الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ [غافر ٩] هذا معطوف على ما سبق على قوله: ﴿وَأَدْخِلْهُمْ﴾ أي: وقهم السيئات، والجملة فعل أمر وفاعل ومفعول به بل ومفعولين، الجملة تتضمن فعلًا وفاعلًا ومفعولين، الفعل قِ، والفاعل مستتر وجوبًا، والمفعول الأول الهاء، والمفعول الثاني السيئات، وقِ هنا فعل أمر لكنه مكون من حرف واحد بعد أن حُذِفَ منه حرفان الأول والثالث، وهكذا كل مثال ناقص إذا كان ثلاثيًّا فإن فعل الأمر منه على حرف واحد هذه القاعدة، كل مثال ناقص ففعل الأمر منه إذا كان ثلاثيًّا على حرف واحد، عرفتم؟ ما هو المثال؟ هو الذي أوله حرف علة، والناقص الذي آخره حرف علة. طيب، إذن القاعدة هذه تشمل أمثلة كثيرة، وقد جمعها الخضري في حاشية ابن عقيل على ألفية ابن مالك جمعها في أبيات نعم، منها قِ فِ عِ يعني عَدَّد، لا أذكر الآن كل ما عدد، لكن الضابط هو هذا، كل ثلاثي كان مثالًا ناقصًا ففعل الأمر منه على حرف واحد. ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ قال المفسر: (أي عذابها) وهذا إذا جعلنا السيئات بمعنى الأعمال السيئات فإنه يتعيَّن أن نُفَسِّر ذلك بعذاب السيئات، لماذا؟ لأن عمل السيئات الآن قد انتهى وقته، وإنما الموجود هو الجزاء، فيُفَسَّر حينئذ بالعذاب، وأما إذا فَسَّرْنا السيئات بما يَسُوء دون العمل الذي يقع مِنَ العبد فإنه لا حاجة إلى أن نقول: عذابها، لماذا؟ لأن العذاب مما يسوء فكأنهم قالوا: وَقِهِم ما يسوؤهم من العذاب، والقاعدة في التفسير وفي شرح الأحاديث أنه إذا دار الأمر بين احتمال التقدير وعدم التقدير فالأولى عدم التقدير، وعلى هذا فنقول: السيئات هنا لا يُرَاد بها الأعمال السيئات التي هي فعل العبد قطعًا لأن هذا قد انتهى، وإنما يراد بالسيئات ما يسوء من أعمال ومن عقوبات ومن عذاب ومن غير ذلك. (﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ﴾ يوم القيامة ﴿فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ ) (مَن) شرطية، جملة ﴿فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ جواب الشرط، وإنما اقترن جواب الشرط بالفاء؛ لأنه مبدوء بـ(قد)، وجواب الشرط إذا بُدِئ بـ(قد) وجب اقترانه بالفاء، وله نظائر مما يجب اقترانه بالفاء، ينشدنا البيت فيه.. المهم أنه يجب ارتباط جواب الشرط بالفاء إذا وقع واحدًا من سبعة أمور، مجموعة في قول الناظم: ؎اسْمِيَّةٌ طَلَبِيَّةٌ وَبِجَامِدٍ ∗∗∗ وَبِمَا وَ(قَدْ) وَبِـ(لَنْ)وَبِالتَّنْفِيسِ التنفيس يشمل (سوف) والسين، هذه الآية من أي الأنواع السبعة؟ قوله: (وَقَدْ) ﴿فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾. ﴿وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ﴾ المشار إليه وقاية السيئات والرحمة ﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ ﴿هُوَ﴾ يجوز أن تكون مبتدأ والفوز خبره، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول، ويجوز أن تكون ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل لا محل لها من الإعراب، ويكون التقدير وذلك الفوز العظيم، ويؤيد هذا أنها تأتي بهذه الصيغة في بعض المواضع ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [النساء ١٣]. وضمير الفصل من حيث الإعراب لا محل له من الإعراب، من حيث المعنى له ثلاث فوائد: الفائدة الأولى الحصر، والفائدة الثانية التوكيد، والفائدة الثالثة التمييز بين الصفة والخبر. هذه ثلاث فوائد لضمير الفصل. الفائدة الأولى؟ * طالب: الحصر. * الشيخ: هذه واحدة. الثانية؟ * طالب: التوكيد. * الشيخ: التوكيد أو التأكيد؟ * طالب: التوكيد. * الشيخ: التوكيد أفصح ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل ٩١] ولم يقل: تأكيدها، لكنه يجوز الهمزة. الفائدة الثالثة؟ * طالب: التمييز بين الخبر والصفة. * الشيخ: التمييز بين الخبر والصفة، يظهر هذا في المثال؛ إذا قلت: زيد الفاضل، وأنت تريد أن تكون الفاضل خبر المبتدأ، فإنه يحتمل أن تكون الفاضل صفة والخبر لم يأت بعد، يحتمل أن يكون المراد زيد الفاضل فاهِمٌ، ويحتمل أن تكون الفاضل خبر المبتدأ، فإذا جاءت زيد هو الفاضل زال الإشكال وتعيَّن أن تكون الفاضل خبر المبتدأ، أما التوكيد والحصر فظاهر؛ لأنك إذا قلت: زيد هو الفاضل، أكدت أنه فاضل وحصرت الفضل فيه. وقوله: ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الفوز: حصول المطلوب والنجاة من المرهوب، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران ١٨٥]، ما هو النجاة من المرهوب في الآية؟ ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ﴾. حصول المطلوب؟ ﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾، ولا تفسير أَبْيَن وأوضح من تفسير الله عز وجل، فالفوز هو النجاة من المرهوب وحصول المطلوب، والدليل ما سمعتم. وقوله: ﴿الْعَظِيمُ﴾ وصف له بالعظمة؛ لأنه لا فوز أعظم من هذا، لا فوز أعظم من أن يَمُنَّ الله عليك بسكنى هذه الدار -جعلني الله وإياكم من ساكنيها- التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كل الناس في الدنيا المؤمنون يسعون للوصول إلى هذه الدار، ولهذا لما قال الأعرابي للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله أنا لا أُحْسِن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار فقال: «حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ»[[أخرجه أبو داود (٧٩٢) عن بعض أصحاب النبي ﷺ، وابن ماجه (٣٨٤٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ]] نحن لا نريد إلا هذا، وهذا الحديث وإن كان في صحته ما فيه، لكن حقيقة هو هذا، كل المؤمنين يعملون للوصول إلى هذه الدار، وهو -أي العمل لها- يسير، لكن على مَنْ يَسَّرَهُ الله عليه، ومتى ييسر الله عليك ذلك؟ اسمع إلى قول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ [الليل ٥ - ٧] اعمل أنت، كما قال النبي ﷺ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٩٤٩) ومسلم (٢٦٤٧ / ٦) من حديث علي رضي الله عنه.]]. يقول: ﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ نأخذ الفائدة في هذه الآية: * من فوائد هذه الآية: أن الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله يسألون الله تعالى أن يَقِيَ الذين آمنوا أن يَقِيَهم السيئات أي: عذابها حتى يتم لهم المطلوب. فإن قال قائل: أليس هذا حاصلًا مما سبق ﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ ﴿وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾؟ قلنا: بلى، ولكن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط لعدة أسباب: السبب الأول: أن الدعاء عبادة، فكلما بسطت فيه ازددت تعبُّدًا لله، وازددت ثوابًا وأجرًا. ثانيًا: أن البسط فيه التفصيل، والتفصيل خير من الإجمال؛ لأن الإجمال قد ينسى الإنسان فيه أشياء مهمة ولا تطرأ على باله لكن إذا فَصَّل تَبَيَّن الأمر. الثالث: أن التفصيل في الدعاء انبساط مع الله عز وجل؛ لأن الداعي يناجي ربه، ومن المعلوم أن مناجاة المحبوب يُسْتَحَبُّ فيها التطويل، أو نقول بعبارة ثانية: من المعلوم أن مناجاة المحبوب يحب الحبيب أن تطول المناجاة بينه وبين حبيبه، وهذا شيء مشاهد، إذا جلس إليك مَنْ تحب فإنك تَوَدُّ أن يطول الحديث ويطول الجلوس حتى أن الزمن ينفرط بسرعة، وإن جلس إليك الثقيل، قلتَ: ؎إِذَا حَلَّ الثَّقِيلُ بِدَارِ قَوْمٍ ∗∗∗ فَمَا لِلسَّاكِنِينَ سِوَى الرَّحِيلِ أحيانًا يجلس إليك الثقيل يخاطبك ويكلمك، كلما خاطبك بكلمة ولو كانت ثناء عليك كأنما صفع وجهك؛ لأنه يكون عندك كأنه جالس على قلبك، لكن الحبيب إذا جلس إليك لا تَوَدُّ أن تفارقه ولا تَمَلُّ حديثه، ولكن مَنْ خير الجُلَساء؟ ؎لَنَا جُلَسَاءُ لَا نَمَلُّ حَدِيثَهُمْ ∗∗∗ أَلِبَّاءُ مَأْمُونُونَ غَيْبًاوَمَشْهَدَا يعني بذلك الكتب. ؎أَعَزُّ مَكَانٍ فِي الدُّنَا سَرْجُ سَابِحٍ ∗∗∗ وَخَيْرُ جَلِيسٍ فِي الزَّمَانِ كِتَابُ هؤلاء هم الجلساء الذين لا يَمَلُّون والذين ينفعون ولا يضرون. على كل حال، نقول: إنه ينبغي البسط في الدعاء لثلاثة أسباب: السبب الأول: أنه عبادة فكلما بسطت فيه ازددت تعبدًا وتقربا لله. الثاني: أنه تفصيل والتفصيل خير من الإجمال، لأنه قد يكون في التفصيل ما يغيب عنك عند الإجمال. والثالث: أنه انبساط مع الله الذي هو أحب شيء إليك، والحديث مع المحبوب لا شك أن كل أحد يحب أن يطول، انظر إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسَرَرْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي»[[أخرجه مسلم (٤٨٣ / ٢١٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]] يكفي عن هذا كله أن يقول: اللهم اغفر لي ذنبي، لكن البسط له تأثير على القلب. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن مَنْ وُقِيَ السيئات يوم القيامة فقد دخل في رحمة الله؛ لقوله: ﴿وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾. * ومن فوائد الآية: أن الرحمة كما تكون في جلب المحبوب تكون في دفع المكروه؛ لقوله: ﴿وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذا أعظم فوز؛ لقوله تعالى: ﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، ووجهه أنه أشار إليه بإشارة البعيد للدلالة على علو هذا الفوز، ووصَفَهُ بالعظمة فيكون جامعًا بين عُلُوِّ المرتبة وعلو الماهية أنه عظيم. * طالب: (...). * الشيخ: أي فائدة في أجسام لا حركة فيها؟ * الطالب: يكفي يا شيخ أنها (...). * الشيخ: لا، ما يكفي أنهم وقوا النار؛ لأنه لو كفى ذلك ما احتجنا إلى الجنة أصلًا، قلنا: يكفيكم أنكم نجوتم من النار ولا حاجة للجنة. * طالب: إذا خالف الوصف في الدعاء المسؤول هل يكون اعتداء؛ يعني: بعض الناس إذا قلت: اللهم اهدِ (...) المهديين أو أذل الشرك والمشركين قلت: برحمتك يا أرحم الراحمين قال: هذا اعتداء في الدعاء. * الشيخ: لا، غلط، أما سمعت: ﴿وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ وهذا زوال مكروه، وإذلال الشرك لا شك أنه نعمة ورحمة. * طالب: في قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران ١٨٥] وفي الجنة أثبتنا النظر إلى الله عز وجل، هل يدخل في هذه الآية؟ * الشيخ: إي نعم. * الطالب: من أي وجه؟ * الشيخ: لأن دخول الجنة وما فيها فوز، وأعظم النعيم في الجنة هو النظر إلى وجه الله، ولهذا ذكرنا لكم يا إخوان أن قول الزمخشري: (أي فوز أعظم من هذه) قلنا: هذه كلمة حقيقة، ولا يُعْتَرض عليها إلا لأننا نعلم أن الرجل لا يثبت النظر إلى وجه الله، وإلا لقلنا: متى دخلت الجنة فأنت دخلت الجنة بكل ما فيها من النعيم. * طالب: (...). * الشيخ: هل كرروا الدعاء ولَّا كرروا المدعو له؟ * طالب: (...). * الشيخ: لا، اللهم اغفر لنا ولآبائنا وذرياتنا وإخواننا وجداتنا وأجدادنا وخالتنا وأخوالنا وعماتنا وأعمامنا والأصول والفروع والحواشي، هذا ما هو تكرار للدعاء تكرار للمدعو لهم، وأنت ترى الملائكة الآن ما دعت إلا لثلاثة أصناف فقط: الأصول، الفروع، والأصهار الزوجات، لكن على كل حال ما نقول: في هذا شيء، ما ننكر عليه، لكن كونه يطول على الناس بمثل هذه الأشياء قد يكون فيه مضرة على الناس تعب.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب