﴿وَقَالَ ٱلَّذِیۤ ءَامَنَ یَـٰقَوۡمِ إِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُم مِّثۡلَ یَوۡمِ ٱلۡأَحۡزَابِ ٣٠ مِثۡلَ دَأۡبِ قَوۡمِ نُوحࣲ وَعَادࣲ وَثَمُودَ وَٱلَّذِینَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ وَمَا ٱللَّهُ یُرِیدُ ظُلۡمࣰا لِّلۡعِبَادِ ٣١﴾ [غافر ٣٠-٣١]
ثم قال:
﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ [غافر ٣٠]، في الأول قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، وهنا قال:
﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ﴾، فنقول: لماذا كرر هذا الوصف لهذا الرجل؟ لطول الحديث والفصل، قال:
﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ﴾ أما اختلاف الجملتين فإن الثانية تؤكد الأولى بأن هذا الرجل قد اصطبغ في الإيمان وحقق الإيمان.
﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾ (يا قوم): يعني بذلك فرعون وقومه، وهذا من باب التلطف في المقال،
﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾ يعني: الطوائف السابقة، وكأن هذا الرجل الملهم عنده علم بأحوال الأمم السابقة، وسيأتي إن شاء الله الكلام على فائدة هذه الجملة.
﴿مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾ أي يوم حزب بعد حزب، ثم أبدل منه قوله:
﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ [غافر ٣١] دأب: بمعنى عادة، وذكر قوم نوح؛ لأنه هو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض
﴿وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ [غافر ٣١]، وكل هؤلاء متقدمون، بعيدو العهد قبل موسى وقبل فرعون، فهم من أوائل الرسل.
﴿قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ﴾ (عاد) معطوفة على أيش؟
* طلبة: قوم.
* الشيخ: على (قوم)، ولا يصح أن تكون معطوفة على (نوح)؛ لأنها لو كانت معطوفة على (نوح) لكان المعنى: مثل قوم عاد، ولا يستقيم الكلام، بل مثل عاد، وهم قوم هود، وثمود قوم صالح.﴿وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [غافر ٣١] من الأمم، وسيأتي أنه أشار إلى يوسف عليه الصلاة والسلام بن يعقوب بن إبراهيم.
يقول: (مثل بدل من مثل قبله، أي مثل جزاء عادة من كفر قبلكم من تعذيبهم في الدنيا) إذن (مثل دأب) ما هو مثل عادتهم، إلا إذا أريد إضافتها إلى المفعول به؛ أي مثل العادة التي أوقعها الله بهم، لكن كأن المؤلف جعلها مضافة إلى الفاعل، وأنها على تقدير مثل جزاء عادتهم؛ لأن الجزاء من الله، والعادة من هؤلاء الأقوام من الأحزاب، العادة عادة الأحزاب، والعقوبة عقوبة الله، فإما أن نقول إن الكلام على تقدير مثل عقوبة عادة قوم نوح إلى آخره، أو نقول مثل دأب قوم نوح؛ أي مثل العادة التي فعلها الله بهم، والمعنى واحد، المراد أنه يخاف عليهم مثل هذه الأيام التي هي عقوبة لهؤلاء الذين كذبوا رسلهم.
﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ [غافر ٣١] ما: نافية تعمل عمل ليس لتمام الشروط، ولفظ الجلالة اسمها، ويريد جملة هي خبرها، ولو كانت اسمًا لكان التقدير: وما الله مريدًا
﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ الظلم يتناول شيئين: إما الزيادة في الآثام وإما النقص في الحسنات، وكله ممتنع بالنسبة لله عز وجل، لا يمكن أن يقع منه ولا يمكن أن يريده، لماذا؟ لكمال عدله.
* في هذه الآية من الفوائد: شدة خوف هذا الرجل من عقاب الله، وهذا يدل على كمال إيمانه؛ لأنه لا يخاف أحد من شيء إلا وهو مؤمن به.
* ومن فوائدها أن عند هذا الرجل علمًا من نبأ الأولين لقوله: ﴿مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ [غافر ٣٠، ٣١] إلى آخره.
* ومن فوائدها أنه ينبغي للإنسان أن يكون عنده علم بأحوال الأمم السابقة من أجل أن يكون معتبرا بمن مضى فيمن بقي، وعلى هذا فعلم التاريخ علم مهم، ولكن يجب أن نعلم أن التاريخ أصابه شيء من الوضع؛ أي من التحريف والتغيير والكذب والزيادة والنقص، فعلى الإنسان أن يحتاط في ذلك، عليه أن يحتاط في هذا حتى لا ينقل أو لا يروي إلا الصحيح.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن قوم نوح وعاد وثمود كانوا أول الأحزاب لقوله: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [غافر ٣١].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: انتفاء إرادة الظلم عن الله عز وجل لقوله: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا﴾ [غافر ٣١] وإذا انتفت الإرادة انتفى الفعل قطعًا؛ لأن الله تعالى يفعل ما يريد، فإذا لم يرد الظلم انتفى الظلم.على أنه في آيات أخرى نفى الظلم نفسه، فقال:
﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف ٤٩]، وقال:
﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت ٤٦]، وقال:
﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق ٢٩]، فيكون الله تعالى قد نفى الظلم عن نفسه، ونفى إرادة الظلم، وذلك لكمال عدله.
وهذه الصفة من الصفات التي يسمونها الصفات السلبية أو الصفات المنفية، ولدينا قاعدة في باب الأسماء والصفات أن النفي المحض لا يوجد في صفات الله أبدًا كل نفي في صفات الله فإنه يتضمن شيئين، أحدهما: نفي ما نُفِي عن الله، والثاني: إثبات كمال ضده، فيُقال: لا يظلم لكمال عدله، وإن شئت فقل: لكمال عدله لا يظلم؛ لأن العدل إذا لم يكن عدله كاملًا قد يظلم في بعض الأشياء، أما الرب عز وجل فإن عدله كامل لا يمكن أن يدخله ظلم بأي وجه من الوجوه.
وهذا الظلم المنفي عن الله لكمال العدل، هل هو مستحيل لذاته أو جائز لكنه مستحيل على الله تعالى لكماله؟
* طلبة: الثاني.
* الشيخ: الثاني، خلافًا للجهمية الذين قالوا: إن الظلم مستحيل على الله لذات الظلم؛ لأنه إذا كان مستحيلًا لذاته لم يكن مدحًا، ما يُمدح من استحال عليه على ذلك؛ لأنه مستحيل، وهم يقولون: إنه مستحيل لذاته؛ لأن الخلق كلهم ملكه، ويفعل في ملكه ما يشاء، ومن تصرف في ملكه فإنه لا يُقال: إنه ظالم، ولو قَدَّم شيئا على شيء أو نقص شيئًا عن حقه، ولكننا نقول: إن الله تعالى صرح بأنه حرم الظلم على نفسه، وهذا يدل على أن الظلم في حقه ممكن عقلًا، لكنه حرمه على نفسه لكمال عدله.والخلاصة أن من قواعد الأسماء والصفات أنه لا يوجد النفي المحض في صفات الله، بل لا يوجد نفي في صفات الله إلا لكمال ضده:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق ٣٨] لماذا؟ لكمال قوته، لا لأن اللغوب لا يلحقه، لكن لكمال قوته لا يلحقه اللغوب، وليس المعنى أنه ليس مما يمكن أن يلحقه لغوب، لا، لكنه مستحيل لكمال قوته.
قال أهل العلم: وإنما قلنا بذلك؛ لأن النفي المحض عدمٌ محضٌ، صحيح أو لا؟ النفي المحض لو نفيتَ شيئًا معناه أنه غير موجود، والعدم المحض ليس بشيء، فضلًا عن أن يكون مدحًا؛ لأنه عدم، والعدم ما يُمدح عليه.
وإما أن يكون النفي متضمنًا لإثبات، هذا الإثبات قد يكون عجزًا، فمثلًا إذا قلنا: فلان لا يظلم؛ لأنه غير قادر على الظلم، فليس هذا يعني أننا مدحناه، بل هذا ذم له كقول الشاعر:
قُبَيِّلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ وَلَا ∗∗∗ يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
أول ما تسمع هذا الكلام تقول: ما شاء الله، هؤلاء أوفياء ذوو عدل، لكنه في الواقع ذم، يقول: إن هؤلاء ما يقدر الواحد منهم أن يغدر، ولا يقدر أن يظلم، والثاني يقول:
لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ ∗∗∗ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا؎يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً ∗∗∗ وَمِـــنْ إِسَــاءَةِ أَهْلِ الـــسُّوءِإِحْــسَــانَا
يعني أنه إذا أساء إليهم الإنسان أحسنوا إليه، وإذا أساء إليهم غفروا له وتجاوزوا عنه، لكن لكمال إحسانهم وكمال عفوهم أو لعجزهم؟ لعجزهم، ولهذا قال:
فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْمًا إِذَا رَكِبُوا ∗∗∗ شَنُّوا الْإِغَارَةَ فُرْسَانًاوَرُكْبَانَا
ليت لي بهم: أي بدلهم، وهذا يدل على أنه ذمهم ذمًّا عظيمًا.
وقد يكون النفي لعدم صلاحية هذا الوصف لما نُفي عنهم، قد يكون نفي الشيء عن الشيء؛ لأنه غير قابل وغير صالح لأنْ يوصف به، كما إذا قلت: الجدار لا يظلم، هل هذا مدح للجدار؟
* طالب: لا.
* الشيخ: ليش؟
* الطالب: لأنه غير صالح ولا..
* الشيخ: لأنه غير قابل ولا صالح للظلم أو عدم الظلم، فتبين بذلك أن الله تعالى لا ينفي عن نفسه شيئا إلا لكمال ضد هذا المنفي، لا لأنه غير قابل له أو غير صالح في حقه أو ما أشبه ذلك من الناحية العقلية.﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ [غافر ٣١] إذن نستفيد من هذا نفي إرادة الظلم عن الله لكمال عدله.
(...)
* طالب: كيف استنبطنا يا شيخ من الآية أنها إشارة إلى يوسف؟
* الشيخ: مذكورة في هذا، هو سيقول: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [غافر ٣٤].
* طالب: هل يستدل بقول موسى لفرعون: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء ١٠٢]، هل استدل بذلك على الإغلاظ في الدعوة؟
* الشيخ: هو الإغلاظ في محله طيب؛ لأنه هو قال له كلمة أشد من هذه، قال: ﴿إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾ [الإسراء ١٠١] فهل يغلظ له بالقول ويسكت؟! وموسى عليه الصلاة والسلام معروف بالقوة.
* الطالب: يا شيخ، من باب التلطف الداعية يقول: وإني أكثركم تقصيرًا، فيظن ضعاف النفوس الجهال فيقولون: ما دام هذا الداعية أو هذا الشيخ كثير التقصير نحن إذن من باب أولى، ثم يصيبهم ما يصيبهم.
* الشيخ: على كل حال هذه الكلمة ينبغي للإنسان أن ينظر في مصلحتها، وإلا فقد قالها عمر بن عبد العزيز رحمه الله في آخر خطبة خطبها، قال: إني لأقول لكم هذا وما أعلم أحدًا عنده من التقصير -أو قال: من الذنوب- أكثر مما عندي. هي في الحقيقة قد تكون مشجعة وقد تكون مخذلة، قد يقول قائل: إذا كان هذا الرجل الداعية العابد مقصرًا كيف بنا نحن، إذن فلنشمِّر عن ساعد الجد، وقد تكون كما قلت، فيه سلاح ذو حدين، فلينظر الإنسان للمصلحة، والإنسان أحيانًا يقول مثل هذا؛ لأنه يخشى على نفسه من العجب.
* طالب: قلتم يا شيخ من قبل: لا ينبغي أن يزوج ابنته من فاسق ويقول: لعل الله أن يهديه، لو حصل العكس وأراد الرجل أن يتزوج بامرأة غير مستقيمة، وقال: لعل الله أن يهديها بي وإلا طلقتها.
* الشيخ: نفس الشيء، لا، ما هو إلا طلقتها، قد يكون الإنسان عنده عزم في هذا أول الأمر، لكن إذا تزوجها ورغب فيها عصفته، جذب النساء للرجال ما هو هين.
* الطالب: لو ظن فيها قبول الدعوة؟
* الشيخ: كلمة الظن هذه غير واردة في الواقع، ولذلك أنت غير مكلف إلا بما بين يديك، حتى لو أخلفت الأمور فيما بعد فأنت مجتهد ولا لوم عليك ولا إثم عليك، لكن عليك إثم أنك تقدم على شيء تعرف أنه الآن غير صالح لكن رجاء أن يصلح، هذا خطأ.والمرأة ربما تغلب الرجل، إذا أحبها حبًّا شديدًا ربما تقول له: اسجد لي، يقول: ما هو الله أكبر أنتِ أكبر، ألم تعلم أنه ذكر أحد العلماء -نسيت من هو- قال: إن مؤذنًا دعت عليه أمه بدعوة، وكان رجلًا صالحًا، فلما صعد إلى المنارة يؤذن وإذا بامرأة نصرانية في سطح بيتها جميلة، فأخذت بلُبِّه، فأرسل إليها يخطبها، فقالت: لا يمكن إلا إذا كنت نصرانيًّا، حاول، قالت: أبدًا، فتنصَّر، والعياذ بالله، صار نصرانيًّا، ارتد عن الإسلام الآن، فأعاد الخطبة قالت: الآن أنت لست مسلمًا ولا نصرانيًّا فلا أَحِلُّ لك، يعني هذا الرجل -نسأل الله العافية- ارتد عن دينه من أجل هذه المرأة، وصارت هذه المرأة كيدها أعظم من كيده، قالت له: لست مسلمًا ولا نصرانيًّا، والنصرانية لا تحل إلا للمسلم أو النصراني ارجع وراءك؛ نسأل الله العافية.
* طالب: يا شيخ أحسن الله إليك، ذكرتم قاعدة وقلتم النفي المحض لا يوجد في صفات الله، وكل نفي في صفات الله تضمن شيئين..
* الشيخ: الشيء الأول: نفي الصفة، والثاني: إثبات كمال ضدها.
* طالب: (...).
* الشيخ: ما هي المشكلة؟
* الطالب: اتخاذهم فرعون (...).
* الشيخ: أبدًا (...).
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا، يقولون بأن لهم ربًّا، لكن ربهم فرعون.
* الطالب: يعني يؤمنون بالربوبية.
* الشيخ: لفرعون.
* الطالب: لا لله.
* الشيخ: لا لله.
* الطالب: يعتبرون موحدين بالربوبية؟
* الشيخ: إي معلوم، موحدين بربوبية فرعون، عندهم توحيد فرعون ولّا لا؟
* طالب: إي نعم.
* الشيخ: (...)، أيش تقولون يا جماعة؟
* طلبة: لا، ما عندهم توحيد.
* الشيخ: ما عندهم توحيد، التوحيد هو توحيد رب العالمين، أما توحيد فرعون أو غيره فلا.
* الطالب: (...) الأنبياء والصالحين في القرآن، هل هي بنصها؟
* الشيخ: يعني باللفظ نفسه لا، ما هي بلفظها، بالمعنى، ولهذا تجد العبارات مختلفة، مما يدل على أن الله تعالى ينقلها بالمعنى، وإن أضافها إليهم قولًا لكن بالمعنى، ثم هم أيضًا لغتهم غير عربية.
* الطالب: بعض الآيات التي يحكي فيها الله عز وجل عن إنسان أو أحد مثل قوله عز وجل: ﴿أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا﴾ [الكهف ٣٩] هل يقول الإنسان: قال الله تعالى حاكيًا عن رجل، أو يقول: قال الله تعالى: ﴿أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا﴾؟
* الشيخ: لا، يقول: حاكيًا؛ لأنه قد يوهم أن الضمير يعود على الله.
* طالب: إذا كان الزوج كافرًا والزوجة مسلمة (...) فرعون وزوجته؟
* الشيخ: هذا الإشكال صحيح، يقول: هل يجوز للكافر أن يتزوج مؤمنة؟فنقول: لا، فأورد علينا إشكالًا وهو أن امرأة فرعون كانت مؤمنة لا شك، وهو أكفر الكافرين.
الجواب: أن هذا شرع من قبلنا، أما شرعنا فلا، وتعرف القاعدة في الأصول: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه. هذا وجه، ومن وجه آخر قد يُقال: إن فرعون أكرهها على ذلك، وأنها لا تحبه، ولهذا تقول:
﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [التحريم ١١] لكن هو ظالم ولا يبالي.
* طالب: يا شيخ ذكرت أنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج امرأة مسلمة غير ملتزمة؟
* الشيخ: أنا قلت هذا؟! أعوذ بالله.
* الطالب: لا يجوز، لا يُستحب.
* الشيخ: بس فرق بين لا يجوز ولا يستحب، أنتم طلبتي وتعرفون كلامي وتعرفون أسلوبي، إذا نقلتم عني أنه لا يجوز للفاسق أن يتزوج مسلمة هذه داهية، معناه: ما نزوج أحدا أبدًا؛ لأن أكثر الناس فُسَّاق، عَدِّل العبارة.
* الطالب: لا يستحب له أن يتزوج المرأة غير الملتزمة؛ لأنها قد ترجعه إلى طريقتها.
* الشيخ: هذا صحيح، ولهذا قال النبي ﷺ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ»، ثم قال في النهاية: «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»(١).
* طالب: (...).
* الشيخ: ويش الإشكال؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: «إن الله إذا عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم»(٢).
* * *
* طالب: ﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر ٣٤، ٣٥].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ وقبل البدء في التفسير نقدم مقدمة نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها.فنقول: إن من نعمة الله سبحانه وتعالى على العبد أن يحبب إليه العلم، وذلك لأن العلم الشرعي مفتاح كل خير؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
«مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»(٣) وهذه بشرى لكل من فقهه الله في دينه وعلمه أن الله أراد به خيرًا.
والفقه في الدين هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها، ثم تطبيق هذه الأحكام التي علمها؛ لأن من لم يطبق فليس بفقيه، بل هو قارئ، ولهذا
«حذر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من أن يكثر القراء ويقل الفقهاء»(٤)؛ فالفقيه في دين الله هو الذي يعلم شريعة الله ثم يطبقها على نفسه وعلى غيره بقدر استطاعته.
وطالب العلم عليه مسؤولية كبيرة؛ لأنه واسطة بين الخلق وبين الرسول ﷺ، إذ أنه ينقل شريعة الرسول ﷺ إلى أمته، ولهذا يجب أن يكون أسوة حسنة في عباداته وأخلاقه ومعاملاته؛ لأنه إذا كان أسوة حسنة في ذلك فقد أثمر العلم في حقه ثمراته الجليلة؛ ولأنه إذا كان أسوة للنبي ﷺ في ذلك أحبه الناس، وألفوه واقتدوا به، وصار إمامًا، وإن لم يكن إمامًا كبيرًا ولكنه إمام بحسب حاله، وكلما ازداد الإنسان علمًا وتمسكًا بما علم ازداد احترام الناس له واقتداؤهم به، وجعلهم إياه أسوة.
ثم إن طالب العلم يجب عليه الإخلاص لله عز وجل في طلبه؛ لأن الإخلاص هو أهم شيء، وهو الذي يكون به تحقيق ما أراده العبد، والإخلاص لله في طلب العلم أشار الإمام أحمد رحمه الله إلى شيء منه فقال: العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته. قالوا: وبم تصحيح النية؟ قال: ينوي بذلك رفع الجهل عن نفسه وعن غيره.
وهذا لا شك أنه من تصحيح النية، لكنه ليس كله تصحيح النية، بل هناك أشياء تجب ملاحظتها أيضًا، وذلك بأن ينوي بطلب العلم امتثال أمر الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله أمر بالعلم ورغب فيه فقال تعالى:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد ١٩]، وقال تعالى:
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة ١١]، وهذا شيء مشاهد، بينوا لي تاجرًا من أكبر التجار في عهد الأئمة الأربعة حصل له من رفع الذكر ما حصل لهؤلاء الأئمة الأربعة، لن تجدوا إلى ذلك سبيلًا، فأهل العلم مرفوعون عند الله، ومرفوعون عند العباد، مرفوعون في حياتهم، مرفوعون بعد مماتهم، حتى وإن نال أحدًا منه ما يناله من التعذيب أو المضايقة أو ما أشبه ذلك فإنه يزداد بذلك رفعة عند الله، ورفعة عند العباد.
فأنت إذا نويت بطلبك للعلم امتثال أمر الله صارت كل حركة تتحركها في هذا المجال عبادة، إن راجعت الدرس فعبادة، وإن حفظت فعبادة، وإن مشيت فعبادة،
«وقد ثبت عن النبي ﷺ أن «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ»(٥)، وهذه مسألة تغيب عنا كثيرًا، كثيرًا ما نراجع الكتب لتحقيق مسألة ما، ولكن يغيب عنا أننا الآن في عبادة نرجو بها ثواب الله، لكن إذا استحضر طالب العلم أنه يمتثل أمر الله سبحانه وتعالى بطلبه العلم، صار طلبه للعلم عبادة.
الثاني: أن ينوي بطلب العلم حفظ الشريعة؛ لأن الشريعة تُحفظ برجالها، ولهذا قال النبي ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَم يِجِدِ النَّاسُ عُلَمَاءَ يَسْتَفْتُونَهُمْ اسْتَفْتَوْا أُنَاسًا جُهَّالًا فَأَفْتُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»(٦) إذن حفظ الشريعة يكون بالعلماء، برجالها، فانْوِ بطلبك العلم حفظ الشريعة، ونعم الرجل أنت إذا كنت خزانة لشريعة الله عز وجل.
الثالث: أن ينوي بهذا -أي: بطلبه العلم- حماية الشريعة والذود عنها؛ لأن الشريعة لها أعداء معلنون بعداوتهم، وأعداء يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول، فلها أعداء، فأنت انْوِ بطلبك العلم حماية الشريعة والدفاع عنها، وإذا كان هذا مقصود طالب العلم فإنه سوف يختار الجهة التي يكون غزو أعداء المسلمين من ناحيتها، وعلى هذا يجب أن يكون على علم بما يجري في الساحة من الأفكار الرديئة أو العقائد الفاسدة، ونضرب مثلًا بوقت من الأوقات، مر على الناس وهم لا يعرفون مذاهب أهل التعطيل، ولا يعرفون الأفكار المنحرفة الهدامة؛ لأنهم لم يخرجوا من بلادهم، ولم يَفِد عليهم أحد من غيرهم، فهم ملتفون على علمائهم ولا يعرفون إلا الحق، هؤلاء لا يهمهم أن يشتغلوا بأمور أخرى من وسائل العلم أو الدفاع عن الشريعة؛ لأنهم آمنون، لكن إذا جاء العدو فلا بد أن نستعد له، وأن يكون استعدادنا بسلاح مناسب لسلاحهم، فمن المعلوم مثلًا أن من هاجمك بالمدافع والصواريخ لا يصح ولا يستقيم أن تدافعه بما يسمى بالسلاح الأبيض بالخناجر والسيوف وما أشبهها؛ لأن الواجب أن تستعد لكل عدو بما يناسب سلاحه.
فالآن صار في الساحة أفكار رديئة خبيثة إن لم تكن ملحدة فهي إلى الإلحاد أقرب من الاعتدال، ولا حاجة إلى التخصيص؛ لأنه معلوم عند كثير منكم.
نحتاج أن نعرف هذه الأفكار وكيف نبطلها، وإني أقول لكم: إن جميع الأفكار المنحرفة إبطالها سهل جدًّا، حتى وإن هولوا الأمر وإن ضخموه فهم كالإسفنج، اعصره بيدك يخرج كل ما فيه، ولا تتهيبوا؛ لأنهم ليس عندهم علم مسموع، ولا عقل مصنوع، فلا بد أن الإنسان إذا كان قد نوى بطلب العلم حماية الشريعة والدفاع عنها لا بد أن يعرف ما يكون في الساحة، حتى يستطيع أن يدافع، ولكل مقام مقال، ولكل مكان ما يناسبه.
وإني أقول لكم: إن حماية الشريعة والدفاع عنها لا يكون إلا برجالها، لو أنك كنت في مكتبة ومعك جماعة، ودخل رجل ملحد يقرر الإلحاد، وأنتم لا علم عندكم، لكن المكتبة مملوءة من الكتب التي ترد على الملحدين وتبين زيف ما هم عليه، هل يمكن أن يقفز كتاب منها من أجل أن يرد على هذا الملحد؟ لا يمكن، فالكتب وإن كثرت لا تفيد، لا بد من علماء، وإذا كان في هذا المكان الذي ذكرت، إذا كان فيه عالم فسوف يتكلم بما يرد قول هذا الملحد، حتى ينكص على عقبيه.
هذه أمور ثلاثة كلها تترتب على إخلاص النية.
الأمر الرابع: ما أشار إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره. ومتى كان ينوي ذلك فلا بد أن يجد في الطلب؛ لأن من أراد الغنى لا بد أن يكتسب، ولا بد أن يتجر، ولا بد أن يخوض جميع ميادين التجارة، فإذا كان يريد رفع الجهل عن نفسه فليس من الممكن ولا من المعقول أن يجلس من غير تعلم، لا بد أن يجدّ في الطلب، وإذا كان يريد رفع الجهل عن غيره فلا بد أن يحرص غاية الحرص على نشر علمه بالوسائل المناسبة، الوسائل القوية في كل مجال.
يمكن أن ينشر العلم عن طريق الحديث في المجالس العادية، جلس مجلسًا في وليمة، في أي مكان، يمكن أن ينشر علمه، ولكن كيف ذلك؟ بالطريقة اللبقة المحببة للنفوس، والتي لا توجب الملل والاستثقال، يمكن أن يورد مسألة من المسائل في هذا الجمع الذي عنده، يورد مسألة يقول: ما تقولون في رجل فعل كذا وكذا، أو قال كذا وكذا، أو يأتي بمسألة إلغاز حتى يفتح الأذهان، وحينئذ يدخل في تعليم الناس، لست أقول افرض نفسك في المجلس الذي أنت فيه؛ لأن هذا صعب على النفوس، لكن اجلبهم إلى العلم بالطرق المحببة المناسبة حتى يشتغل المجلس بالعلم، مناقشة أو إلقاء أو ما أشبه ذلك.
كذلك أيضًا ينشر علمه عن طريق الأشرطة، والأشرطة -ولله الحمد- نفع الله بها نفعًا كثيرًا، خصوصًا وأن الناس كثيرًا منهم -وخاصة من الشباب- يتلقون هذه الأشرطة بشغف ولهف، لا تكاد تخرج إلا والناس يتلقونها وينتفعون بها، فهذه الأشرطة ولله الحمد فيها مصلحة كبيرة ونشر للعلم، وليس في مكانك أو بلدك أو منطقتك، بل إنه يتعدى إلى خارج بلادك، كما سمعنا أن أشرطة الدعاة والعلماء تذهب إلى أماكن بعيدة، هذه من وسائل نشر العلم.
ثالثًا: يمكن أن تنشر العلم عن طريق الكتابة، كتابة الرسائل، تأليف كتب، نشرة ورقية، وما أشبه ذلك، بقدر المستطاع، حتى تنشر علمك وتنفع وتنتفع.
وهناك نشر للعلم بطريق خفي يخفى على طالب العلم أو على كثير من طلبة العلم ألا وهو نشر العلم عن طريق العمل به، كثيرًا ما يرقب الناس هذا العالِم ويرون ماذا يصنع فيقتدون به، قال بعض الناس: إنه كان يصلي، فقال بعض الذين شاهدوه: إنك تفعل كذا وكذا في صلاتك، فانظر كيف كان الناس يراقبون أفعال طالب العلم من أجل أن يقتدوا به، وهذا من طريق نشر العلم، بل قد يكون هذا من أبلغ الطرق التي يتأثر بها الناس؛ لأن تأثر الناس بالفعل قد يكون أشد وأقوى من تأثرهم بالقول، ولهذا نكرر ما أسلفناه من أن طالب العلم لا يكون فقيهًا إلا إذا عمل بعلمه، وإلا فهو قارئ وليس بفقيه.
وبهذه المناسبة أود أن أحثكم على مكارم الأخلاق من السماحة، وبذل السلام، وبذل المعروف، والتسامح فيما بينكم، وملاقاة الناس بالبشر وطلاقة الوجه، فقد كان من صفات النبي ﷺ أنه كان دائم البشر كثير التبسم صلوات الله وسلامه عليه، دائم البشر لا تجده منغلقًا ولا مكفهرًّا، كثير التبسم في محله، فلنا فيه صلوات الله وسلامه عليه أسوة حسنة، قال الله تعالى فيه:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم ٤].
ومما ينبغي لطالب العلم: أن يحفظ وقته عن الضياع، وضياع الوقت يكون بأسباب، أو يكون له وجوه:
الوجه الأول: أن يدع المذاكرة ومراجعة ما قرأ.
والوجه الثاني: أن يجلس إلى أصدقائه وأحبائه، ويتحدث معهم بحديث لغو ليس فيه فائدة.
الوجه الثالث: وهو أضرها على طالب العلم، ألا يكون له هم إلا تتبع أقوال الناس وما قيل وما يقال، وما حصل وما يحصل في أمر ليس معنيًّا به، وهذا لا شك أنه من ضعف الإسلام؛ لأن النبي ﷺ قال:
«مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيِه»(٧)، والاشتغال بهذا القيل والقال وكثرة السؤال مضيعة للوقت، وهو في الحقيقة مرض إذا دب في الإنسان نسأل الله العافية صار أكبر همه، وربما يعادي من لا يستحق العداء، أو يوالي من لا يستحق الولاء من أجل تشاغله في هذه الأمور التي تشغله عن طلب العلم، بحجة أنه يقول له فكره هذا من باب الانتصار لصاحب الحق، وليس كذلك، بل هذا من إشغال النفس بما لا يعني الإنسان.
أما إذا جاءك الخبر بدون أن تتلقفه وبدون أن تطلبه فكل إنسان يتلقى الأخبار، لكن لا ينشغل بها، لا تكن أكبر همه؛ لأن هذا يشغل طالب العلم ويفسد عليه أمره، ويفتح في الأمة باب الحزبية والولاء والبراء فتتفرق الأمة، فنسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير والصلاح، وأن يجمع القلوب على طاعته، ويرزقنا علمًا نافعًا وعملًا صالحًا وزقًا طيبًا واسعًا يغنينا به عن خلقه.
* الطالب: (...).
* الشيخ: حقيقة أن الناس في كل أمورهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام -كل أمور الناس: طرفان ووسط، طرف مفَرِّط، وطرف مفْرِط، ووسط، من الناس من يشتغل بما يسمونه فقه الواقع ولا يكون له هم إلا تتبع الناس وقيل وقال وكثرة السؤال، وهذا لا شك أنه مضيعة وتشاغل بالمهم -إن كان مهمًّا- عن الأهم، وهذا غلط، ومن الناس من يتشاغل بالفقه الشرعي ويحرص عليه، لكنه لا يلتفت إلى أحوال الناس إطلاقًا، بل ربما ينكر من الفقه الشرعي ما يظن أن الدليل لا يدل عليه، وهذا أيضًا طرف خطأ، ومن الناس من يحاول الجمع بين هذا وهذا. ونحن إذا سبرنا سيرة النبي ﷺ وجدنا أنه عليه الصلاة والسلام يفهم الواقع ويفهم الناس، ويفهم الخَيِّر من الشرير، لكنه ﷺ يهتم بالأمر الثاني، الذي هو الفقه في الدين، ولهذا قال:
«مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»(٨)، لم يقل يفقهه في الواقع، فقه الواقع وسيلة للتطبيق فقط، فلا بد لطالب العلم من هذا ومن هذا، لا تجنح إلى طرف الفقه في الواقع، ولا تغلو في الفقه في الدين فتعرض عن كل شيء، فالإنسان يجب أن يكون وسطًا.
* طالب: يا شيخ أحسن الله إليك، (...) حماية الشريعة، ولمن إذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر الآن وسائل الإعلام تدعو إلى الكفر والإلحاد والشرك وما إلى ذلك، وأهل الحق يمنعون من ذلك، فكيف تكون حماية الشريعة بالله، أحسن الله إليكم؟
* الشيخ: هو -بارك الله فيك- أنت انوِ بذلك حماية الشريعة، أما كونك تطبق ذلك في المجتمع هذا ليس إليك، هذا إلى الله عز وجل: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص ٥٦]، وتعلمون ما جرى للإمام أحمد وغيره من الأئمة من المحن في محاولة تطبيق الشريعة في الناس، ومع ذلك هم صبروا واحتسبوا حتى ظهر الحق ولله الحمد، فتطبيق الشريعة ليس معناه أن طالب العلم إذا نوى تطبيق الشريعة وحمايتها أنه يستطيع ذلك، قد لا يستطيع، لكن هو ينوي هذا، ويجعل طلبه للعلم مركزًا على هذه النية، والله سبحانه وتعالى ييسر له الأمر، ثم إذا أوذي في الله فهو رفعة لدرجاته، ورفعة لذكره، لو تأملت من أكثر الناس إيذاء من العلماء لوجدت أنهم العلماء الكبار، هم الذين يلحقهم الأذى من حبس وضرب وإهانة، وربما قتل، فيكون هذا من رفعة الله لهم.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، ما العلوم التي يحسن لطالب العلم البدء فيها، (...)؟
* الشيخ: والله نرى أن أهم المهمات العلم بهذا الكتاب العزيز؛ كتاب الله، قبل كل شيء؛ لأن الصحابة لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، ثم العناية بما صح من السنة، ثم العناية بما كتبه أهل العلم وأخذوه من هذين المصدرين الأساسيين: الكتاب والسنة.ولا يعني إذا قلنا: احرص على معرفة كلام الله وكلام رسوله أن تعرض عن كل شيء، لا بد أن ننتفع بأفكار العلماء الذين كرسوا جهودهم لخدمة العلم، وإلا ضِعْنَا، ولهذا كتب العلماء -رحمهم الله- في أصول الفقه، وفي أصول الحديث، وفي قواعد الفقه، وفي قواعد التحديث، وغير ذلك من أجل الضبط، حتى ينضبط الناس ويكونوا ماشين على قواعد معلومة.
* الطالب: بارك الله فيكم، من الملاحظ أن حفظ المتون فيه صعوبة، بعض الناس يقول: أنا أكرر المسائل مرات فأفهمها وأكتفي بذلك عن حفظ المتون، فحفظ المتون في الفقه مثلًا يقول: هذه إنما كلام أناس نحن نأتي بمثله، ما رأيكم؟
* الشيخ: أنا رأيي أن حفظ المتون هو الأساس، وما انتفعت بشيء انتفاعي بما حفظت من الكتب؛ لأن حفظ المسائل يطير، إلا مسائل تتكرر على الإنسان يوميًّا فهو لا ينساها من قِبَل العمل، فحفظ المتون هو العلم في الواقع، وكونه صعبًا على بعض الناس هذا صحيح، فبعض الناس يصعب عليه جدًّا أن يحفظ، تجده يكرر المتن تكرارًا كثيرًا ولكن ما يحفظه، لكن احرص على هذا، وكلما تقدمت السن بالإنسان قوي فهمه وضعف حفظه، يعني فهمه يقوى، ويتفتح عليه من الفهوم ما لم يكن يعرفه من قبل، لكن يقل حفظه، ولهذا ننصح الشاب بالحفظ، وأول ما يجب أن يحفظ كتاب الله الذي هو أساس كل شيء.
* طالب: هل ينصح طالب العلم بأن يسير في فن من الفنون مثل فن الفقه، أو أنه يتنقل في الفنون، من فن العقيدة إلى فن الفقه؟
* الشيخ: تعرف أن العلوم ليست سواء بعضها أهم من بعض، فأنت كرس جهودك على الأهم، ولا تخلي نفسك من العلوم الأخرى المساندة للأهم؛ يعني مثلًا رجل قال: أنا أهوى النحو، أبغي أكرس جهودي على النحو ولا أتعرض لغير هذا. نقول: غلط، كرس جهودك على ما تهواه نفسك لئلا يضيع عليك الوقت؛ لأن الإنسان إذا حاول أن يرغم نفسه في دراسة شيء لا يختاره سيضيع عليه الوقت، لكن لا تنسى العلوم الأخرى.كذلك أيضًا لا تكثر على نفسك من العلوم؛ لأن كثرة العلوم تضعف الإنسان في همته وفي فهمه، والذين درسوا في المدارس النظامية يعرفون هذا، تجد مثلًا في المعاهد أو الثانويات تجد فيها مثلًا خمسة عشرة مادة تُضَيِّع على الإنسان، لو أردت أن تبحث معه في شيء عميق من المواد التي درسها ما وجدت عنده شيئا.
فإذا ركز الإنسان على العلوم واختصرها بقدر ما يستطيع صار هذا أجود له وأكثر استفادة، ويذكر أن بعض الناس يقول: إن من أتقن علمًا من العلوم إتقانًا جيدًا استغنى به عن سائر العلوم؛ وهذا لا شك أنه غلط، لو أنك أدركت النحو جيدًا، هل يغنيك عن معرفة الفقه؟
وما يذكر عن أبي يوسف والكسائي أنهما تناظرا في حضرة الرشيد، وقال الكسائي: إن الإنسان إذا أتقن العلم -أي علم أتقنه- يستغني به عن غيره، وأن أبا يوسف أورد عليه الرجل يسهو في سجود السهو، فقال الكسائي: ليس عليه سجود، قال: ومن أين يوجد هذا في علمك؟ -لأن الكسائي إمام في النحو- قال: من قواعد علمي أن المُصَغَّر لا يُصَغَّر؛ هذا يصح دليلًا في حكم شرعي؟ أبدًا، وأنا أظن أن هذه القصة مصنوعة، ما هي صحيحة.
لكن على كل حال الإنسان ينبغي له أن يركز، وأنا في نظري أن أهم ما أركز عليه هو القرآن الكريم، القرآن كنوز عظيمة، كلما أخذت آية وصرت تتأملها انفتح لك من العلوم فيها ما لا يعلمه إلا الله، ثم القرآن سند، يعني ليس القرآن ككتاب أي عالم من العلماء، هو سند يحتج به الإنسان أمام الله عز وجل؛ لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، فلهذا أنا أرى أن نركز على علم التفسير، ثم على معرفة ما صح عن النبي ﷺ.
وأنتم تعرفون أن ما نسب إلى الرسول ﷺ يحتاج إلى جهد قبل أن يكون دليلًا، الجهد هو أن نعرف صحته إلى الرسول؛ لأنه ما أكثر الأحاديث التي رواها ضعاف الناس رواية، إما لقلة أمانتهم أو لسوء حفظهم أو ما أشبه ذلك، بل ما أكثر الأحاديث الموضوعة المكذوبة على الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأهواء كثرت فصار من لا يخاف الله يضع ما شاء من الأحاديث وينسبها للرسول ﷺ، تحتاج السنة إلى عناية كبيرة في ثبوت صحتها عن الرسول ﷺ.
أما القرآن فلا يحتاج إلى هذا؛ لأنه ثابت بالنقل المتواتر الذي ينقله الأصاغر عن الأكابر، فالعناية بالكتاب والسنة هو أهل شيء، لكن لا يعني ذلك الإعراض عما كتبه العلماء، لا بد من الاستعانة بآراء العلماء وكيفية استنباطهم للأحكام من القرآن والسنة، ونقتصر على هذا.
* * *
* طالب: ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (٣١) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [غافر ٣١ - ٣٣].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نبدأ هذا الصباح في درس التفسير، وينبغي أن نلم بشيء من قواعد التفسير، فنقول:أولًا: التفسير مأخوذ من الفَسْر، فَسَرَت الثمرة عن قشرها؛ أي: اتضحت وبانت، وهو عبارة عن توضيح كلام الله عز وجل، والتفسير يُراد به التفسير اللفظي؛ يعني أن تفسر اللفظة بقطع النظر عن سياقها، ويُراد به التفسير المعنوي بأن تفسر اللفظة بحسب سياقها.
فمثلًا قول الله تبارك وتعالى:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال ٦٠]، إذا فسرنا القوة التفسير اللفظي صار معناها ضد الضعف، لكن الرسول ﷺ قال:
«إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»(٩)، وعلى هذا فنقول معنى القوة ضد الضعف، هذا باعتبار اللفظ، والمراد بها الرمي، هذا باعتبار المعنى المراد.
ومثله أيضًا:
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس ٢٦]، الزيادة معناها الفضل، زيادة الشيء على الشيء، هذا من حيث اللفظ، لكن المراد النظر إلى وجه الله عز وجل كما فسره النبي ﷺ، إذن التفسير اللفظي غير المراد، المراد يعينه السياق أو يبينه النبي ﷺ أو ما أشبه ذلك، وأما اللفظ فأنت تفسر الكلمة باعتبار معناها منفردة، دون النظر إلى سياقها.
والقرآن الكريم يفسر بالمعنى الأول ولّا بالمعنى الثاني؟ بالمعنى الثاني؛ أي: بما أراد الله به.
ثانيًا: هل المراد يخالف الظاهر أو هو الظاهر إلا بدليل؟ المراد هو الظاهر، يعني أن الله يريد بكلامه ظاهره، ولا بد، ولا يمكن أن نعدل عن الظاهر إلا بدليل، فمن عدل عن الظاهر إلى غيره بدون دليل كان ممن يحرفون الكلم عن مواضعه.
مثال هذه القاعدة قال الله تبارك وتعالى:
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف ٥٤]، ظاهر قوله:
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ أي: علا عليه علوًّا يليق بجلاله وعظمته، وهو علوٌّ خاص بالعرش، وليس هو العلو العام على جميع المخلوقات، فإذا جاء الإنسان وقال: استوى على العرش؛ يعني استولى عليه، فإننا لا نقبل منه، لماذا؟ لأن هذا خلاف الظاهر بلا دليل، فإذا كان خلاف الظاهر بلا دليل فإنه من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وإن تَسَمَّى أهله بأنهم مؤوِّلة فإنما يسمون أنفسهم بذلك من أجل قبول قولهم، وتسهيل خطئهم على الناس؛ لأنه فرق بين أن تقول: هذا مؤول أو هذا محرف، وإلا فالحقيقة أنهم محرفون.
ولهذا تجدون شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عبر في العقيدة الواسطية بقوله: من غير تحريف. ولم يقل: من غير تأويل؛ لأن التحريف مذموم بكل حال، والتأويل منه صحيح ومنه فاسد.
فإن دل دليل على أن المراد خلاف الظاهر فسرناه بالمراد، مثل قوله تعالى:
﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [النحل ٩٨]، معنى قرأت؛ يعني: أردت أن تقرأ، وليس المعنى إذا فرغت، لو أننا فسرنا اللفظ بظاهره لقلنا: إذا قرأت؛ يعني: إذا انتهيت من القراءة فاستعذ بالله، ولكن هذا غير مراد، ما الذي يبيِّن أن هذا غير مراد؟ فعل النبي عليه الصلاة والسلام فإنه كان يستعيذ قبل أن يبدأ القراءة، هاتان قاعدتان.
القاعدة الثالثة: إلى من يُرجع في تفسير القرآن؟ هل يرجع إلى اللغة والحقيقة اللغوية أو يُرجع إلى الحقيقة الشرعية أو ماذا؟
نقول أولًا: يُرجع في التفسير إلى تفسير من تكلم به، وهو الله عز وجل، فيرجع في التفسير أولًا إلى كلام الله، فإذا كانت الكلمة مجملة في موضع من القرآن مفصلة في موضع، فإنه يُرجع إلى ما فُصِّل بالقرآن نفسه، إذا كانت مبهمة في موضع لكنها مبينة في موضع آخر نرجع إلى الموضع الآخر، فيُفَسَّر القرآن أولًا بالقرآن؛ لأن المتكلم به أعلم به من غيره، ففي قوله تعالى:
﴿الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ [القارعة ١ - ٣] ما هي القارعة؟ بينها الله بقوله:
﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ [القارعة ٤]، وقال تعالى:
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار ١٧، ١٨]، فسرها بقوله:
﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾ [الانفطار ١٩]، وكذلك قوله تعالى:
﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾ [العلق ١٥] أي: ناصية هي؟ كل ناصية يسفع الله بها؟ لا
﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ [العلق ١٦] وعلى هذا فَقِسْ، فنرجع أولًا إلى تفسير من تكلم به وهو الله، أي إلى تفسير القرآن بالقرآن.
ثم بعد هذا نرجع إلى تفسير القرآن بالسنة؛ لأن أعلم الناس بكلام الله رسول الله ﷺ، فنرجع إلى تفسيره، ولا نقبل تفسير غيره، مثال ذلك قوله تعالى:
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس ٢٦]، فقد فسرها صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنها النظر إلى وجه الله، لو جاءنا جاءٍ وقال: (وزيادة) أي: زيادة في الحسن، قلنا له: لا نقبل قولك، وإن كانت الكلمة من حيث معناها اللفظي تحتمل ما قلت، لكنّا لا نقبل، لماذا؟ لأن النبي ﷺ فسرها بأنها النظر إلى وجه الله، وهو أعلم الناس بمراد ربه، فلا نقبل قولك.
ثالثًا: نرجع إلى تفسير الصحابة؛ يعني إذا لم نجد في القرآن ولا في السنة رجعنا إلى تفسير الصحابة؛ لأن الصحابة أعلم الناس بمراد الله ورسوله، حيث إنهم في عصر التنزيل، وشاهدوا الأحوال والقرائن الدالة على المراد، ولا شك أن المشاهد للشيء ليس كالغائب عنه، الآن ربما أتكلم أنا بكلام منفعل فيه، وأقول: أتفعلون كذا؟ ولمَ كذا؟ تجدونني منفعلًا، والذي يسمع كلامي وهو لم يشاهدني يظنه كلامًا عاديًّا، ولا يعرف؛ لأنه ما عنده قرينة، فلهذا نقول: الصحابة أعلم الناس بتفسير كلام الله ورسوله؛ لأنهم قد شاهدوا الأحوال وعرفوا القرائن فيرجع إلى تفسيرهم.
مثال ذلك قوله تعالى:
﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ [النساء ١٢]، فهنا فسر أبو بكر الكلالة بأنه من ليس له ولد ولا والد، بأنه الميت يموت ليس له ولد ولا والد؛ يعني لا أصول ولا فروع، هنا نأخذ بتفسير أبي بكر، لماذا؟ لأنه من الصحابة، والصحابة أعلم الناس بتفسير كلام الله عز وجل، ومعنى قولنا هذا أنه لو جاء أحد من المتأخرين، وفسر القرآن بخلاف ما فسرت به الصحابة فإننا لا نرجع إلى قوله أبدًا.
بعد ذلك الرابع: إذا لم نجد في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الصحابة نرجع إلى أقوال التابعين، ولا سيما من عُرِف منهم بالتلقي عن الصحابة، مثل مجاهد بن جبر رحمه الله، فإنه قال:
«عرضت المصحف على ابن عباس مرتين أو أكثر أقفه عند كل آية وأسأله عن معناها»(١٠)، فمثل هذا يؤخذ بقوله؛ لأنه أخذ عن الصحابة، وإن كان بعض التابعين قد لا ينال هذه المرتبة لعدم أخذه عن الصحابة، لكن على كل حال التابعون أقرب إلى المعنى الصحيح ممن بعدهم، إلا أنهم كما عرفتم يقلون مرتبة عن الصحابة.
الخامس: نرجع إلى المعنى الحقيقي للكلمة، وهو المعنى اللغوي؛ يعني نرجع إلى معنى الكلمة في اللغة العربية، ودليل ذلك قوله تعالى:
﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف ٣] يعني: تفهمون المعنى، وهذا إحالة من الله عز وجل إلى اللغة العربية، وأن عقل القرآن يكون بمقتضى اللغة العربية، ولنا حجة، فإذا قال قائل: ما دليلك على أن معنى هذه الكلمة هو كذا؟ قلنا: هذا معناه في اللغة، والقرآن نزل باللغة العربية، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله:
﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾،
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الدخان ٥٨] إلى غير ذلك من الآيات الواضحة.
فإن اختلفت الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية رجعنا إلى الحقيقة الشرعية، يعني الحقيقة الشرعية واللغوية لا شك أنها تتفق في أشياء كثيرة، فالسماء سماء لغة وشرعًا، والأرض أرض لغة وشرعًا، والإبل إبل لغة وشرعًا، وما أشبه ذلك، فإن تعارضت الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية نقدم الحقيقة الشرعية؛ لأن هناك كلمات نقلها الشرع من المعنى الأصلي اللغوي إلى المعنى الشرعي، مثال ذلك الإيمان، الإيمان في اللغة هو الإقرار والاعتراف أو التصديق على خلاف بين العلماء في التفسير، لكنه في الشرع غير ذلك، الإيمان في الشرع أوسع من هذا، يشمل المعنى اللغوي ويشمل ما سواه، مثل الأعمال، الأقوال، الأفعال، التروك، كل هذه من الإيمان شرعًا، ومثل الصلاة وجدنا في القرآن:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة ٤٣]، على أي شيء نحمل الصلاة؟ على المعنى اللغوي الذي هو الدعاء أو على المعنى الشرعي؟ على المعنى الشرعي؛ لأن الشرع نقل بعض الألفاظ العربية إلى معنى جديد ليس مستعملًا في اللغة العربية فنأخذ بما أقره الشرع.
أخذنا الآن خمسة: نرجع في التفسير إلى القرآن، السنة، الصحابة، التابعين، المعنى اللغوي، وإذا تعارض اللغة والشرع قدمنا المعنى الشرعي، وهذا هو المبحث أظن المبحث الثالث.
المبحث الرابع: هل يجوز لنا أن نفسر القرآن دون الرجوع إلى كلام العلماء المكتوب أو المسموع؟
هذا ينظر، إذا كانت الكلمة لها معنى لغوي، ولم نعلم أن لها معنى شرعيًّا يعارضه فلنا أن نفسر القرآن بمقتضى اللغة، إذا لم نعلم أن لها معنى شرعيًّا نُقلت إليه؛ لأن القرآن كما قلنا واستدللنا نزل باللغة العربية، فإذا فسرته بمقتضى اللغة العربية فلا بأس، لكن بشرط أن يكون لي علم باللغة العربية، ما هو أي عامي ييجي يفسر القرآن.
أما إذا فسرت القرآن بما يوافق رأيي مع مخالفته للقواعد السابقة، فهذا جاءت الأحاديث بالوعيد فيه،
«وأن من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»(١١)، ولهذا أمثلة كثيرة عقدية وفقهية، كثير من العلماء فسروا القرآن بآرائهم؛ أي: بما يناسب مذاهبهم، وهذا في العقائد مشهور معروف، مثل: يفسر قول الله تعالى:
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر ٢٢] أي جاء أمر ربك، يفسر قول الله تعالى:
﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة ٦] بأنه الكلام المخلوق، يفسر قوله تعالى:
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف ٥٤] يعني: استولى عليه، يفسر قوله تعالى:
﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص ٧٥] أي: بقدرتي، وما أشبه ذلك، هذا قائل في القرآن برأيه لا شك؛ لأنه لا فسره بمقتضى اللغة، ولا بمقتضى الشرع، وإنما بمقتضى رأيه الذي يطابق ما هو عليه من المذهب أو من الطريقة.
في هذا أمثلة كثيرة؛ عقدية وفقهية؛ كثير من العلماء فسَّروا القرآن بآرائهم؛ أي: بما يناسب مذاهبهم. وهذا في العقائد مشهور معروف:
يفسر قول الله تعالى:
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر ٢٢] أي: جاء أمر ربك.
يفسر قوله تعالى:
﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة ٦] بأنه الكلام المخلوق.
يفسر قوله تعالى:
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف ٥٤] يعني: استولى عليه.
يفسر قوله تعالى:
﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص ٧٥] أي: بقدرتي وما أشبه ذلك، هذا قال في القرآن برأيه لا شك؛ لأنه لا فسره بمقتضى اللغة، ولا بمقتضى الشرع، وإنما بمقتضى رأيه الذي يطابق أيش؟ ما هو عليه من المذهب أو من الطريقة.
فالتفسير بالرأي إذن مُحَرَّم ومن كبائر الذنوب، وهو داخل في قوله تعالى:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام ٢١]؛ لأن هذا المُفَسِّر يقول: إن الله أراد بهذا هذا، فيكون صادقًا أو كاذبًا؟ يكون كاذبًا، فيكون ممن افترى على الله كذبًا؛ حيث قال: إن الله أراد كذا؛ ثم هو ممن اعتدى في حق الله حيث قال: لم يُرِدْ كذا؛ شوف الخطر، إذا قال:
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ قال أراد الله: وجاء أمر ربك، فيكون كذب على الله، قال: ولم يرد أنه جاء بنفسه. يكون اعتدى على كلام الله وتجاوز حده، من قال لك: إن الله لم يرد هذا، وهذا ظاهر كلامه؟ فيكون هذا معتديًا محرفًا والعياذ بالله.
وكذلك أيضًا في المسائل الفقهية مثلًا:
﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ [المائدة ٦] قال الرافضة: يعني أن الله أمرنا أن نمسح الأرجل بدل الغسل، فيقال: هؤلاء قالوا برأيهم؛ لأنهم أهملوا قراءة النصب
﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ ولم يعملوا بها، ثم خالفوا المراد بقراءة الجر، وهي أنها تُمْسَح الرجل على الوجه الذي بينته السنة، وما الذي بينته السنة؟ أن الرجل تُمْسَح إذا كان عليها خُفَّان أو جوربان أو ما أشبه ذلك؛ فتبين الآن أن التفسير بالرأي من كبائر الذنوب؛ لأنه يتضمن مفسدتين عظيمتين:
إحداهما: تحريف الكلم عن مواضعه.
والثاني: الكذب على الله والتعدي في حقه؛ حيث قالوا: إنه لم يردْ كذا وأراد كذا.
المبحث الخامس: أهمية التفسير، التفسير من أَجَلِّ العلوم وأعلاها قَدْرًا؛ لأن الإنسان يحاول أن يفهم به معنى كلام الله عز وجل، والعلوم تَشْرُف بحسب موضوعها، ولا أشرف من موضع تفسير كلام الله عز وجل، فيكون التفسير من أَجَلِّ العلوم إن لم نَقُلْ: هو أجل العلوم وأعظمها قدرًا؛ لأنه عناية بكلام الله عز وجل، ولأنه إتباع لطريق السلف الذين لا يجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، ولأن الإنسان إذا فَهِمَ كلام الله ذاق له طعمًا، وصار يقرؤُه وهو يجد حلاوة معناه والأنس به أكثر من إنسان أُمِّيٍّ لا يعلم الكتاب إلا أماني.
ففي علم التفسير يطمئن القلب وفي علم التفسير يعرف الإنسان قَدْر هذا القرآن العظيم الذي وصفه الله بعدة أوصاف عظيمة:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر ٨٧]، وأكثرنا -عفا الله عنا- لا يعتني بالتفسير، ولا يهتم به، ربما يستشرف كتاب عالم من العلماء يخطئ ويصيب، ويتأمل هذا الكتاب منطوقًا ومفهومًا وإشارة وإيماء وغير ذلك من أنواع الدلالة، لكن كلام الله لا يعتني به، ولولا أنه يَتَبَرَّك به في أَجْرِه لما عَرَّج عليه أصلًا إلا أن يشاء الله، وهذا غلط.
حتى في طلبة العلم الآن مَنْ لا يهتم بالتفسير، تجده يهتم بكتب الفقه، يهتم بكتب الحديث، يهتم بكتب الرجال، ويُعْرِض عن هذا اللي هو الأصل، أصل الأصول الذي يجب علينا أن نعرفه، والذي سنُحَاسَب عليه،
«الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»(١٢) استوقف شخصًا من أكبر طلبة العلم، عندي آية من القرآن قل له: ما معناها؟ ما يقول؟ إما أن يكون جريئًا فيقول: أراد الله بهذا كذا وكذا، وهو لم يرده، أو أنه يكون وَرِعًا ويقول: لا أردي، لكن لو أن طلبة العلم أخذوا القرآن من أَوَّلِهِ يقرؤونه ويتدبرونه ويتأملونه لوجدوا خيرًا كثيرًا، وانفتح لهم من أبواب المعرفة ما لا يخطر على البال.
والله عز وجل في القرآن الكريم يقول:
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ [القمر ١٧] ما هو صعب، القرآن إذا أقبلت عليه حقيقة بقلب ونية جازمة فهو سهل، أسهل من جميع الكتب؛ لأنه يقول:
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر ١٧].
هذه نُبَذٌ تَكَلَّمْتُ بها أسأل الله تعالى أن ينفع بها في مقدمة التفسير؛ لأن بعض إخواننا قد لا يكونون حضروا مثل هذه القواعد التي سوف تفيدهم إن شاء الله تعالى، أما الآن فإلى الدرس الذي نحن بصدده.
* طالب: يقول بعضهم: إن هناك شيئان ليس لهما سند التفسير والتاريخ؛ ما صحة هذا القول؟
* الشيخ: نعم، هذا يذكر عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقال هي ثلاثة: المغازي والسير والتفسير، ومراده بذلك أنه ليس لها سند أن الناس يتناقلونها بدون إسناد، فمثلًا يقول: قال مجاهد كذا، قال ابن عباس كذا، بدون إسناد هذا المعنى، كذلك التواريخ تجد مثلًا يتكلم الناس في هذا في غزوة أحد، لكن لا تجد الرجل يقول: حدثني فلان عن فلان عن فلان حتى يصل إلى الغزوة، وكذلك يقال في السير، هذا مراد الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقصده بذلك أنك إذا سَمِعْت مثل هذا الذي اشتهر ونُقِلَ أن تتأكد منه.
* طالب: لو أن شيخا الآن أو مدرسًا عرض على طلابه تفسير آية، وقال: ما تقولون في هذه الآية؟ وهو عالم بها، يجلس التلاميذ فيقول هذا بقول وهذا بقول، هل يدخلون في ضمن (...)؟
* الشيخ: لا، هذا لا يدخل في ضمن؛ لأن هذا الذي قال: معنى الآيات: كذا. لا يريد أن هذا المعنى مستقر، لكن يعرضه على شيخٍ أعلم منه، فكأنه حينما يقول: أراد الله كذا، كأنه يقول بلسان الحال: هل أراد الله بهذا كذا؟ فهذا لا يُعْتبر تفسيرًا للقرآن بالرأي ولا محرمًا.
* طالب: بعض الناس يتركون التفسير ويتبعون السنة وآثار الرجال وما أشبه ذلك، ويعللون يقولون: إن أهل البدع يستدلون بعمومات القرآن، فنقرأ السنة لكي نبين هذه العمومات (...) السنة، فما رأيكم في هذا؟
* الشيخ: رأيي صحيح أننا لا نزهد في السنة ولا في معرفة الرجال ولا في معرفة المصطلح، لكننا نرى أن هناك أولويات، وهناك أهميات قَبْلَ المهمات، وأما ما ادعاه من أن القرآن لم يُبَيِّن الرد على أهل البدع، والسنة بَيَّنَت فهذا غير صحيح، القرآن ليس فيه دليل واحد لأي بدعة من البدع أبًدا، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله قال في كتابه درء تعارض العقل والنقل قال: أي دليل يستدل به شخص على بدعة فأنا أجعل هذا الدليل دليلًا عليه. وصدق.أضرب مثلًا لكم:
﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام ١٠٣] استدلَّ بهذه الآية من يرى أن الله لا يُرَى، عرفتم؟ والحقيقة أنها تدل على أن الله يرى، استدل بها وهي دليل عليه؛ لأن نَفْيَ الأَخَصَّ يستلزم وجود الأعم؛
﴿لَا تُدْرِكُهُ﴾ إذن تراه، ولو كانت لا تراه لقال: لا تراه الأبصار، أما أن يعبر بـ
﴿لَا تُدْرِكُهُ﴾ عن لا تراه فهذا لا شك أنه تعمية وإلغاز، ولا يمكن أن يكون هذا في كلام الله الذي جعله الله تبيانًا لكل شيء، عرفت؟
استدلوا بقول موسى:
﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي﴾ قالوا: هذا يدلُّ على أن الله لا يرى؛ نقول: هذا دليل عليكم، موسى سأل الرؤية في الآخرة ولا في الدنيا؟ في الدنيا، كيف تنقلونها أنتم إلى الآخرة؟! ولهذا قال:
﴿لَنْ تَرَانِي﴾ يعني: الآن ليس بك قدرة على أن تتحمل رؤيتي، ورؤية الله تعالى مستحيلة في الدنيا لا لأمر يتعلق بالرؤية، لكن لأمر يتعلق بالرائي، الرائي لا يتحمل؛ ولهذا ضرب الله مثلًا لموسى فقال:
﴿انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ [الأعراف ١٤٣] جَلَّ وعلا، ماذا صار؟
﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾، هذا الجبل العظيم الذي لا تدكه القنابل صار دَكًّا بمجرد أن الله تجلى له؛ ولهذا خَرَّ موسى صعقًا، عجز أن يتحمل الموقف فضلًا عن رؤية ربه عز وجل.
فالمهم أن الآية الآن فيها دليل عليهم؛ لأن موسى إنما سأل الرؤية متى؟ في الدنيا لا في الآخرة.
ثم إن موسى سأل الرؤية وأنتم تقولون: رؤية الله مستحيلة، إذن أنتم أعلم بالله من موسى؛ يعني: إما أن تكونوا أعلم بالله من موسى؛ لأن موسى ما سأل شيئًا مستحيلًا، يرى أن الله يُرى، لكن البشر لا يتحملون ذلك، فإما أن يكون جاهلًا بقدر الله وأنتم عالمون به، وإما أن يكون معتديًا على الله حيث سأل ما لا يحل له سؤاله.
فأقول لكم يا إخواني: من قال: إن البدع لا تُدْفَع إلا بالسنة أو لا يتم دفعها إلا بالسنة فقد أخطأ، وهذا يدل على قصور فهمه للقرآن أو على تقصيره في تَفَهُّمِ القرآن، وإلا فالقرآن نفسه لا يمكن أن يوجد بدعة إلى رَدَّ عليها، أبدًا، ولو لم يكن من ذلك إلا قوله:
﴿شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى ٢١] هذه الآية قاضية على كل بدعة، كل بدعة تُبْطَل بهذه الآية سواء كانت عقدية أو قولية أو فعلية.
* طالب: قلتم: إن تفسير القرآن بالقرآن ثم بالسنة ثم بالصحابة، لكن لو أراد الإنسان أن يتتبع كل آية فينظر من أقوال الصحابة والسنة وكذا لضاع عليه الوقت، لكن (...) كتاب تفسير من كتب الأئمة المعروفين (...) حتى يحفظه.
* الشيخ: هذا يكون تقليدًا؛ يعني: كوني أمسك تفسير ابن كثير أو غيره من العلماء هذا تقليد، لكن أنا أريد تفسير المجتهد، أما مَنْ لم يجد إلا ميتة فيأكل الميتة للضرورة؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ينبغي أن نعلم أن التقليد بمنزلة أكل الميتة، إن اضطررت إليه فقلد وإلا فاجتهد، أدل إلى البئر بمثل ما أدلى به الناس، أدلِ بدلوك، والحقيقة أن التقليد لا يجوز إلا عند الضرورة وعند العجز، وإلا مَنْ أمكنه أن يأخذ الأحكام أو العقائد من كتاب الله وسنة رسوله فليفعل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص ٦٥] هذه تحتاج إلى جواب، ولولا قول الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن ١٦] لقلنا: يجب على كل إنسان أن يجتهد، وأن يأخذ الحُكْمَ من القرآن والسنة، لكن الحمد لله وسع الله علينا ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة ٢٨٦] ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وإلا لقلنا: يجب أن كل واحد يأخذ من الكتاب والسنة؛ لأننا سنُسْأَل عن القرآن والسنة.
* الطالب: ما أفضل كتب التفسير التي تمشي على القواعد التي ذكرتم حتى يتبين للطالب ويتمرن عليها؟
* الشيخ: هو أحسن شيء فيما أرى من التفاسير التي تعتني بالأثر تفسير ابن كثير، تفسير ابن كثير من أحسن ما يكون من الكتب التي تعتمد على التفسير بالأثر، لكن تعلمون أن القرآن -سبحان الله- القرآن واسع، لو اجتمع الناس كلهم على أن يدركوا معناه ما استطاعوا، تجد مثلًا هذا يبحث في القرآن من الناحية اللغوية، وهذا من الناحية العقدية، وهذا من الناحية الفقهية، وهذا من ناحية البلاغة، علوم شتى كثيرة في القرآن الكريم؛ ابن كثير مثلًا في الآثار لا شك أنه جيد، لكن في كثير من أمور اللغة يكون قاصرًا، أيضًا في استنباط الأحكام قليل جدًّا أن يتكلم عن الأحكام، نجد مثلًا القرطبي يعتني بالأحكام ويُفَرِّع على الآية وما أشبه ذلك، المهم: كل عالم له منهج في تفسير كلام الله عز وجل.
* طالب: (...) القرآن الكريم لا تُفَسَّر إلا باللغة، فهل نجزم بأن التفسير اللغوي هو الصحيح؟
* الشيخ: يعني إذا وجدنا كلمة لم تفسر بالقرآن ولا بالسنة ولا بأقوال الصحابة، على كل حال نرجع للغة؛ لأن القرآن كما قال الله عز وجل: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء ١٩٥] ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ﴾ [الزخرف ٣] أي: صيرناه ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ أي: باللغة العربية ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف ٣]، شوف الآيات الثانية: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء ١٩٨، ١٩٩] لماذا؟ لأنهم لا يفهمون معناه.
* الطالب: (...) فكيف نجمع بين هذا وحديث النبي ﷺ: «إِذَا اجْتَهَدَ الْعَالِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»؟
* الشيخ: إي، إذا اجتهد، والذي يُفَسِّر القرآن برأيه ما اجتهد، وأنا ضربت لكم عدة أمثلة من التفسير بالرأي، ليس معنى التفسير بالرأي أن تُفَسِّر القرآن حسب ما تقتضيه اللغة العربية، التفسير بالرأي أن تحمل معنى القرآن على رأيك، وهذا إنما يكون فيمن؟ في المتعصبين لمذاهبهم الذين يحاولون أن يَلْوُوا أعناق النصوص إلى ما كانوا عليه.
* طالب: الفقهاء يقولون: إن الذي تزوج امرأة في عدتها وبنى بها تحرُم عليه تحريمًا مؤبدًا؟
* الشيخ: من الفقهاء؟
* الطالب: العلماء يقولون: في كتب الفقه.
* الشيخ: كتب من؟
* الطالب: الكتب المعرفية.
* الشيخ: هذه -بارك الله فيك- على مذهب الحنابلة لا تحرم، لكن قد رُوِيَ عن عمر أثر بأنه حَرَّمها على مَنْ تزوجها عقوبة له، عقوبة له ما هو تحريم نسب ولا مصاهرة لكن عقوبة له، ولعلها مرت عليك قاعدة ابن رجب: (من تعجل شيئًا قبل أوانه -على وجه محرم- عوقب بحرمانه) هذه قاعدة مفيدة لطالب العلم.
* الطالب: هل هو يدخل تحت هذه القاعدة؟
* الشيخ: إي نعم.
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (٣١) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [غافر ٣٠ - ٣٤].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾ ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ﴾ أبهم الله سبحانه وتعالى الذي آمن حيث إنه من أول القصة ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾ [غافر ٢٨] فما زال الحديث عنه بلفظ الإبهام؛ لأنه لا حاجة إلى تعيينه باسمه، فإن تعيين الاسم قد يكون فيه شيء من الضرر، والمقصود هو المعنى وما تتضمنه هذه القصة.﴿قَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾ ﴿يَا قَوْمِ﴾: معروف أن (يا) النداء إذا دخلت على نكرة مقصودة فإنها تُبْنَى على الضم كما إذا دخلت على معرفة، وهنا لم تكن مبنية على الضم بل آخرها الكسر، فيقال: إن أصلها: يا قومي، ولكن حُذِفَت الياء للتخفيف، وفي قوله:
﴿يَا قَوْمِ﴾ تَلَطُّف لدعوتهم، وإلا فهم معادون له؛ لأنهم كفار وهو مؤمن، لكن من باب التلطف في الدعوة إلى الله عز وجل قال لهم: يا قوم.
﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾ أكَّد الجملة وإن كانت مستقرة في نفسه، لكن المخاطب بها فعلُه فعلُ المنكِر لها.
(
﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾ أي: يوم حزب بعد حزب) وإنما قال الشارح: (حزب بعد حزب)؛ لأن هذه الأحزاب ليست مجتمعة في آن واحد أو مكان واحد، بل نجد قصة نوح وحدها، وهود وحدها، وصالح وحدها وهكذا؛ ولذلك فَسَّر المؤلف قوله:
﴿يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾ بقوله: (يوم حزب بعد حزب).
﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ ﴿مِثْلَ﴾ هذه بدل من
﴿مِثْلَ﴾ التي قبلها،
﴿مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ﴾، والبدل أحد التوابع الأربعة المعروفة، أو من قول ابن مالك:
يَتْبَعُ فِي الْإِعْرَابِ الْاسْمَاءَ الْأُوَلْ ∗∗∗ نَعْتٌ وَتَوْكِيدٌ وَعَطْفٌ وَبَدَلْ
وعلامةُ البدل أنه يصح أن يحل محل المُبْدَل منه؛ يعني: يصح أن يُحْذَف المبدل منه ويحل محله البدل.
فإن قال قائل: ما الفائدة من أن نأتي بالمبدل منه ثم بالبدل؟ لماذا لم نأت بالبدل من أول الأمر؟
نقول: لا بد أن يكون هناك فائدة؛ إما تفصيل بعد إجمال، أو تبيين بعد إبهام، أو ما أشبه ذلك، ولا بد أن يكون للبدل فائدة.
﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ إلى آخره، مثل دأبهم، هو لا يريد مثل دأبهم، يريد مثل جزاء دأبهم؛ لأن هناك دأب وهناك جزاء؛ فالجزاء من الله، والدأب من الأمم أو من الأحزاب، مثل دأب مثل جزاء دأبهم، فما دأبهم؟ بَيَّن الله تعالى دأبهم بقوله:
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [آل عمران ١١] هذا هو دأبهم.
﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ هؤلاء كلهم دَأْبُهم أيش؟ التكذيب بالرسل والكفر بهم.
﴿وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ من بعد مَنْ؟ من بعد قوم نوح وهي أول الأمم، وعاد وثمود.
قال المفسر: (
﴿مِثْلَ﴾ بدل مِن
﴿مِثْلَ﴾ قبله؛ أي: مثل جزاء عادة مَنْ كفر) فأفادنا المؤلف رحمه الله أنَّ في الكلام تقديرًا، أي أن في الكلام شيئًا محذوفًا، ما هو؟ جزاء، مثل جزاء دأبهم؛ لأن هذا هو الذي يخاف منه، أن ينال هؤلاء القوم عقوبة كما نال هؤلاء.
فإذا قال قائل: كيف يُطْلَق العمل على الجزاء؟ قلنا: لأنه سببه، وهذا يوجد في القرآن كثيرًا؛ أن الله تعالى يُطْلِق العمل على الجزاء مثل:
﴿ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت ٥٥] المعنى: ذوقوا جزاء، لكن يُعَبَّر به أي: بالعمل عن الجزاء؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وحتى يحذر الإنسان من عمله كما يحذر من عقوبة عمله.
يقول: (مثل جزاء عادة مَنْ كفر قبلكم من تعذيبهم في الدنيا).
قال:
﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ (ما) نافية وهي تميمية أو حجازية؟ تميمية، القرآن تميمي ولا حجازي؟
* طالب: القرآن عربي لكن أحيانا تأتي بعض الآيات على لغة تميم وأحيانا تأتي على لغة..
* الشيخ: أنت من تميم؟
* الطالب: لا.
* الشيخ: ما تقولون في هذا؟
* طالب: حجازية.
* الشيخ: حجازية؛ لأن هذا القرآن باللغة الحجازية، انظروا إلى قوله تعالى: ﴿مَا هَذَا بَشَرًا﴾ ولم يقل: ما هذا بشر، فنحمل كل ما كان على شاكلتها عليها، وإلا صحيح أن ما الله يريد ظلمًا للعباد ما تَتَبَيَّن أنها حجازية أو تميمية؛ لأن الخبر جملة ليس مفردًا يظهر فيه النصب، لكن يُحْمَل ما لا يظهر فيه الإعراب على ما ظهر فيه الإعراب وهو قوله: ﴿مَا هَذَا بَشَرًا﴾، ثم اعلم أن القرآن إنما كُتِبَ بلغة قريش كما قال عثمان رضي الله عنه للذين كبتوا المصاحف قال: «إن اختلفتم في شيء فاجعلوه على حرف قريش»(١٣). يعني: على لغتهم. ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾.
* في هذه الآية من الفوائد: بيان نُصْحِ هذا الرجل المؤمن؛ حيث حَذَّر قومه من عذاب الله.
* وفيه: دليل على التلطف في الدعوة إلى الله، وأن الإنسان لا يستعمل في الدعوة إلى الله عاطفته؛ لأنه إن استعمل عاطفته أخذته الغَيْرَة ففعل ما لا يحمد عقباه، وإنما يُحَكِّم العقل وينظر إلى العواقب والنتائج، ولا ضير على الإنسان إذا أصابه ذُلٌّ في أول الأمر إذا كانت النتيجة طيبة، ولا أظنه يخفى عليكم ما حصل للنبي ﷺ وأصحابه في غزوة الحديبية من الشروط التي ظاهرها الإهانة ولكنها كانت نتيجتُها طيبة حتى إن الله تعالى سماها فتحًا ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ [الحديد ١٠]، فالحاصل أنه ينبغي للإنسان عند الدعوة إلى الله ألا يُحَكِّم العاطفة فتزل قدمه، ولكن يُحَكِّم العقل وينظر إلى العواقب والنتائج.
* ومن فوائد هذه الآية: بيان أن ذِكْرَ الأمم السابقة ينتشر في الأمم اللاحقة، إما بواسطة الكتب المُنَزَّلة، وإما بواسطة التاريخ المنقول، ويدل لذلك قوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾ [غافر ٣٠]؛ لأنه لا يمكن أن يُخَوِّفَهُم بأمر لا يعرفونه، ولو كان الأمر كذلك لقالوا: ما هذه الأيام أو ما هذا الجزاء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تحذير اللاحق أن يصيبه ما أصاب السابق؛ لقوله: ﴿مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ ووجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى سنتُه في خلقه واحدة، هو لا يُعَذِّب هؤلاء لأنه يكرههم شخصيًّا، يعذب هؤلاء لأنه يَكْرَه عملهم فإذا وُجِدَ عملهم في آخرين فالكراهة حاصلة، واذكر قول الله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ [محمد ١٠]، وحذَّر شعيب قومه أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم، فالحاصل أن الأمم لا بد أن يتعظ اللاحق بالسابق بناء على أن سنة الله واحدة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: انتفاء إرادة الله الظلمَ لعباده ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾، ومعلوم أنها إذا انتفت الإرادة انتفى الفعل، فنَفْيُ إرادة الظلم نفي للظلم من باب أولى، كما أنه جاءت آيات صريحة في نفي الظلم عن الله عز وجل.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات اتصاف الله سبحانه وتعالى بالنفي، أي: أن الله يتصف بالصفات المنفية التي يُعَبِّر عنها بعض العلماء الصفات السلبية؛ لأن النفي سلب.ولكن إذا قال قائل: هل في النفي ثناء ومدح مع أن الله عز وجل يقول:
﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ [النحل ٦٠] فصفات الله تعالى كلها صفات كمال، والنفي عدم، فهل يكون مدحًا وثناء؟
الجواب: نقول: أما بالنسبة لغير الله عز وجل فإنه لا يدل على الكمال ولا على المدح، أما بالنسبة لله فيتعين أن يكون دالًّا على الكمال؛ لقوله تعالى:
﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ فكل نفي نفاه الله عن نفسه فإنه متضمن للكمال، دليلنا هذه الآية:
﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾، وإلا فالنفي المجرد لا يدل على الكمال إطلاقًا، بل أحيانًا يدل على النقص، فقول الشاعر مثلًا:
قُبَيِّلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ∗∗∗ وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَخَرْدَلِ
وَصَفَهُم بأنهم لا يغدرون بالعهد، وأنهم لا يظلمون، وهذا في ظاهره مدح، لكنه في الواقع ذَم، يذمهم بأنهم ناس جبناء وضعفاء، لا يغدرون لأنهم لا يستطيعون لجبنهم، ولا يظلمون لا يستطيعون لضعفهم، وكذلك قول الشاعر الآخر:
لِكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ ∗∗∗ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْهَانَا
يعني: ما هم بالشر إطلاقًا ولو هان.
يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً ∗∗∗ وَمِنْ إِسَاءَةِ أَهْلِ السُّوءِإِحْسَانَا
ثم قال:
فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْمًا إِذَا رَكِبُوا ∗∗∗ شَنُّوا الْإِغَارَةَ فُرْسَانًاوَرُكْبَانَا
هنا يذمهم مع أنهم إذا ظُلِموا غفروا لمن ظلمهم، وإذا أُسِيء إليهم أحسنوا لمن أساء إليهم، وهذه صفة قد تبدو مطلوبة محمودة، لكن إذا كان السبب في ذلك أنهم ضعفاء صارت مذمومة.
والخلاصة الآن أنه لا يمكن أن يوجد في صفات الله تعالى نفيٌ محض أبدًا؛ الدليل قوله تعالى:
﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ والنفي المحض ليس من المثل الأعلى في شيء، ولكن إذا نفى الله شيئًا عن نفسه فالمراد إثباتُ كمال ضده؛ يعني أنه لثبوت كمال ضده انتفى عنه هذا الشيء.
فما ضد الظلم؟ العدل، إذن نثبت من نفي الظلم عن الله نثبت إثبات كمال عدله، وأنه جل وعلا لعدله لا يظلم، لا لعجزه، لا، هو قادر على أن يظلم، لكنه لا يظلم لكمال عدله؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح القدسي:
«يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» » لم يقل: يا عبادي إني لا أستطيع أن أظلم، قال:
«إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي»(١٤) وهذا يدلُّ على أنه قادر على أن يظلم، لكنه لا يظلم لكمال عدله، ولو كان غير قادر على أن يظلم لم يكن انتفاء الظلم عنه مدحًا؛ لأنه عاجز، لكنه قادر ولكنه لا يظلم.
أقول هذا؛ لأن الجهمية وغيرهم قالوا: إن الله لا يستطيع أن يظلم أبدًا، وإلى هذا أشار ابن القيم في النونية حين قال:
وَالظُّلْمُ عِنْدَهُمْ الْمُحَالُ لِذَاتِهِ ∗∗∗ .............................
يعني: أنه مستحيل لذاته، لا لكمال الله لكن لذاته، لا يمكن أن يظلم. ليش؟ قال: لأن الظلم أن يتصرف الإنسان في مُلْكِ غيره، والله عز وجل يتصرف في ملكه، فإذا ظَلَمَ لم يكن ظالمًا؛ لأن هذا ملكه، فيقال: تَبًّا لعقولكم الفاسدة؛ إذا وعد المؤمن بشيء على عمل معين وعمل هذا العمل ولم يُعْطِه إياه ماذا يكون؟ يكون ظلمًا ولا شك في هذا، وأنتم تقولون: يجوز أن يُثيبَ العاصي الذي يَعْصِي اللهَ كلَّ عمره، ويعاقب المطيع الذي يعمل بطاعة الله كل عمره؛ وأن الأمرين على حَدٍّ سواء؛ لأنه لا يظلم حيث إنه يتصرف في ملكه، فنقول: هذا لا شك أنه سفه في العقل وضلال في الدين، والله عز وجل وَعَد العاملَ عملًا صالحًا بالثواب، والمخالفَ بالعقاب؛ كيف يجوز أن يخلف الله وعده؟!
المهم على كل حال هذا قول باطل ولا شك في بطلانه، ومجرد تصوره يعرف الإنسان أنه باطل.
فقوله تعالى:
﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ نقول: نفي إرادة الظلم يستلزم كمالَ عدله، وهو أيضًا يستلزم نفي الظلم؛ لأن مَنْ لا يريد الظلم لا يمكن أن يفعل الظلم.
(١) متفق عليه؛ البخاري (٥٠٩٠)، ومسلم (١٤٦٦ / ٥٣)، والنسائي واللفظ له (٥٣١٨)، كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) أخرجه أبو داود (٤٦٩٩) من حديث أبي بن كعب وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.
(٣) متفق عليه؛ البخاري (٧١)، ومسلم (١٠٣٧ / ١٠٠) من حديث معاوية رضي الله عنه.
(٤) أخرجه مالك (١٠٣٧ / ١٠٠) بسنده عن عبد الله بن مسعود، أنه قال لإنسان: إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تُحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون فيه الصلاة، ويقصرون الخطبة، يبدون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، يُحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم.
(٥) أخرجه مسلم (٢٦٩٩ / ٣٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٦) متفق عليه؛ البخاري واللفظ له (٧٣٠٧)، ومسلم (٢٦٧٣) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال، يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون».
(٧) أخرجه الترمذي (٢٣١٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٨) متفق عليه؛ البخاري (٧١)، ومسلم (١٠٣٧ / ١٠٠)، من حديث معاوية رضي الله عنه.
(٩) أخرجه مسلم (١٩١٧ / ١٦٧) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(١٠) أخرجه الدارمي (١١٦٠) بسنده عن مجاهد، قال: لقد عرضت القرآن على ابن عباس رضي الله عنهما، ثلاث عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم أنزلت، وفيم كانت؟".
(١١) أخرجه الترمذي (٢٩٥١) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن ابن عباس، عن النبي ﷺ، قال: «اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار».
(١٢) أخرجه مسلم (٢٢٣ / ١) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
(١٣) أخرج البخاري (٣٥٠٦) عن أنس أن عثمان دعا زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيِّين الثلاثة: إذا اختلفتُم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا ذلك.
(١٤) أخرجه مسلم (٢٥٧٧) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.