الباحث القرآني
ثم قال: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر ٧].
﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ مستأنف، ويجب الوقوف على ما قبله ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ يجب أن تقف؛ لأنك لو قلت: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ ووصلت لظن الظان أن أصحاب النار هم الذين يحملون العرش، وهذا فساد للمعنى، فالوقوف على قوله: ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ واجب.
وقوله: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يُسَبِّحُونَ﴾ خبر المبتدأ.
﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ العرش هو عرش الرحمن عز وجل وهو أكبر المخلوقات وأعظمها وأوسعها وأشرفها فيما عدا المكلفين، هذا العرش لا يعلم قَدْرَه إلَّا الله عز وجل، لأننا لم نُخْبَر عن قَدْرِه ولا نعلم من أي مادة هو، أهو من نور أو خشب أو حديد؟ ما نعلم؛ لأننا لم نُخْبَر عن ذلك، ولم نعلم عن لونه ولم نعلم عن ملمسه، ألين هو أم قاسٍ؟ كل هذا لا نعلمه، إنما نعلم أنه عرش عظيم محيط بالمخلوقات استوى عليه الرب عز وجل وله حملة، والمشهور أن حملته الآن أربعة، وفي يوم القيامة يكونون ثمانية، ومن جملة حملة العرش إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور فإنه أحد حملة العرش، الذين يحملون العرش هل نحن نعلم صفات هؤلاء الذين يحملون العرش؟ لا، لكن نعلم أنهم ملائكة، أما كيف هم فإن ذلك موقوف على ما جاء به السمع.
﴿وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ مَنْ معطوفة على العرش، توافقون؟ ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ توافقون أن تكون معطوفة على العرش؟ لا يصح؛ لأنه لو كان كذلك لكان المعنى ويحملون من حوله وليس كذلك، وعلى هذا فـ(مَن) معطوفة على﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ والذين حوله.
(﴿وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ عطف عليه) على المبتدأ؛ لأن المفسر قال: (مبتدأ ﴿وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ عطف عليه) أي على المبتدأ، وهو قوله: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾.
(﴿يُسَبِّحُونَ﴾ خبره) خبر المبتدأ وما عُطِفَ عليه؛ يعني: حملة العرش والذين حول العرش يسبحون بحمد الله. والتسبيح تنزيه الله عز وجل عما لا يليق به من نقص أو مماثلة للمخلوقين، والباء في قوله: ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ للملابسة أي تسبيحُا ممزوجًا بالحمد، فهم مسبحون حامدون (أي يقولون: سبحان الله وبحمده)، وقد بين الله عز وجل أن ذلك دائم مستمر فقال تعالى: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء ١٩، ٢٠].
قال: (﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ تعالى ببصائرهم أي: يصدقون بوحدانيته).
* طالب: هل الصحيح أن نقول: إن الأسباب تقع بدون السبب لكن نحن نَتَّبِع الشرع الذي أمر بالأسباب فقط؟
* الشيخ: أنا لو كنت قريبًا منك لأوجعتك ضربًا، حتى تعلم أن الوجع منين؟ من ضربي.
* طالب: هذا يعني على قول الأشاعرة؟
* الشيخ: إي نعم، الأشاعرة يقولون هذا: إن الأسباب لا تُؤثِّر لكنها علامات على حلول وقت الحادث.
* طالب: (...) حدوث القرآن، لماذا لا يعتبر كفرًا وهو (...) قوله تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنبياء ٢]؟
* الشيخ: لا يكون كفرًا؛ لأن لهم تأويلًا، يقول: محدث إنزالُه، ليس هو الذكر المحدث، المحدث إنزاله، ولا شك أن هذا إقحام لكلمة إنزال في غير دليل مثل قوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر ٢٢] قالوا المعنى: وجاء أمر ربك، فأقحموا أمرًا، فنظرًا لهذا التأويل لا نحكم بكفرهم.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا ينافي ذلك؛ أولًا: كتابته في اللوح المحفوظ لم تثبت عن طريق يطمئن إليه الإنسان. وأما قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف ٤] فإنه يمكن أن يكون المراد به ذكر هذا الكتاب كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء ١٩٦]، ومعلوم أن زبر الأولين ليس فيها القرآن، وإنما فيها التَّحَدُّث عنه وذِكْرُه، فليس هناك دليل قطعي يطمئن الإنسان إليه بأن القرآن كُتِبَ في اللوح المحفوظ، وإذا ثَبَت هذا فلا ينافي أن يكون كلام الله تعالى به محدثًا بمعنى أنه يتكلم به لِيُلْقِيَه على جبريل وإن كان مكتوبًا من قبل في اللوح المحفوظ.
* طالب: شيخ، بارك الله فيك، ما هو الدليل على أن جميع من ذُكِر من الأنبياء في القرآن أنهم كلهم رسل؟
* الشيخ: ما هو الدليل؟ ذكرناه لكم سابقًا ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ﴾ [غافر ٧٨] فكل من قصه الله علينا فهو رسول.
* طالب: (...).
* الشيخ: نعم، يأتي بقرينة؛ مثل قوله: ﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾ أهلكتهم.
* طالب: (...).
* الشيخ: هو على كل حال أخذهم للأنبياء قد يكون يأخذونهم ليحبسوهم؛ كقوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال ٣٠] ﴿يُثْبِتُوكَ﴾ يعني: يحبسونك فتكون ثابتًا في مكان لا تتعداه، ﴿أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾ واضح، ﴿أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ من البلد.
* طالب: (...).
* الشيخ: ﴿لِيَأْخُذُوهُ﴾ لقوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران ١١٢]، ولقوله: ﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾ فيكون إهلاكهم في مقابل ما يريدونه من إهلاك الرسل. الرسول ﷺ ما هموا أن يقتلوه؟! نعم، أتدري ماذا أشار عليهم الشيخ النَّجْدِيُّ؟ قال: لا يمكن أن تقتلون قريشيًّا إلا كون عشرة شبان أقوياء وأعطوا كل واحد منهم سيفًا فإذا خرج محمد فليقتلوه ضربة رجل واحد، حتى يتفرق دمُه في القبائل فلا تستطيع قريش أن تُطالِبَ به، فيخضعوا لأخذ الدية. عرفت إذن هَمَّوا بقتله ولَّا لا؟ هموا بقتله، واليهود هموا بقتله في قصة بني النضير.
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [غافر ٧ - ٩].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ سبق الكلام على قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾.
قال: (﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ تعالى ببصائرهم أي: يصدقون بوحدانيته) الإيمان في اللغة الإقرار بالشيء هو الإيمان به، لكن الإقرار بالقلب واللسان، وليس هو مجرد التصديق، قد لا يُعْرَض على الإنسان شيء فيؤمن به كما إذا شاهد شيئًا بعينه فإنه يؤمن به وإن لم يُعْرَض عليه.
والقول بأنه في اللغة التصديق فيه نظر؛ لأن تفسير الشيء بالشيء يلزم أن يكون مطابقًا له، ومن المعلوم أنك تقول: آمنتُ به، وتقول: صدقتُ به. وتقول: آمنتُ له، وتقول: صدقتُ له، وتقول: صدقتُه، ولا تقل: آمنتُه، وهذا يدل على أن الإيمان ليس هو التصديق، وقد نبَّه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الإيمان فقال: إن الإيمان بمعنى التصديق ليس بصحيح، وإن كان قد يأتي بمعناه، لكن حقيقته (...) فهو إقرار بالقلب ونطق باللسان، فيؤمنون بالله أي: يؤمنون بوجوده عز وجل ووحدانيته وبكل ما يستحقه من أسماء وصفات وغيرِها إيمانًا كاملًا. والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وانفراده بذلك.
﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ ﴿يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي: يطلبون المغفرة للذين آمنوا، وقد مرَّ بنا مرارًا أن المغفرة هي سَتْرُ الذنب والتجاوز عنه.
﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ جملة ﴿رَبَّنَا﴾ مقول لقول محذوف فَسَّره المؤلف بقوله: (يقولون ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ ) ﴿رَبَّنَا﴾ أي: يا ربنا، وحُذِفَت منه ياء النداء لكثرة الاستعمال وتَيَمُّنًا بالبداءة باسم الله عز وجل أو بوصفه بالربوبية.
﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ أي: وَسِع رحمتك كل شيء وعلمك كل شيء؛ فمعنى وسِعْتَ كل شيء أي: أحطت به رحمة وأحطت به علمًا، فما بلغه علم الله بلغتْه رحمتُه. ولكن الرحمة إما عامة وإما خاصة كما سيأتي في الفوائد إن شاء الله.
﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا﴾ وجملة ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ هي عبارة عن تَوَسُّل أي: توسلوا بسعة علم الله ورحمته إلى مطلوبهم.
يقول: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا﴾ أي: تابوا من الشرك ورجعوا إلى الله تعالى بالتوحيد والإخلاص.
﴿وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ أي: طريقك وهو دين الإسلام سواء كان إسلام محمد ﷺ أو إسلام مَنْ قبله؛ لأن هذا الدعاء عام لكل المؤمنين، فقول المؤلف: (دين الإسلام) يريد به الإسلام العام، فالذين اتبعوا الرسل السابقين مسلمون، والذين اتبعوا محمدًا ﷺ مسلمون، لكن لا إسلام بعد محمد ﷺ إلا بإتباع دينه.
وهنا قال: ﴿اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾، وفي آية أخرى: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء ١١٥] فأضاف السبيل إلى المؤمنين، وكذلك الصراط يضيفه تعالى أحيانًا لنفسه مثل قوله: ﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى ٥٣] وأحيانًا للمؤمنين مثل: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة ٧] فما هو الجمع بينهما؟
الجمع بينهما أن الله أضاف السبيل أو الصراط إليه باعتبارين: الاعتبار الأول أنه هو الذي وضعه لعباده يسيرون عليه، والاعتبار الثاني أنه مُوصِل إلى الله عز وجل فمَنْ سلكه أوصله إلى ربه.
أما إضافته للمؤمنين في قوله: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء ١١٥] أو للذين أنعم عليهم في قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة ٧] فلأنهم سالكوه فأُضيف إليهم باعتبار سلوكهم إياه، وحينئذ ليس بين الآيات تعارض.
﴿وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ اغفر ﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ أي: اجعل لهم وقاية من عذاب الجحيم وهو عذاب النار كما فسَّر بذلك المؤلف.
* في هذه الآية فوائد:
* من فوائد الآية: إثبات العرش وقد تكرر ذكره في القرآن الكريم في آيات عديدة ووصْفُه بأنه كريم وبأنه عظيم وبأنه مجيد.
* ومن فوائدها: إثبات أن لهذا العرش حملة؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ وإثبات الحَمَلَةِ له مع قدرة الله سبحانه وتعالى على إمساكه بدون حملة إشعار بتعظيمه وأنه عظيم معتنى به، ولهذا نجد أن الله قال في السماوات: بغير عمد، ولم يذكر لها حملة، والعرش ذكر له حملة مع أن الذي أمسك السماوات والأرض أن تزولا قادر على إمساك العرش بلا حملة، لكن هذا من باب التعظيم والتنويه بشرفه وعظمته.
* ومن فوائد هذه الآية: أن حول هذا العرش ملائكة..
إشعار بتعظيمه وأنه عظيم معتنى به، ولهذا نجد أن الله قال في السماوات: بغير عمد، ولم يذكر لها حملة، والعرش ذكر له حملة مع أن الذي أمسك السماوات والأرض أن تزولا قادر على إمساك العرش بلا حملة، لكن هذا من باب التعظيم والتنويه بشرفه وعظمته.
* ومن فوائد هذه الآية: أن حول هذا العرش ملائكة وأنهم كثيرون ربما نستفيد كثرتهم من قوله: ﴿وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ كأن كل الذي حول العرش، ثم من الذي حول العرش؟ هل يُقَدَّر بمسافة عشرة أمتار أو عشرين مترًا أو مئة متر أو ألف متر، يقال: الحول في كل مكان بحسبه فعندنا مثلًا الأرض صغيرة بالنسبة للعرش، والذي حول الإنسان فيها لا يتجاوز عشرة أمتار ربما نقول: من حولك هو الذي يسمع كلامك المعتاد، لكن من حول العرش ما نعلم قد تكون مساحات كبيرة لا يعلمها إلا الله.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تعظيم هؤلاء الذين يحملون العرش والذين حول العرش للرب عز وجل؛ لقوله: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾.
* ومن فوائدها: تنزيه الله عز وجل عن كل نقص وعن مماثلة المخلوقين، فإن قيل: مماثلة المخلوقين من النقص، فلماذا نقول: وعن مماثلة المخلوقين، أفلا يجدر بنا أن نقتصر على قولنا: تنزيه الله عن النقص؟
نقول: لا، مرادنا بالتنزيه عن النقص أن صفاته الكاملة منزهة عن النقص، فقوته لا يعتريها نقص ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق ٣٨] عِلْمُه لا يعتريه نقص ﴿فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي﴾ [طه ٥٢] أي: لا يجهل ﴿وَلَا يَنْسَى﴾، فمرادنا بالنقص أن كماله لا يعتريه النقص، وأما نفي المماثلة فلأن الله نصَّ على نفيها فينبغي أن نتبع في ذلك القرآن أن نقول: منزه عن مماثلة المخلوقين.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وصف الله عز وجل بالكمال والإفضال؛ لقوله: ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [غافر ٧]؛ لأن الحمد وصف المحمود بالكمال والإفضال لأن الله يحمد على كماله؛ مثل قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام ١]، وكذلك مثل قوله: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ﴾ [الإسراء ١١١]، كل هذا حمد على الكمال، ويحمد على إفضاله لقول النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»[[أخرجه مسلم (٢٧٣٤ / ٨٩) من حديث أنس رضي الله عنه.]] هذا حمد على أيش؟ على الإفضال.
طيب، إذن يستفاد كمال الله عز وجل وإفضاله؛ لقوله: ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن كمال الكمال بنفي النقص أو بالجمع بين نفي النقص وإثبات الكمال، كمال الكمال أن تجمع بين النفي والإثبات في الكمال، من أين يؤخذ؟ من ﴿يُسَبِّحُونَ﴾ هذا نفي النقائص، ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ إثبات؛ إذن كمال الكمال بالجمع بين النفي والإثبات.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله، من أين تؤخذ؟
* طالب: من قوله: (...).
* الشيخ: لا.
* طالب: من قوله: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ [غافر ٧].
* الشيخ: لا.
* طالب: لوجود الهداية أنهم يسبحون بحمد الله وأنهم يؤمنون به وأنهم يستغفرون للذين آمنوا.
* الشيخ: وغيرها، إضافة الربوبية إليهم فإن هذه من الربوبية الخاصَّة ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ وهي كما أشار إليها الإخوان من عدة وجوه، اختصاص الله لهم بحمل العرش، تسبيحهم بحمد الله، إضافة الربوبية إليهم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الملائكة مكلفون؛ لقوله: ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾، ووجه الدلالة أنهم لولا أنهم مُكَلَّفون قاموا بما كُلِّفوا به لم يكونوا مستحقين للثناء بالإيمان، لو كان هذا من طبيعتهم وسَجِيَّتِهم لم يكن للثناء عليهم بذلك كبير فائدة، ويدل على أنهم مكلفون قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ [البقرة ٣٤]، ولا شك أن كل عباد الله الذين لهم فَهم وعقل لا بد أن يكونوا مكلفين.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تسخير الله عز وجل للمؤمنين أن تستغفر لهم الملائكة، وليس الملائكة مطلقًا، بل الملائكة المقربون؛ لقوله: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الحث على الإيمان حتى تدخل في ضمن مَنْ تستغفر لهم الملائكة، والإيمان كله خير، كله سرور، كله نعمة في القلب ونعمة في البدن، حتى البلاء الذي يصيب المؤمن هو له خير؛ فلهذا نقول: احرص على تحقيق إيمانك بفعل الوسائل التي تُنَمِّي هذا الإيمان وتغذيه وتقويه.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بصفاته كما يُتَوَسَّل إليه بأسمائه، فهنا تَوَسَّل الملائكة إلى الله بالربوبية في قولهم: ﴿رَبَّنَا﴾، وتوسلوا إليه بسعة الرحمة ﴿وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً﴾ وبسعة العلم ﴿وَعِلْمًا﴾. والتوسل إلى الله تعالى بصفاته من أسباب إجابة الدعاء كالتوسل إليه بأسمائه.
وهنا يَجْدُر بنا أن نَتَعَرَّض لمعنى الوسيلة وحكمها؛ الوسيلة فِعْلُ ما يُوصِل إلى المقصود يُسَمَّى وسيلة، وربما نقول: إنه تناوبت فيه السين والصاد وأن أصل الوسيلة يعني الوصيلة، وصيلة بمعنى مُوصِلة فهي فعيل بمعنى مُفْعِل، فالوسيلة كل ما يوصل إلى المقصود يُسَمَّى وسيلة، والوسائل لا بد أن تكون معلومة إما بالشرع وإما بالحس، وإنما قلت ذلك لدفع الوسائل الموهومة، الوسائل الموهومة كالذين يُعَلِّقُون على صدورهم أشياء لم يثبُت شرعًا ولا حسًّا أنها مفيدة لكن على سبيل الوهم، أو الذين يُعَلِّقون نُحاسًا أو خيوطًا أو ما أشبه ذلك، هذه وسائل للشفاء ادَّعَوْها، ولكنها حقيقة ليست وسيلة لانتفاء ثبوت ذلك شرعًا وحسًّا.
إذا كانت الوسيلة هي فعل ما يوصل إلى الشيء والعلم بإيصال هذا إلى المقصود، العلم بكونه موصلًا يأتي عن طريق الشرع أو عن طريق الحس؛ كون العسل شفاءً وتناولُه وسيلة للشفاء، هذا علمناه بطريق شرعيٍّ وربما حسِّي أيضًا بعد التجربة، وكون السنا محركًا للبطن مسهِّلًا له هذه وسيلة حسية، أتعرفون السنا؟ طيب باللغة العامية يسمى السناوي، هو أوراق شجر معروف يُخمَّر بالماء ثم يُشْرَب على الريق فإذا شربه الإنسان على الريق فإنه يُسْهِلُه وينظِّف بطنه، هذا هو، وكان الناس يستعملونه كثيرًا قبل أن تأتي هذه الأدوية.
* طالب: يُسَمَّى سنا مكة.
* الشيخ: يُسَمَّى سنا مكة؟ أيش تسمونه؟ سنوس؟ أسماء مختلفة. عل كل حال نرجع إلى تعريف الوسيلة هي فِعْلُ ما يوصل إلى المقصود، والعلم بإيصاله إلى المقصود يأتي عن طريق الشرع وعن طريق الحس.
الوسائل التوسل إلى الله تعالى بإجابة الدعاء، أن تفعل شيئًا يوصل إلى الإجابة، ولا طريق لنا إلى العلم بإيصاله الإجابة إلا عن طريق الشرع.
إذن ننظر التوسل إلى الله تعالى بأسمائه هذا واحد.
القسم الأول: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه ودليله قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف ١٨٠] فتقول: اللَّهُمَّ يا غفور يا رحيم اغفر لي وارحمني، هذا توسل إلى الله بأسمائه.
الثاني: التوسل إلى الله بصفاته؛ ومنه قوله ﷺ: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي إِذَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي»[[أخرجه أحمد (١٨٣٢٤) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه. ]] بماذا توسل؟ «بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ» » العلم صفة،« «وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ» القدرة صفة، فتقول: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي.. إلى آخره.
القسم الثالث: التوسل إلى الله بأفعاله، أن تتوسل إلى الله بأفعاله؛ ومن قوله تعالى عن موسى: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ [القصص ١٧]، إن جعلنا قوله: ﴿فَلَنْ أَكُونَ﴾ من باب الدعاء، وإن جعلناها من باب الالتزام لم تكن من هذا الباب. ولكن من هذا الباب قوله عليه الصلاة والسلام وهو يُعَلِّمُنا كيف نصلي عليه: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٣٧٠)، ومسلم (٤٠٦ / ٦٦) من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.]] فالكاف هنا ليست للتشبيه، الكاف للتعليل؛ يعني صل على محمد وآل محمد لأنك صليت على إبراهيم، فتوسل إلى الله بفعله؛ يعني: كما مَنَنْتَ أولًا على إبراهيم وآله فامنُنْ ثانيًا على محمد وآله.
كم هذه؟ أسماء الله، صفات الله، أفعال الله.
القسم الرابع: التوسل إلى الله تعالى بالإيمان بالله، وهذا مِنْ فِعْلِك أنت، ومنه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ [آل عمران ١٩٣] هذه الوسيلة، ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا﴾ أي: فبسبب ذلك اغفر لنا ﴿ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾، هذا توسل إلى الله بماذا؟ بالإيمان به.
القسم الخامس: التوسل إلى الله بالعمل الصالح؛ لأن العمل الصالح سبب للمثوبة، ومن المثوبة حصول ما دعوتَ به، ودليله قصة أصحاب الغار التي حدثنا بها رسول الله ﷺ، أصحاب الغار ثلاثة آواهم المبيت الليل، فلجؤوا إلى غار فدخلوا به، فتدحرجت عليهم صخرة عظيمة من الجبل فَسَدَّتْ عليهم باب الغار، ولم يستطيعوا أن يزحزحوها، ولا مغيث لهم إلا الله، ليس حولهم بشر، فماذا صنعوا؟ توسَّلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة، أحدهم توسل إلى الله ببرِّ والديه، والثاني توسل إلى الله بالعفة التامة، والثالث توسل إلى الله بالأمانة التامة. تعرفون القضية؟ إذن لا حاجة إلى التفصيل.
بر الوالدين عمل صالح، العفة عمل صالح، الأمانة وأداء الأمانة عمل صالح، فلما توسل الأول منهم انفرجت الصخرة لكن لا يستطيعون الخروج، توسَّل الثاني انفرجت الصخرة لكن لا يستطيعون الخروج، توسَّل الثالث انفرجت الصخرة مرة واحدة فخرجوا يمشون[[أخرج البخاري (٢٢١٥) ومسلم (٢٧٤٣/١٠٠) بسنديهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا، ولا مالًا فنأى بي في طلب شيء يومًا، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبثت والقدح على يدي، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج». قال النبي ﷺ: «وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم، كانت أحب الناس إليَّ فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها». قال النبي ﷺ: «وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون». ]]، هذا التوسل إلى الله بماذا؟ بالعمل الصالح.
السادس: التوسل إلى الله بحال الشخص، تتوسل إلى الله تعالى بذكر حالك أنك فقير، محتاج إلى الله، مريض، وما أشبه ذلك، ومنه قول موسى عليه الصلاة والسلام، دليله -وإن شئت قل: منه- يعني هذا يصلح دليلًا وتمثيلًا ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص ٢٤] لما سقى للمرأتين تولى إلى الظل ليستظلَّ به فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ هذا ما قال: أعطني ولا شيء، لكن توسل إلى الله بحاله، لأن قول القائل: أنا فقير، أنا محتاج، أنا مسني الضر، وما أشبه ذلك يعني فأعطني، اشفني، وقد جمع أيوب عليه الصلاة والسلام بين ذِكْر الحال والتوسل بالأسماء فقال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ الأول: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ ذكر الحال، والثاني بالأسماء.
النوع السابع من التوسل الجائز: التوسل إلى الله بدعاء مَنْ تُرْجَى إجابتُه؛ ومنه توسل الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي ﷺ أن يدعوَ الله لهم؛ مثل الاستسقاء والاستصحاء وغير ذلك كثير، ومن ذلك توسل الناس عمومًا يوم القيامة بشفاعة النبي ﷺ إلى الله أن يقضي بينهم. هذه سبعة.
وقولنا: التوسل إلى الله بمن ترجى إجابته يستفاد منه أن التوسل إلى الله تعالى بمن لا ترجى إجابته لا يجوز؛ لأن هذا استهزاء بالله، لو أنك أتيت بصاحب ربا يأكل الربا ويأكل المال بالظلم والغش والكذب وقلت: ادعُ الله لي فإن هذا لا يجوز؛ لأنك توسَّلت إلى الله بمن تَبْعُد إجابته، فإن النبي ﷺ ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب وملبسه حرام ومطعمه حرام وغذي بالحرام قال: «فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»[[أخرجه مسلم (١٠١٥ / ٦٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، وهو سخرية، لو أنك أتيت بشخص ولله المثل الأعلى ليتوجه لك إلى ملك كان الملك يبغض هذا الشخص ويبعده، ماذا يكون هذا؟ استهزاء بالملك واستهتارًا به، كُلٌّ يعرف هذا، فلا يجوز أن تتوسل إلى الله تعالى بدعاء مَنْ لا تُرْجى إجابته؛ لأن هذا من باب السخرية بالله عز وجل، هذه سبعة أقسام من التوسل الجائز.
أما التوسل الممنوع كأن يتوسل إلى الله بما ليس بوسيلة؛ مثل تَوَسُّل المشركين بأصنامهم حيث يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر ٣] هذا لا ينفع.
ومن ذلك التوسل إلى الله بجاه الرسول ﷺ هذا لا يجوز؛ لأنه توسل بما ليس بوسيلة، ماذا تستفيد من جاه الرسول عند الله؟ لا شيء، لأن جاه الرسول عند الله إنما ينفع من؟ ينفع الرسول فقط لا علاقة لي به؛ فلذلك يكون التوسل بجاه الرسول ﷺ ممنوعًا مُحَرَّمًا؛ أولًا لأنه لم يَرِدْ، والثاني لأنه ليس بوسيلة؛ إذ إن الوسيلة هي فعل ما يُوصِل إلى المقصود، وأي ارتباط بين جاه الرسول عند الله وبين مطلوبك.
فصار التوسل الممنوع شيئين: الأول التوسل الشركي توسل المشركين بآلهتهم لتقربهم إلى الله؛ فإن هذا لا شك أنه وسيلة غير صحيحة وأنها باطلة، على أن تسميتنا إياها وسيلة إنما نريد مَنْ لا يعبد الأصنام، أما مَنْ يعبد الأصنام فإنه مشرك ولم يتوسل إلى الله تعالى بشيء.
والثاني التوسل إلى الله تعالى بجاه الرسول.
فإن قال قائل: أيجوز أن أتوسل بمحبة الرسول فأقول اللهم بمحبتي لرسولك، يجوز؟ أي مصلحة لك بمحبتك الرسول؟
* طلبة: عمل صالح.
* الشيخ: إي، لأن محبة الرسول لا شك أنها عمل صالح، فإن من أفضل الأعمال محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل لا يؤمن الإنسان حتى يكون رسول الله ﷺ أحبَّ إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين.
* من فوائد الآية الكريمة: بيان الصيغة التي يقولها الملائكة في استغفارهم للمؤمنين أنهم يتوسلون أولًا ثم يطلبون ثانيًا ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا﴾ [غافر ٧].
* ومن فوائد الآية الكريمة: سعة رحمة الله؛ لقوله: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً﴾.
فإن قال قائل: كيف يصح ذلك وأكثر بني آدم كفار، فأين الرحمة؟ قلنا: هم مرحومون بالرحمة العامة؛ مَنْ يخرج لهم النبات؟ من ينزل لهم المطر؟ من يجعلهم أصحاء؟ من يمتعهم بالسمع، بالبصر؟ إلا الله، وهذه رحمة، فرحمة الله وسعت كل شيء.
* ومن فوائدها: سعة علم الله؛ لقوله: ﴿وَعِلْمًا﴾. ويترتب على هاتين الفائدتين أن الإنسان متى علم ذلك تَعَرَّض لرحمة الله لعله يكون من الداخلين فيها، وإذا آمن بسعة علم الله استحيا من الله أن يَفْقِدَه حيث أمره أو يجده حيث نهاه، أليس كذلك؟
طيب، لو قال لك أبوك: يا بُنَيَّ، لا تفعل كذا. فأنت إذا غاب ولك هوى فيه تفعله أو لا؟ تفعله لا شك؛ لأنه لا يعلم بك، إذا كان يشاهدك لا تفعله. الله عز وجل لا يغيب عنك، إذن لا تفعله لا في السرِّ ولا في الجهر إذا كان مما نهى الله عنه، ولا تتركه إذا كان فيما أمر به، ولهذا نقول: لا يفقدْك الله حيث أمرك، ولا يجدْك حيث نهاك.
* من فوائد الآية الكريمة: فضيلة التوبة؛ حيث عَلَّقَتِ الملائكة بطلب المغفرة بها فقال: ﴿لِلَّذِينَ تَابُوا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من تحقيق التوبة اتباع سبيل الله؛ لقوله: ﴿وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾، ولهذا نجد أن الله تعالى يقرن دائمًا مع التوبة ذكر العمل الصالح ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ [الفرقان ٧٠].
* ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلة الإسلام، كيف ذلك؟ لإضافته إلى الله عز وجل.
* ومن فوائدها: كمال الإسلام بإضافته إلى الله، ففيه الفضيلة بإضافته إلى الله باعتباره موصلًا إليه، وفيه الكمال بإضافته إلى الله باعتباره واضعًا له، أنه هو الذي شرعه وهو كامل، والكامل لا يَشْرَع إلا كاملًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الملائكة أَكَّدُوا المغفرة بحصول أثرها وهي قولهم: ﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾؛ وذلك أن التوبة لا تكون إلا بالوقاية من الجحيم، لكنهم أكَّدوا ذلك لعظم هذا العذاب عذاب الجحيم، فنصُّوا عليه لهذا السبب، وإلا فإن التوبة في الحقيقة والمغفرة توجب الوقاية من عذاب الجحيم، ولكن النص عليه يكون في ذلك زيادة على ما يتضمنه المعنى العام.
هل يمكن أن يؤخذ من هذه الآية الرد على الجبرية؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: من أي مكان؟ من قوله: ﴿وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ فأضاف الإتباع إليهم، ولو كانوا مُجْبَرين على ذلك لم يصح أن يضاف الفعل إليهم، ولهذا إذا أُكْرِه الإنسان على الكفر لا يكفر؛ لأن الفعل لا يُنْسَب إليه حقيقة فهو مكره عليه، والله أعلم.
* طالب: شيخ، بارك الله فيكم، ذكر بعض أهل العلم أنه من تمام حسن الأدب مع الله عز وجل ومع رسوله ﷺ ومع صحابته ومع العلماء إذا ذكر الله يقول: عز وجل، والنبي يصلي عليه، والعلماء يترحم عليهم، والصحابة يترضى عليهم، (...) فهل هذا على إطلاقه؟ وقال: إن من تركه فقد فاته خير عظيم.
* الشيخ: أما من جهة الصلاة على النبي ﷺ فإنه لا شك أنه إذا ذُكِرَ فإن الإنسان مأمور بالصلاة عليه إما وجوبًا وإما استحبابًا؛ فمن العلماء من أوجب عليك إذا ذُكِرَ عندك اسم الرسول أن تُصَلِّي عليه لحديث: «رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ. قُلْ: آمِينَ. فَقُلْتُ: آمِينَ»[[أخرجه البخاري في الأدب المفرد (٦٤٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، وأما الله عز وجل فليس بشرط الثناء عليه عند (...)، ولهذا دائمًا يقول الرسول عليه الصلاة والسلام قولًا يسنده إلى الله ولا يذكر وصفًا بالعزة أو الجلال أو التعالي أو التبارك أحيانًا يقول، وأحيانًا لا يقول، فكونك أحيانًا تقول وأحيانًا لا تقول أحسن، وكذلك بالنسبة للترضي عن الصحابة أو الترحم على مَنْ بعدهم كل هذا لا يُتَّخَذ سنة راتبة، ولكن إن ذُكِرَ أحيانًا فهو حسن، أما اتخاذه سنة راتبة فهو يحتاج إلى دليل.
* طالب: ما هو الضابط في الفرق بين الوسيلة الشركية والوسيلة البدعية؟
* الشيخ: الوسيلة البدعية هي التي لم ترد عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه، والشركية هي ما تتضمن إشراك غير الله مع الله، مع أن البدعة تُسَمَّى شركًا بالمعنى العام؛ لأن المبتدع شرع شرعًا لم يشرعه الله وقد سَمَّى الله ذلك شركًا فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى ٢١]، لكن ما كان مظهره مظهر الشرك غُلِّبَ عليه اسم الشرك، وما كان مظهره سوى ذلك فيسمى بالاسم الذي يختص به؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن جميع المعاصي شِرْكٌ؛ لأن الإنسان أشرك فيها مع الله هواه كما قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية ٢٣].
* طالب: (...).
* الشيخ: الوسائل ليس فيها وسائط إلا السابعة؛ وهي التوسل إلى الله بدعاء مَنْ ترجى إجابته.
* طالب: الشركية نفس الشيء؟
* الشيخ: إحنا نقول: الجائزة. الشركية شركية.
* الطالب: بالنسبة إلى التوسل إلى الله بالعمل الصالح، العلماء لماذا أخرجوه عن التوسل إلى الله بالإيمان؟
* الشيخ: نعم؛ لأن الإيمان بالقلب والعمل الصالح بالجوارح.
* طالب: ما يدخل ذلك في الإيمان؟
* الشيخ: لا، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [الشعراء ٢٢٧]، فالإيمان بالقلب والعمل الصالح بالجوارح، ولكن العمل الصالح من الإيمان.
* طالب: التوسل إلى الله بمحبة الصالحين والعلماء؟
* الشيخ: ماذا تقولون؟ هل يجوز التوسل إلى الله بمحبة الصالحين والعلماء؟ هل محبة الصالحين والعلماء هي عبادة تُقَرِّب إلى الله أو لا؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: إذن عمل صالح تدخل في التوسل إلى الله بالعمل الصالح.
* الطالب: تخصيص العالم بعينه؟
* الشيخ: لا، الأحسن ألا تخصص؛ لأن العالم بعينه -نسأل الله تعالى أن يحمينا وإياكم ويجعل ظواهرنا كبواطننا أو بواطننا خيرًا منها- ما تدري حقيقة، قد تَغْتَر بإنسان، ولكن لا يكون على ما تظن، لكن عَمِّمْ: اللهم بحبي لعلماء الشرع احشرني معهم، بحبي للصالحين اجعلني معهم وما أشبه ذلك.
{"ayah":"ٱلَّذِینَ یَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ یُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَیُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَیَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَیۡءࣲ رَّحۡمَةࣰ وَعِلۡمࣰا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِینَ تَابُوا۟ وَٱتَّبَعُوا۟ سَبِیلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِیمِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق