الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ (السين) هنا للتنفيس، وأختها (سوف) للتسويف، والفرق بينهما: أن التسويف متأخر، والتنفيس حاضر، وكلتاهما تفيدان التقرير والثبوت والتحقيق، فمثلًا إذا قلت: أنت تجد زيدًا، أنت ستجد زيدًا، أيهما أوكد؟ الثاني أوكد، لكن كلتاهما تفيد التوكيد والثبوت، ولكن (سوف) للتراخي، و(السين) للقرب. ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾ هؤلاء قسم رابع، ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ ولا يمكن هذا إلا بالنفاق، ﴿يَأْمَنُوكُمْ﴾: إذا جاؤوكم قالوا: آمنا فأمنوا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم فأمنوا، فهم يريدون أن يكونوا مرضين لهؤلاء وهؤلاء ولا يمكن هذا، لا يمكن أن ترضي أولياء الله وأعداء الله في آن واحد؛ لأن أولياء الله وأعداء الله كلهم أعداء، لا يمكن لعدو الله أن يوالي وليًّا لله أو بالعكس، فهؤلاء ليسوا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ لأنهم ليسوا مع المسلمين ظاهرًا وباطنًا، ولا مع الكفار ظاهرًا وباطنًا، أو لا؟ ليسوا مع المسلمين ظاهرًا وباطنًا، ولا مع الكفار ظاهرًا لكن في الباطن هم معهم. ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ يعني: معناه أن مآلهم الفتنة -والعياذ بالله- والضلال، والمراد بالفتنة هنا: الخروج من الإسلام. ﴿أركسوا فيها﴾ يعني: ازدادوا ركسًا وعمقًا فيها وبعدًا عن الهدى، وهكذا كل إنسان يريد الفتنة فإنه يزداد شرًّا وإيغالًا في الفتنة. ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ يعني: إن ظهرت عداوتهم لكم، ولم يعتزلوكم حتى يتبينوا ويظهروا، ﴿ويلقوا إليكم السلم﴾ يعني: الاستسلام أو المسالمة؟ الظاهر أن المراد المعنيان. ﴿يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ عنكم بالإيذاء، ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ خذوهم: أسرى، واقتلوهم: إماتة، ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي: حيث وجدتموهم كما قال تعالى: ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً﴾ [الممتحنة ٢] أي: إن يجِدوكم. ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ ﴿أُولَئِكُمْ﴾ الإشارة هنا إشارة بعيد مع قرب الذكر؛ لبعد منزلتهم وسفول منزلتهم؛ لأن القريب قد يشار إليه بإشارة البعيد؛ إما لبعده نزولًا، أو لبعده علوًّا، حسب ما يقتضيه السياق. ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ أي: حقًّا بينًا وسلطة بقتالهم وأخذهم؛ حيث لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم. هذه الآيات كلها في المنافقين وأشباه المنافقين؛ لأنها بُدئت بهم وانتهت بهم فهي في المنافقين وأشباههم، وخلاصتها في المعنى الإجمالي: أن الناس ينقسمون إلى أقسامٍ: مسلمون، ومُعاهَدون، وذِمِّيُّون، ومنافقون، وكلٌّ له حكم من هذه الأقسام، حكم يليق به. * في الآية الكريمة فوائد منها: علم الله عز وجل بالغيب؛ لقوله: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾. * ومنها: إثبات الإرادة للعبد، من أين تؤخذ؟ * طالب: تؤخذ من قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ﴾. * الشيخ: كيف؟ قلنا: في هذه الآية إثبات الإرادة للإنسان؟ * طالب: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ﴾. * الشيخ: تمام، ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه لا يمكن الجمع بين الولاية والعداوة، أن يكون الإنسان وليًّا لأولياء الله ووليًّا لأعداء الله، هذا الشيء لا يمكن؛ لقوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾، وهذا قاله في مقام الذم لا في مقام المدح. فإن قال قائل: هل يمكن الجمع بين العداوة والولاية في شخص معين؟ نعم يمكن، إذا كان هذا الشخص يأتي بالإيمان والتقوى من جانب، وعنده شيء من الكفر والفسوق من جانب آخر، صار وليًّا من جانب وعدوًّا من جانب آخر، هذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة في أن الإيمان والكفر قد يجتمعان، لكن ليس الإيمان المطلق ولا الكفر المطلق؛ لأن الإيمان المطلق والكفر المطلق لا يمكن أن يجتمعا، لكن مطلق الإيمان ومطلق الكفر يمكن أن يجتمعان. * ومن فوائد الآية الكريمة: التحذير من الوقوع في الفتن، وأن الإنسان كلما وقع في الفتنة أُرْكِسَ فيها. * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣)﴾ [النساء ٩٢، ٩٣]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. من فوائد الآية الكريمة السابقة: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾، أخذنا كما قلتم أربع فوائد: * الأولى: علم الله تعالى بالغيب؛ لقوله: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾. * ومنها: الرد على الجبرية في قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾. * ومنها؛ من فوائدها: أن هؤلاء القوم لمَّا لم يكونوا صادقين في الإيمان ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا﴾، وهكذا كل إنسان ليس صادقًا في إيمانه، فإنه كلما رُدَّ إلى الفتنة ازداد شرًّا وركسًا. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه يجوز أن يُقاتَل أمثال هؤلاء إذا لم يعتزلوا المسلمين، أي: لم يكفوا عنهم، ويلقوا إليهم السلَم، يعني: السلام. * ومنها: حسن البلاغة بلاغة القرآن حيث قال هنا: ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ وهناك في الآية الأولى: ﴿حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾؛ لأن اختلاف الألفاظ يؤدي إلى النشاط، واتفاقها يؤدي إلى الملل غالبًا. * ومن فوائدها: أن الله سبحانه وتعالى جعل للمؤمنين على هؤلاء سلطانًا مبينًا أي: سلطة شرعية، وربما تكون أيضًا سلطة قدرية مُبِينة، أي: ظاهرة بَيِّنَة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب