الباحث القرآني

طالب: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر ٦٤ - ٦٦]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾ الجملة: (الله): مبتدأ، و(الذي): خبره؛ يعني: الله هو الذي جعل لكم الأرض قرارًا والسماء بناء إلى آخره، جعل لكم هذه من أفعال التصيير؛ أي: صَيَّر لكم، و(قرارًا) يعني: ذات قرار؛ أي: مستقر، و(السماء بناء)؛ أي: فوق، وقد بَيَّن الله تعالى في آية أخرى أنه سقف؛ فالله جعل الأرض قرارًا؛ أي: مستقرة. وهل معنى هذا القرار أنها لا تتحرك أو أنها لا تميد بنا؟ يقال: القرآن يفسر بعضه بعضًا، فقد قال الله تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا﴾ [النحل ١٥] فبين أن المراد بالقرار أنها لا تميد بساكنيها؛ أي: لا تضطرب، وليس المعنى أنها قارة لا تتحرك كما سيأتي إن شاء الله في الفوائد. ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [غافر ٦٤] أي: سقفًا عاليًا، والمراد بالسماء هنا السماوات ذات الأجرام؛ وذلك لأن السماء يطلق على معنيين؛ المعنى الأول: العلو، والمعنى الثاني: السماء السقف، والذي يعين أحد المعنيين هو السياق. فقول الله تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد ١٧] المراد بالسماء هنا العلو؛ لأن المطر ليس ينزل من ذات السماء السقف، بل ينزل من العلو، ويدل لذلك قوله تعالى: ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة ١٦٤]، فالسماء هنا بمعنى ذات السقف، والمطر ينزل من السحاب، فإذا كان مسخرًا بين السماء والأرض اقتضى ذلك أن لا يكون المطر ينزل من السماء ذات السقف، ولكنه ينزل من السماء التي بمعنى العلو، والذي معنا هنا ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ المراد به السماء ذات السقف. ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [غافر ٦٤] أي: جعلكم على صورة معينة، والصورة هي الشكل، فشكل الآدمي هو أحسن شكل في المخلوقات وأحسنه وأقومه ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين ٤]، فلا صورة أحسن من صورة الآدمي، ولا شكل أحسن من شكله، ولهذا قال: ﴿فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾. ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ [غافر ٦٤] فبين الله في هذه الآية أربعة أشياء: الأرض التي هي محل السكنى، والسماء التي هي محل الظل، والتصوير الذي هو الهيكل الإنساني، والإمداد لهذا الهيكل وهو قوله: ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ رزقكم: أي أعطاكم، والطيبات هنا ما طاب ولذ. واعلم أن الطيب تارة يُراد به الحلال، وتارة يُراد به الحسن، وتارة يُراد به اللذيذ، ويعين ذلك السياق، فقول الله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [الأنفال ٣٧] المراد بالطيب هنا الحسن، والمراد بالخبيث الرديء؛ والمراد بقوله تعالى: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة ٥٧] المراد بها الحلال لقوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ [البقرة ١٧٢]؛ لأنه لو قيل: المراد اللذيذ، لكان قوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ لا معنى له، ولا يمكن إقامة الشكر إلا إذا تناول الإنسان الشيء الحلال، والمراد بقوله هنا: ﴿مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ ما طاب ولذَّ، وإنما قلنا بذلك؛ لأن رزق الله عز وجل بالمعنى العام يشمل الحلال والحرام، ولهذا نقول: إن الإنسان إذا اكتسب مالًا محرمًا عن طريق الربا مثلًا فإنه مرزوق لا شك، لكنه رزق فيه التبعة. ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ ذلكم الله: اسم إشارة مبتدأ، وما بعده عطف بيان أو نعت، ورب: خبر المبتدأ؛ يعني: هذا الذي أمدكم بهذه الأشياء الأربعة هو الله لا أحد غيره، وقوله: ﴿رَبُّكُمْ﴾ يعني أنه جل وعلا رب عباده الذي هو الخالق المالك المدبر؛ لأن الرب يجمع ثلاثة أوصاف: الخلق والملك والتدبير. ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر ٦٤] (تبارك): قيل معناه تعالى وتعاظم، وهذا المعنى قريب، لكن فيه أن تبارك أخص من ذلك، ومعنى تبارك: أنه ذو البركة العظيمة الثابتة، ولهذا لا يُطلق على غير الله بهذا المعنى، أي بمعنى أنه ذو البركة العظيمة الثابتة؛ لأن هذا الوصف لا يليق إلا بالله عز وجل، وأما يقوله بعض الناس كما سيأتي إن شاء الله في الفوائد فسنتكلم عليه، وقوله: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ رب هذه: عطف بيان أو صفة للفظ الجلالة، والعالمون: كل من سوى الله، كل الخلق عالمون، وسموا بذلك؛ لأنهم علم على خالقهم، ففي كل الخلق آية من آيات الله، كما قيل: ؎وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ∗∗∗ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ والربوبية هنا الربوبية العامة؛ لأنه أضافها إلى العالمين، فهي عامة شاملة. * في هذه الآية فوائد: أولًا: أن الله تعالى هو خالق الأرض لقوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ﴾ [غافر ٦٤]. * ومن الفوائد نعمة الله عز وجل علينا بكون الأرض ذات قرار؛ أي: مستقرة لا تميل. * ومن فوائدها أن الأرض لا تتحرك لقوله: ﴿قَرَارًا﴾، هكذا قال بعض العلماء، ولكن إذا قارنا هذه الآية بقوله تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل ١٥] تبين أن الاستدلال بهذه الآية على أن الأرض لا تتحرك فيه نظر، فيقال إذن: * من فوائد هذه الآية أن نعمة الله عز وجل علينا بكون الأرض لا تميد بنا ولا تضطرب بنا، ومن ثَمَّ نعرف الحكم على اختلاف الناس اليوم ما بين مؤيد ومُفَنِّد هل الأرض تتحرك أو لا تتحرك؟ فمن المعروف عند علماء الفلك أنها تتحرك، وهذا عندهم بمنزلة الأمور البدهيات اليقينيات التي لا تقبل الجدل، يقولون: إن الأرض تتحرك وتدور بذاتها دورانًا يختلف به الليل والنهار، وتدور دورانًا محوريًّا به تختلف الفصول، وليس عندهم في ذلك شك، ولا يجادلون في هذا. ومن العلماء من قال: لا، إنها لا تدور، بل هي ساكنة قارٌّةٌ، وأن اختلاف الليل والنهار إنما يكون بسبب دوران الشمس على الأرض، لا بسبب دوران الأرض، والذي يظهر لي أن القرآن الكريم ليس فيه شيء صريح بأنها تدور أو لا تدور، وهو إلى كونها تدور أقرب من كونها لا تدور؛ لأن نفي الأخص في قوله: ﴿أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ يقتضي وجود الأعم، كما قلنا في قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام ١٠٣] أن هذه الآية تدل على ثبوت رؤية الله عز وجل؛ لأن نفي الإدراك يدل على ثبوت أصل الرؤية، نفي الميدان يدل على وجود أصل الحركة. لكن الأمر الخطير فيما أرى: هل الشمس هي التي تدور على الأرض عند الطلوع والغروب أو لا؟ نحن نعتقد أنها هي التي تدور، ولا مانع من أن يكون هناك دوران للأرض ودوران للشمس، لا مانع؛ لأن ظواهر الكتاب والسنة كلها تدل على أن الشمس هي التي تطلع وتغرب وتميل وتزول وتزيغ وما أشبه ذلك، فقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف ١٧]، هذه أربعة أفعال كلها أضيفت إلى الشمس، والأصل أن ما أضيف إلى الشيء فهو فعله، وقال الله تبارك وتعالى في سور (ص): ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص ٣٢]، وقال تعالى في سورة الكهف: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ﴾ [الكهف ٨٦]، ﴿إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾ [الكهف ٩٠]، وقال النبي ﷺ لأبي ذر حين غربت الشمس: «أَتَدْرِي أَيْنَ ذَهَبَتْ؟» قال: الله ورسوله أعلم»[[أخرجه البخاري (٣١٩٩) واللفظ له، ومسلم (١٥٩) بسنديهما من حديث عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال النبي ﷺ: لأبي ذر حين غربت الشمس: «أتدري أين تذهب؟»، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد، فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يُقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: ﴿والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم﴾ [يس: ٣٨]".]]. فكل هذه الأفعال مضافة إلى الشمس نفسها، فكيف نعدل عن ظاهر هذا اللفظ إلى معنى آخر بدون أمر قطعي يكون لنا حجة عند الله عز وجل أن نخالف ظاهر كلامه، لكن من تبين له الأمر تبينًا واضحًا، ورأى أنه أمر قطعي يقيني بدهي -كما يقولون- فإنه يمكن أن تؤول الآيات بأن نسبة الطلوع إلى الشمس والغروب والذهاب باعتبار رأي العين لا باعتبار الواقع، لكني إلى الآن لم يتبين لي أن اختلاف الليل والنهار يكون بدوران الأرض، بل هو يكون بدوران الشمس، والله على كل شيء قدير. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن السماء مَبْنِيٌّ لقوله: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [غافر ٦٤] وهو كذلك، قال الله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ [النازعات ٢٧]، وقال: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [الذاريات ٤٧]، إذن فهي أجرام ولا شك في هذا، وهي أجرام محفوظة لا يمكن الولوج إليها إلا بعد إذن، ويدل لهذا أن أفضل الرسل البشرية محمد ﷺ وأفضل الرسل الملكية جبريل كلاهما لم يدخل السماء الدنيا وما بعدها إلا بعد استئذان، مما يدل على كمال حفظها. * ومن فوائد الآية الكريمة: منة الله تعالى علينا نحن البشر أن صورنا هذا التصوير البديع الذي هو أحسن الصور فقال: ﴿صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [غافر ٦٤]. * ومن فوائد الآية الكريمة: تحريم التصوير، يمكن أن يؤخذ منها تحريم التصوير؟ كيف ذلك؟ * طالب: (...) نسبة إلى الله تعالى. * الشيخ: يمكن أن نأخذ منها ذلك، فنقول: إن من صَوَّر فقد نازع الله تعالى فيما هو من اختصاصه وهو الخلق، ولهذا جاء في الحديث: «يُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»، وهذا هو الصحيح، أن التصوير حرام، بل هو من كبائر الذنوب؛ لأن النبي ﷺ لعن فاعله، ولكن هنا ثلاثة أمور: الأمر الأول: الصورة التمثالية، بمعنى أن يخلق الإنسان من الطين أو الخشب أو الحديد شيئًا على شكل صورة، هذه لا شك في تحريمها؛ «ولهذا قال في حديث علي ابن أبي طالب الذي رواه مسلم أنه قال لأبي الهياج: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ أَلَا تَدَع قبرًا مشرفًا إلا سويته ولا تمثالًا إلا طمسته»[[أخرجه مسلم (٩٦٩ / ٩٣).]] تمثالًا، ولا أعلم نزاعًا بين العلماء في تحريم ذلك. الثاني: ما كان بالرقم؛ أي: التصوير بالرقم، بمعنى أن الإنسان يصور بيده صورة، فهذه اختلف فيها السلف والخلف، فمنهم من قال: إنها لا تحرم، لقوله في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: «إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ»، وهذا رقم في ثوب فلا يحرم؛ ولأن هذا ليس شيئًا مُجسمًا حتى يطابق ما خلق الله عز وجل، إنما هو شكل فقط، والصورة التي صورها الله هي جسم محسوس ملموس يشاهد بالعين، وأما هذا فهو مجرد تلوين، فلا يدخل في الحديث، ولكن الجمهور على أنه داخل في الحديث، بدليل حديث النمرقة حديث عائشة رضي الله عنها «أن الرسول ﷺ جاء إلى بيته فلم يدخل من أجل صورة كانت في نمرقة جعلتها للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم»[[أخرج البخاري (٥٩٦١)، ومسلم (٢١٠٧/٩٦) عن عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نُمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله ﷺ قام على الباب فلم يدخل، فعرفت، أو فعرفت في وجهه الكراهية، فقالت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله فماذا أذنبت؟ فقال رسول الله ﷺ: «ما بال هذه النمرقة؟»، فقالت: اشتريتها لك، تقعد عليها وتوسدها، فقال رسول الله ﷺ: «إن أصحاب هذه الصور يُعذبون، ويُقال لهم: أحيوا ما خلقتم»، ثم قال: «إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة».]]، وهذا هو الصحيح أن التصوير برسم اليد حرام وداخل في اللعن، ولا يحل لأحد أن يقوم به. الثالث: ما كان تصويرًا بالالتقاط وليس باليد، وذلك ما يُعرف بالتصوير الفوتوغرافي الذي ليس للإنسان فيه أي عمل، بل هو شيء يتمثل أمام هذا الضوء المعين فينطبع، وليس للإنسان فيه أي عمل سوى تحريك الآلة التي تقوم بالتقاط هذه الصورة، فهذا مختلف فيه اختلافًا كبيرًا بين المتأخرين؛ لأنه لم يظهر إلا أخيرًا فاختلفوا فيه، والذي يتبين لي أنه لا يدخل في التصوير؛ لأن هذا لم يخلق بيده كما خلق الله عز وجل، لم يشكل العين ولا الأنف ولا الفم ولا الشفة ولا أي شيء، غاية ما هنالك أن هذا الضوء انعكس على هذه الصورة فانطبعت، فهو بمنزلة ما لو شاهدت المرآة فرأيت صورتك فيها، إلا أن الفرق أن هذا يثبت وما في المرآة يزول بزواله، ولهذا نسمي صورة الناظر في المرآة نسميها صورة، وهي بالاتفاق لا تدخل في التصوير المنهي عنه. لكن يبقى النظر لماذا صور هذا الإنسان؟ يعني الآن تقرر عندي أن هذا التصوير مباح، لكن لماذا صَوَّر؟ نقول: نجري على هذا ما نجريه على سائر المباحات، وهو أنه إذا كان لغرض مقصود فهو مباح، وإذا كان لغرض محرم فهو حرام، فلو أن إنسانًا صور صورة امرأة أجنبية من أجل أن يتلذذ برؤيتها كلما سنحت له الفرصة لقلنا: هذا حرام لا شك، ولو أراد أن يصور صورة عظيم ليعلقها في بيته قلنا: هذا حرام، ولو أراد أن يصور صورة أبيه أو أخيه أو عمه أو صديقه من أجل أن يتسلى به عند المصائب لقلنا: هذا حرام، فيكون هذا المباح حكمه حكم الغرض الذي من أجله صور، هذا ما يظهر لي حول هذه المسألة، والناس فيها بين متهاون وبين متشدد، والذي يظهر لي والله أعلم هو هذا. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: منة الله عز وجل برزقه إيانا من الطيبات؛ لقوله: ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ [غافر ٦٤]، ذكرنا أن المراد بالطيبات هنا اللذائذ، ليشمل الرزق العام والخاص، وليُعْلَم أن الرزق ينقسم إلى قسمين: رزق عام، ورزق خاص، فالعام: كل ما ينتفع به الإنسان فهو رزق، كما قال السفاريني -رحمه لله: والرزق ما ينفع من حلال وضده. وهو الحرام، هذا رزق عام، يستوي فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر والمكتسب عن طريقٍ حلال والمكتسب عن طريقٍ حرام، كل هذا رزق، وعلى هذا فالمسروق بالنسبة للسارق رزق، لكنه رزق وإن تمتع به في الدنيا فسيكون عليه وبالًا في الآخرة. أما النوع الثاني من الرزق: فهو الرزق الطيب الحلال، وهذا هو الرزق الخاص، وهو الطيب الحلال، وهو خاص بالمؤمن، وعلى هذا فالكافر ليس له رزق خاص إطلاقًا، حتى لو اكتسبه عن طريق حلال فليس رزقًا خاصًّا، بل داخل في العموم، لقول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الأعراف ٣٢]، ولغير الذين آمنوا؟ ليست لهم، ولهذا نقول: الكافر يحاسب على كل لقمة أكلها وكل جغمة شربها يُحاسب عليها يوم القيامة. بل إن من الخطر أن يُحاسب المؤمن على الطيبات إلا بالشروط التي ذكر الله: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا﴾ [المائدة ٩٣] شروط ثقيلة لحل الرزق مع أنه طيب، نسأل الله أن يعيننا على تحقيق هذه الشروط، إذن الكافر لا يمكن أن يكون في حقه زرق خاص، لا يمكن، كل الرزق وإن كان طيبًا فهو عام بالنسبة له؛ لأنه يُحاسب عليه، أما المؤمن فينقسم الرزق في حقه إلى خاص وعام، فما أثم به فهو من العام، وما لم يأثم به فهو من الخاص. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان أن ربوبية الله عز وجل مبنية على الرحمة؛ لقوله: ﴿ذَلِكُمُ﴾ أي: الذي أعطاكم هذه الأشياء الأربعة ﴿اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾، فربوبية الله عز وجل مبينة على الرحمة، ويدل لهذا قوله تعالى في سورة الفاتحة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة ٢، ٣] فربوبيته عز وجل مبنية على الرحمة والرأفة. فإن قال قائل: ينتقض عليكم هذا بما يحصل في الحياة الدنيا من المنغصات التي تؤذي الإنسان وربما تضره؟ قلنا هذه رحمة، هذه بالنسبة للمؤمن رحمة، كيف ذلك؟ لأنها مكفرة للذنوب: «لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ شَيْءٌ مِنْ هَمٍّ أَوْ غَمٍّ أَوْ أَذَى إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا»[[أخرج البخاري (٥٦٤٠)، ومسلم (٢٥٧٢)، بسنديهما عن عائشة رضي الله عنهما، أن رسول الله ﷺ، قال: «ما من مصيبة يُصاب بها المسلم، إلا كفر بها عنه حتى الشوكة يشاكها».]] إذن فهي رحمة؛ لأنها تكفر السيئات، ومع احتساب الأجر على الله عز وجل تكون حسنات؛ لأن ترقب ثواب الله واحتساب الأجر على الله عمل صالح يثاب عليه المرء، وهذا الأذى أو هذا الضرر الذي ينال العبد عرض يزول، أليس كذلك؟ ولهذا لو رجعت إلى الوراء في تفكيرك لوجدت أنه مر بك أشياء كثيرة من الأذى وأشياء كثيرة من الضرر فزالت وكأنها لم تكن، إذن الثواب الذي حصل وتكفير السيئات الذي حصل هو خير من هذه الأذية وهذه الأضرار فتكون بذلك رحمة، فلا تخرج عن نطاق الرحمة في الربوبية. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان عظمة الله عز وجل في قوله: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر ٦٤]، وقد استنبط بعض العلماء من هذا أن اسم الله عز وجل تُنال به البركة، واستشهد لذلك بقوله: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ بِبِاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ»[[أخرجه الخطيب في الجامع (١٢١٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، وهذا ليس ببعيد، وإن كان فيه شيء من الركاكة. * ومن فوائد الآية الكريمة: عموم ربوبية الله عز وجل لقوله: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾. ويتفرع على ذلك أنه يجب أن يقوى اعتماد الإنسان على الله في جلب المنافع ودفع المضار؛ لأنه إذا كان رب العالمين عز وجل فهو مسيطر على كل العالمين، وله السلطان على كل العالمين. ويتفرع على ذلك أيضًا مسألة أخرى: وهي اللجوء إلى الله عز وجل عند حصول المضايقات من بني آدم أو غير بني آدم؛ لأنه سبحانه رب العالمين بيده الأمر، فهو القادر على أن يعصم الإنسان من الأسد الضاري المهاجم، وإن كان الإنسان لا يستطيعه بمجرد قدرته لكن الله تعالى قد يصرفه عنه. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات الربوبية العامة لقوله: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، وهناك ربوبية خاصة وربوبية أخص، وقد اجتمع النوعان في قوله تعالى عن سحرة آل فرعون: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الأعراف ١٢١، ١٢٢] إذن ربوبية الله العامة شامله للمؤمن والكافر والبر والفاجر، الربوبية الخاصة للمؤمنين، الربوبية التي هي أخص للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبهذا نعرف أن من صفات الله سبحانه وتعالى ما يكون عامًّا وخاصًّا وأخص. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن كل المخلوقات آية على الله لقوله: ﴿الْعَالَمِينَ﴾، وقد قلنا: إنهم سموا بذلك؛ لأنهم عَلَمٌ على خالقهم جل وعلا، والله أعلم. * طالب: يا شيخ، ما الجمع بين «إخباره عليه الصلاة والسلام أن الشمس تسجد كل غروب عند العرش، ثم بعد ذلك تستأذن ربها في أن تشرق فيأذن لها»، وما قرره العلم الحديث أن الشمس لا يمكن أن تغرب أبدًا، فهي كل لحظة إما أن تشرق على ناس أو تغرب على آخرين، وأنه في شمال الكرة الأرضية الشمس ستة أشهر كاملة لا تغرب وستة أشهر كاملة غائبة غير موجودة؟ * الشيخ: إي نعم، نحن ذكرنا قاعدة أن الأمور الغيبية التي لا يدركها الحس تُبقى على ظاهرها، ولا يقال: كيف نجمع؟ لأن هذا أمر لا ندركه حتى نجمع، فنقول كما قال الرسول ﷺ إنها إذا غربت تسجد، ولم يقل الرسول ﷺ كلما غربت في أي مكان، قد يكون سجودها إذا غربت عن هذا الوجه -وجه الأرض الذي فيه الحرمان- بخلاف ما إذا غابت على وجه آخر، لا ندري، فنحن نقول كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، ونقيد الزمن بما قيده الرسول ﷺ؛ يعني إذا غابت عن المدينة حصل هذا، وهذا أمر ممكن محتمل؛ لأن أفضل وجه الأرض هو هذا الوجه الذي فيه المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى. * طالب: يا شيخ، أحيانًا لا يتمكن الخاطب من رؤية مخطوبته فهل رؤيته صورة لها يكون مباحًا؟ * الشيخ: من السنة أن ينظر الخاطب إلى مخطوبته بالشروط المرعية المعروفة عند العلماء، فهل تقوم الصورة مقام النظر؟ لا تقوم مقام النظر، ولا فائدة منها، أولًا: لأنك كثيرًا ما ترى صورة شخص في مجلة أو صحيفة ثم إذا رأيت الرجل بنفسه وجدته يختلف، وهذا شيء مجرب ومشاهد، هذه واحدة. الشيء الثاني: ربما تكون هذه المرأة عند التقاط الصورة لها على أحسن جمال أو تجميل بمكياج وكحل وما أشبه ذلك، فتُصَوَّر على هذا الوجه وتعطى الخاطب، فإذا نظرها على الطبيعة -كما يقولون- وجد خلاف ذلك، وجد أنها لا عين.. عند التقاط الصورة لها على أحسن جمال أو تجميل بمكياج وكحل وما أشبه ذلك، فتُصَوَّر على هذا الوجه وتُعْطى الخاطب، فإذا نظرها على الطبيعة -كما يقولون- وجد خلاف ذلك، وجد أنها لا عين ولا وجه، وحينئذٍ يحصل البلاء، فالذي نرى أنه يحرم أن يتبادل الخطيبان الصور. ثم إن هذه الصورة قد تبقى عند الخاطب أو عند المخطوبة أيضًا ولو بعد إطلاق الخِطبة، يتمتع بالنظر إليها متى شاء، وهي أيضًا تتمتع بالنظر إليه متى شاءت. * طالب: شيخ بارك الله فيكم، ذكرتم في موضوع الصور حبس الضوء؛ يعني الكاميرا التي تحبس الضوء وتخرج الصورة فورًا، طيب هنالك كاميرا هي تحبس الضوء بالفعل، كاميرا أخرى، ويصنع عملية تسمى الرطوش، الرطوش هذه (...) المصور بقلم رصاص ويغيِّر في بعض الصورة ما شاء، يعني إذا أراد.. * الشيخ: تجميل يعني؟ * الطالب: نعم، ما رأيكم يا شيخ؟ * الشيخ: الظاهر أن هذه تدخل في التحريم؛ لأن له عملًا في شكل الصورة. * طالب: الناس إذا (...) ما يحرم من باب سد الذريعة، الآن الناس في التصوير وفي غيره -كالتلفزيون- يستخدمونه تسعة وتسعين في المئة فيما لا يُباح، فلماذا لا يقال بالتحريم سدًّا للذريعة، ويُباح للضرورة مثل البطاقات وما أشبه ذلك؟ * الشيخ: نحن نتكلم عن التصوير من حيث هو تصوير، لا عن المصوِّر، المصوِّر هو ونيته؛ إذا كانت نيته سيئة فهو حرام، إذا كانت غير سيئة فهو حلال. * طالب: شيخ، بعض الصغار صغار السن؛ يعني غير مكلفين، يرسمون رسومات لأناس، فهل مثلاً نقول: إن هذا يحرم عليهم كما يحرم على الكبار على القاعدة المطردة؟ * الشيخ: إي نعم، ما حرم على الكبار حرم على الصغار، لكن الصغير لا يؤاخذ عليه، وإنما يؤاخذ عليه وليُّه حيث لم يمنعه منه، ثم هناك أشياء يمكن يتسلى بها الإنسان غير صور الحيوان؛ شجر، جبال، نجوم، شمس، أنهار، بناء، ممكن، لكن بلاء، يعني: الشيطان زيَّن للناس سوء العمل، أمرهم أن يصنعوا هذا الشيء المشتبه أو الذي هو محرَّم بلا اشتباه، ويعدلوا عن شيء مباح، الآن في بعض المصنوعات ما هو جميل والإنسان يتمتع بالنظر إليه، وهو مصنوع؛ سيارة، قلم، ساعة، وغير ذلك، فلماذا نعدل إلى الشيء الذي فيه اشتباه أو إلى شيء محرَّم لا اشتباه فيه عن شيء مباح؟!
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب