقول السحرة؛ يعني: ليس بساحر، ومع ذلك قد حقت عليه الكلمة، نسأل الله العافية وأن يحسِن لنا ولكم الخاتمة، حقَّت عليه الكلمة فلم يُؤمِن. يقول: (﴿فِي﴾ جملة ﴿أُمَمٍ﴾ ) ﴿فِي أُمَمٍ﴾ يعني: في جملتها، واحتَجنا إلى قوله: (﴿فِي﴾ جملة) يعني: إدخال (جملة) وإن كانت معروفة من السياق؛ لأنه لو قال: في أمم لكان هؤلاء مشارِكين لكل الأمم الماضية والمستقبلَة مع أنهم في أمتهم وحدَهم، فيكون المعنى: ﴿فِي أُمَمٍ﴾ أي: في جملة أُمَمٍ. (﴿قَدْ خَلَتْ﴾ هلكَتْ ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ ) إلى آخره. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أي: قبلِ هؤلاء المكذبين، ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ الجنُّ هم عالم الغيب، خلقهم الله تعالى من نار؛ لأن أباهم إبليس كان مِن نارٍ، ولهذا كانت حالُهم الطَّيْش والسرعة والاندِفَاع كالنَّار في لهبِها، فهم خُلِقُوا من النار -أعنِي الجن- وهم مكلَّفون بالإيمان بالله وملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليوم الآخر. ولكن هل الأعمال التي كُلِّفُوا بها هي الأعمال التي كُلِّفَت بها الإنس أو غيرها؟ إن نظرْنا إلى عمومات الأدلة قلنا: إن الجن مكلَّفَةٌ بما كلِّف به الإنس؛ لأن الشريعة التي بين أيدينا لم تأتِ بشريعةٍ للجِن؛ شريعةٌ واحدةٌ، والرسول واحِدٌ، فهم مكلَّفُون -مثلًا- بصلاة كصلاتنا، ووضوء كوضوئنا، وحجٍّ كحجِّنا، وصوم كصومنا، وصدقةٍ كصدقتنا، كل ما نحن مكلَّفون به فهم مكلفون به؛ إذ إننا لا نرى في الشريعة التي بين أيدينا تشريعَاتٍ للجن. هذا إذا نظرْنا إلى عموم الأدلة. إذا نظرْنا إلى حكمةِ الله تعالى في شرعِه قلنا: إنهم مكلَّفُون بشريعةٍ تلِيق بهم، فكما أن الإنس إذا اختلَفوا يُجعَل لكل صنف ما يلِيق به فكذلك الجن، والجن مخالفون للإنس في الحدِّ والحقيقة، مخالفون تمامًا للإنس، فتكون شريعتُهم خاصَّة تليق بهم، لكن تحريم الظلم والشرك والعدوان وما أشبه ذلك هذا عام على الجن والإنس، إنما أريد التكليفات البدنية كالصلاة مثلًا، هل صلاتهم كصلاتنا، أو صيامهم كصيامنا؟ هذا هو محل الخلاف بين العلماء؛ منهم مَن يقول: إن الجن مكلَّفون كما كُلِّف الإنس تمامًا. ما حجة هؤلاء؟ * طالب: خلقٌ من خلقِ الله مكلَّفون (...). * الشيخ: لا، غلط؛ لأن خلقٌ من خلقِ الله ترِدُ علينا الملائكة. * طالب: عموم الأدلة. * الشيخ: عموم الأدلة التي بين أيدينا التي أرسل بها الرسول عليه الصلاة والسلام لا نجِد فيها أحكامًا تخُصُّ الجن، فالأصل العموم؛ الأصل أن ما كُلِّف به الإنس هو ما كُلِّف به الجن. القول الثاني؟ * طالب: القول الثاني: مثل الإنس. * الشيخ: أيش القول الثاني؟ أن الجن مثل الإنس في العبادة وما كُلِّفوا به أو يختلفون؟ * الطالب: يختلفون. * الشيخ: إي نعم. وجه ذلك؟ * الطالب: لأن بعض العبادات كالصلاة قد تكون ليس كصلاتنا. * الشيخ: أننا نجد من حكمة الله أن التشريعات مناسبة للمكلَّف بها؛ المريض يصلِّي قاعدًا، المسافر يؤَخِّر الصوم، الذي لا يستطيع الركوب على الراحلة لا يحُج، فإذا كانت هذه الاختلافات تكون بين الإنس لاختلاف أحوالهم فما بين الجن والإنس مِن باب أولى، لكن هناك أشياء لا إشكالَ فيها؛ وهي تحريم الشِّرِك والظلم والعدوان، وما أشبه ذلك. ولهذا نجد كثيرًا من العلماء الذين يقرؤون على مَن مسَّهم الشيطان يُذكِّرُونهم بتحْرِيم الظلم وأنَّه حرام، وأنهم معتَدُون، وما أشبه ذلك، مما يدل على أنَّهم ملتزِمُون بهذا. طيب يقول: ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ إذن الجن عالم أيش؟ عالم غيبِيٌّ خلِقُوا من نار، مكلَّفون بشريعة النبي ﷺ إلزامًا؛ لأنَّه مرسل إلى الجن والإنس، لكن غيرُ الرسول لا نعلم هل هم ملزمون بذلك أو لا، لكنهم مأذُونٌ لهم أن يعملوا بها، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ [الأحقاف ٢٩، ٣٠]، مما يدُلُّ على أنهم انتفعوا بكتاب موسى ﴿أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف ٣٠]، فهم مُلْزَمون بالعمل بشريعة محمد ﷺ. طيب قلنا: إنَّهم عالمٌ غيبي، هل يمكن أن يبْرُزُوا للناس يومًا من الأيام؟ نعم، ربما يبرُزُون لبعض الناس ملَوَّنِين؛ يعني يتلونون هم، قد يتراءَى الجنيُّ للإنسي بصورة إنسان فخْم كبير عظيم، أو بصورة هيكل له قرون وله آذان وله أرجل طويلة، وما أشبه ذلك، هم يتلَوَّنُون. وأما ما زعم بعض الناس أنَّهم أجساد ليس فيها عظام، وأنهم إذا لَمَسْته وجدته رقيقًا جدًّا، أنَّ أعينَهم مشقوقةٌ طولًا هكذا، فهذا لا أصل له. إذن نقول: هم عالَمٌ غيبي، ويدُلُّ لذلك المادة التي يوصفون بها يعني: الجِن؛ لأن الجيم والنون تدلُّ على الاستتار والخفاء. أرأيتُم الجَنَّة؟ الجَنَّة هي البستان الكثير الأشجار، الجِنَّة الجِن، الجُنَّة ما يتخِذُه المقاتل لحمايةِ نفسِه من السهام يستتر به، والإنس هم هؤلاء البشر من بني آدم، وسموا إِنْسًا لأن بعضهم يأنس لبعض، ولهذا قيل: إن الإنسان مدنِيٌّ بالطبع، ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾، ﴿إِنَّهُمْ﴾ أي: الذين حق عليهم القول، ﴿كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ كانوا متى؟ * طالب: يوم القيامة. * الشيخ: إي، في علْمِ الله، وليس يوم القيامة كما قال الأخ؛ لأنَّه لو كان كذلك لقال: (يكونون)، لكن كانوا في علْمِ الله عز وجل وتقديرِه خاسِرين. ولكن اعلموا -بارك الله فيكم- أنَّه لا يمكن لأحد أن يضِلَّ إلَّا وهو السبب، هو السبب في ضلالِ نفسِه، لدينا آيةٌ من كتاب الله حاكمة على كلِّ ذلك؛ على كلِّ ما يتوهم أن الضلال مقَدَّرٌ من عند الله ابتلاءً وامتحانًا وإن كان الأمر كذلك، لكن سببُ ضلال الإنسان هو نفسُه، قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم﴾ [الصف ٥]، وقال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾ [الأعراف ١٧٥، ١٧٦] فماذا نفعل؟ إذا كان هو الذي أخلَدَ إلى الأرض واتَّبَع هواه فماذا نفعل؟ فاعلَمْ أن كلَّ شيء من المعاصي فأنت سببُه، وإن شئت فاقرَأْ قول الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ [المائدة ٤٩]، يا لها مِن موعظة في هذه الآية! أنك إذا تولَّيتَ عن أمر الله فاعلَمْ أن ذلك بذنبِك، ﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾، فصار الإعراض عقوبة، وهذا أمر قد لا يتفطَّنُ له بعض الناس، إعراضُك عن الله عز وجل وعن دينِ الله هو عقوبة مِن الله عز وجل في قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾. * طالب: شيخ، إذا قلنا: إن الجن (...) بعمل (...) من جنسٍ غير جنس الإنس ومقتضى الحكمة أن.. * الشيخ: أن تكون شرائعُهم مناسبَةً لهم. * الطالب: ومعلوم بأن العبادات توقيفية، فكيف سيعبُدون الله عز وجل إذن؟ * الشيخ: لا، يعبدون بشريعة من الله، يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد علَّمَهم؛ لأنه اجتمع بهم علَّمَهم ما يلزمهم. * طالب: هل يثبت أن ابن القيم يقول بفناء النار؟ * الشيخ: ابن القيم رحمه الله كلامُه في مفتاح دار السعادة وفي شفاء العليل تشُمُّ منه رائحَة أنه يرَجِّح ذلك؛ لأنه ذكر القولين ذكر الأدلة، وهو -رحمه الله- إذا تكلَّم يشفي ويطيل النفس، فكلامُه في هذين الكتابين تشُمُّ منه رائحة أنه يميل إلى ذلك، لكن له كلامٌ آخر في الوابل الصيب يدُلُّ على أنَّه يرى أن النارَ ناران: نارُ الكفار هذه لا تفنى؛ لأنهم خالدون فيها أبدًا، ونار العصاة الذين يُعذَّبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون تفنَى؛ لأن أهلَها خرجوا منها، فإذا خرجوا منها ما بقي لبقائِها فائدة، وهذا التقسيم من الناحية العقلية تقسيم قوي؛ يعني الإنسان يميل إليه من الناحية العقلية. لكن قد يبقى النظر بأن يقول القائل: ما الدليل على أن هناك نارين؟ هذا يحتاج إلى دليل، والذي يظهر من الأدلة أن النار واحدة، وأنَّ العصاة يعذبون بالنار التي يعذب بها الكفار، لكن عقلًا كلامه -رحمه الله- هذا التفصيلي كلام جيد، حتى لو قال قائل: أيضًا العقل يدُلُّ على أنه لا بد أن تكون النارُ نارين؛ لأنَّه لا يمكن أن يعذَّب المؤمن الفاسق بنارٍ شديدة الحرارة كلما نضِجَ جلدُه بُدِّل جلدًا آخر كما تكون نار الكفار، من الناحية العقلية يوافق العقل تمامًا، فإن كان صوابًا فمِن الله، وإن كان خطأ فالله يعفو عنه. * طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، وما المنسوب عن شيخ الإسلام (...) الرسائل التي خرجت؟ * الشيخ: والله هذا ما وقفت على كلامٍ له في ذلك. * الطالب: فهي رسائل خرجت في الآونة الأخيرة (...) عن هذا القول؟ * الشيخ: أما أنا ما اطَّلعت على شيء في ذلك، لكن -يا إخواننا- لا يجوزُ أبدًا أن نعرِف الحق بالرجال، يجب أن نعرِف الحق بالدليل، فما دام بين أيدينا كلام الله عز وجل كيف نفكر في أن نرَجِّح أو نقول: قال فلان أو قال فلان، لو قال أكبَر الناس -ما عدا الرسول عليه الصلاة والسلام- قلنا: لا سمع ولا طاعة، ولا تصْديق ولا إيمان، بين أيدينا كلام الله عز وجل، وهو الخالق عز وجل، والعالم بكل شيء. * طالب: شيخ أحسن الله إليك، الجن هل يُرسَل إليهم رسُلٌ من جنسِهم؟ * الشيخ: يقول الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ [يوسف ١٠٩]، ﴿إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾، وقال العلماء: إن الرجال لا يكونون مِن الجن، لكن في هذا التعليل نظَر؛ لأن الله يقول في سورة الجن: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الجن ٦]، قالوا الآية الأخرى: ﴿إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [يوسف ١٠٩] ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾، فيقال: الجن أيضًا من أهل القرى، قريتُك أنت فيها، والجن فيها أيضًا. لكن أيُّكم أحق بالأرض الإنس ولَّا الجن؟ * طالب: الإنس. * طالب آخر: الجن. * الشيخ: كيف الجن يلَّا أطلع عن بيتك؟ * الطالب: لأن -يا شيخ- الجن يمكن لهم أن يسكنوا في الأماكن التي لا يسكن فيها الإنس يسَعُهم ذلك وفي الفضاء. * الشيخ: والإنس؟ * الطالب: لا، الإنس ما يمكن. * الشيخ: ما يمكن؟ * الطالب: لا، قصدي في الفضاء، أما.. * الشيخ: أما تعلم أن الآن فيه أقمار صناعية لها أربعة أشهر خمسة أشهر فيها إنس؟ * الطالب: الغالب يعني.. * الشيخ: على كلِّ حال الأحَقُّ هم الإنس لا شك، ولهذا لو اعتدى أحدٌ من الجن ونزلَ بيتك فلك أن تخرِجَه. * الطالب: الدليل يا شيخ؟ * الشيخ: الدليل هو هذا؛ أن الرسول عليه السلام جعل الأرض لمالكها: «مَنِ اقْتَطَعَ مِنَ الْأَرْضِ شِبْرًا ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٤٥٢)، ومسلم (١٦١٠ / ١٣٧) من حديث سعيد بن زيد.]]. * الطالب: الدليل على أنهم أولى من الجن؟ * الشيخ: هذا هو، أنا أستطيع أن أحرِث في الأرض وأزرع وأبني وأعمل ما شئت ولا معارِضَ لي، لكن لو جاؤوا واعْتَدوا على بيتك وحفرُوا فيه، وأصبحْت وإذا السطح مملوء من الزرع، والمجالس مملوءة من النخيل. * الطالب: لو قالوا: نحن أولى بالبيت؛ الجن؟ * الشيخ: على كل حال، جزاك الله خيرًا تنازَل لهم! * الطالب: شيخ بارك الله فيك، ألا يجوز أن يكون قولُه سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ على أنه يوم القيامة من باب قوله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل ١]؟ * الشيخ: لا، ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ لولا أنه قال: ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ لكان على ظاهره. * * * * طالب: (...) ﴿لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾ [فصلت ٢٦ - ٢٩]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾. قوله: ﴿قَيَّضْنَا لَهُمْ﴾ معناها؟ * طالب: قال المفسر: إن معناها سبَّبْنا لهم، والصحيح أن معناها هيَّئْنا لهم. * الشيخ: نعم، و(القرناء) جمع أيش؟ * الطالب: جمع (قرين)، ويشمل هنا الإنس والجن؟ * الشيخ: نعم. ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾؟ * طالب: ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ من الدنيا. * الشيخ: ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾؟ * الطالب: من الآخرة. * الشيخ: هل الآخرة خلفهم ولَّا أمامهم؟ * الطالب: أمامَهم، لكن هنا تأتي بمعنى (أمام) أيضًا، كقوله تعالى: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف ٧٩]. * الشيخ: يعني الخلف والوراء قد يأتي بمعنى الأمام، كما في الآية التي ذكرت. ما معنى التزيين لهم في الدنيا؟ * طالب: التزيين لهم في الدنيا على حالتين: إما أنهم ينكِرُون البعث، وإما أنهم يمَنُّونهم. * الشيخ: لا، هم زيَّنُوا لهم ما بين أيديهم في الدنيا. * الطالب: إي، التزيين في الدنيا الوسوسة لهم بالشهوات. * الشيخ: نعم. * الطالب: وتلذيذهم بالشهوات. * الشيخ: وتمني الأماني وأنَّ الله سيغفر لهم، وما أشبه ذلك. طيب ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ كيف التزيين؟ * الطالب: ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ تزيين على حالتين: الأولى بإنكار البعث، والثانية بأن يمنِّيهم أن لهم الحسنى في الآخرة. * الشيخ: تمام، إنكار البعث بأن قالوا: لا تخافوا، ما فيه بعث. * الطالب: هذا ينطبق على الملاحدة. * الشيخ: أو أنهم قالوا: إنْ بُعِثْتُم فلكم الحسنى عند الله، طيب بارك الله فيك. قوله: ﴿فِي أُمَمٍ﴾ تقديرها؟ ﴿وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ﴾؟ * الطالب: في جملة الأمم. * الشيخ: لماذا لم نقل: إن (في) للظرفية و(أمم) هي الظرف؟ * طالب: لأنا لو قلنا: للظرفية يدُل أن الأُمة ليست داخلة في العقاب وفي العذاب، إذا قلنا: في جملة أمم (...). * الشيخ: غير هذا؟ * طالب: إذا قلنا: في أمم يكون المعنى: مشاركون كل الأمم، والمعنى أنهم أمة يعني.. * الشيخ: وهم أمة منفردة، إذن المعنى: في جملة الأُمم. قال الله تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ﴾ [فصلت ٢٥] إلى آخرِه. * من فوائد هذه الآية: بيان عظمة الله عز وجل في قوله: ﴿وَقَيَّضْنَا﴾؛ لأن (نا) تفيد العظمة. * ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان مستقِلٌّ بعملِه وإنه لا علاقة لله تعالى به. والناس في هذا الباب على ثلاثة أقسام: القسم الأول: مَن قال: إن الإنسان مُجبرٌ على عمله وليس له إرادةٌ ولا اختيار، وإن فعلَه الاختياري كفعلِه الاضطراري، فالذي يذهب ويجيء باختيارِه كالذي يرتعِش أو يمشي مجنونًا في الأرض. وهذا مذهب مَن؟ مذهب الجبرية، زعيمُهم الجهم بن صفوان الذي تتلْمذ على الجعد بن دِرهم. الطرف الثاني: مَن قال: إن العبد مستقِلٌّ بعمله وليس لله فيه علاقة، فالإنسان مرِيدٌ مختَار ولا لأَحدٍ عليه سلطة. وهذا مذهب مَن؟ القدرية وهم المعتزلة، والقدرية يُسَمَّون مجوسَ هذه الأمة؛ لأنهم ادَّعَوا أن للحوادث خالِقَيْن، فالحوادث التي مِن فعل الله هي مِن فعلِه، والحوادث التي هي مِن فعل العبد هي مِن فعلِه استقلالًا، وهؤلاء هم المعتزلة ومَن ضاهاهم، وزعماؤهم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء. القول الثالث: مَن قالوا: إن العبد له إرادة واختيار ولكنَّ إرادتَه واختيارَه تابعةٌ لإرادة الله تعالى ومشيئتِه. وهؤلاء هم السلف الصالح أهلُ السنة والجماعة، فقالوا: إن العبد هو القائم الصائم الراكع الساجد الذاهب الجائي هو العبد، وليس الله، وقالوا: إن هذه الأفعال تُنسَبُ إليه، وما أكثرَ ما في القرآن ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٧]، جزاءً بما كانوا يفعلون، وما أشبهَ ذلك، لكنها لم تقَعْ خارجَةً عن قدرة الله تعالى ومشيئتِه بل هي تحت قدرة الله ومشيئتِه. وفائدة ذلك أنه إذا وقع الفعلُ منَّا علِمْنَا أن الله قد شاءَه وأرادَه ولسنا مستقِلِّين به. طيب هذه الآية ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ تردُّ على الطائفتين جميعًا؛ ﴿قَيَّضْنَا﴾ ترد على القدرية، ﴿فَزَيَّنُوا﴾ نسبَتِ الفعل إليهم، تَرَدُّ على الجبرية. * من فوائد الآية الكريمة: الحذَر من الوساوس التي يلقيها الشيطان لفاعلِ المعصية ويزَيِّنُها له، ويقول: هذه سهلة، الله غفورٌ رحيم، افعَلْ هذا ثم تُبْ، وما أشبه ذلك، احذَر من هذا؛ فإنَّ هذا وعدُ الشيطان ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء ١٢٠]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء الذين تابعوا القرناء قد خسِرُوا؛ لقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء الذين استحسنوا ما زَيَّن لهم القرناء حَقَّ عليهم القول، وسبق أن القول على رأي المؤلف هو ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ [الأعراف ١٨]، وعلى ما ذكرناه هو قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس ٩٦]، ولا يبعد أن يكون المراد بذلك الأمران جميعًا. * من فوائد الآية الكريمة: كثرَة الضالين بهؤلاء القرناء؛ لقوله: ﴿وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب