الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ هذا استثناء مما سبق من قوله: ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ﴾ ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ يعني: إلَّا قومًا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق واستجاروا بهم وعقدوا معهم الأحلاف، فهؤلاء ليس لهم حكم ما سبقهم؛ ولهذا قال: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ إلى آخره. ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ والميثاق هو العهد المؤكد، مأخوذ من (الوِثَاق) الذي هو الرِّباط الذي يُرْبَط به الشيء. ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ هذه معطوفة على ﴿يَصِلُونَ﴾ يعني: أو الذين جاءوكم، يعني: لم يلتجئوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ولكنهم جاؤوا إليكم. ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ (حصرت) بمعنى ضاقت ولم تتسع للقتال، والجملة في قوله: ﴿حَصِرَتْ﴾ قيل: إنها في موضع نصب على الحال، وعلى تقدير (قد)، أي: قد حصرت صدورهم أن يقاتلوكم. ﴿أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ هؤلاء الآن جاؤوا للمسلمين لئلا يقاتلوا المسلمين مع قومهم، ولكنهم لا يقاتلون قومهم مع من؟ مع المسلمين؛ ولهذا قال: ﴿أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ يعني: مع قومهم، ﴿أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ يعني: معكم، هؤلاء قوم مسالمون. فهؤلاء يقول الله عز وجل: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ يعني: هؤلاء الذين جاؤوكم لو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم، انتبه! (لو) هذه شرطية أو مصدرية؟ شرطية، فعل الشرط ﴿شَاءَ﴾، وجوابه ﴿لَسَلَّطَهُمْ﴾. وقوله: ﴿فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ هذه معطوفة على جواب (لو) بإعادة اللام الرابطة؛ ولهذا لو حذفت وقيل: لسلطهم عليكم فقاتلوكم، لاستقام الكلام، إذن فهي اللام الأولى أعيدت للتأكيد. وقوله: ﴿لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: لجعل لهم سلطانًا عليكم في المقاتلة، وهل شاء الله؟ لا؛ لأنهم لم يقاتلوا المسلمين. ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ ﴿إِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ فسَّرها بقوله: ﴿فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ اعتزلوكم فلم يكونوا معكم ولم يقاتلوكم، ﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ أي: السلام، ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾؛ لأنهم قوم مسالمون لم يقاتلوكم، ولم يقاتلوا قومهم فهؤلاء مسالمون. ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ وقوله: ﴿فَمَا جَعَلَ﴾ هذه جواب الشرط في قوله: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾، ومعنى ﴿سَبِيلًا﴾ أي: طريقًا يبيح لكم قتالهم. * في هذه الآية الكريمة من الفوائد: استثناء هؤلاء الصنف من الناس ممن أُمِرْنا بقتالهم، وهم طائفتان: طائفة وصلوا إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق ودخلوا فيهم، والطائفة الثانية قدموا إلينا، جاؤوا إلينا فلم يقاتلونا مع قومهم، ولم يقاتلوا قومهم معنا فهم مسالمون. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تمام وفاء الإسلام بالعهد؛ حيث حمى العهد من باشر عقد العهد معنا ومن لجأ إليهم، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ إلى آخره. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من سالمنا سالمناهم؛ لقوله: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾، وقد سبق لنا في الجهاد متى تكون الهدنة؟ وهل يصح أن تزيد على عشر سنوات؟ وبينا أن الصحيح أنه تصح الهدنة المطلقة المبنية على ضعفنا، ولنا إذا قوينا أن ننبذ إليهم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات مشيئة الله سبحانه وتعالى؛ لقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾. * ومن فوائدها: أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله؛ لقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ﴾، فيستفاد منها الرد على طائفة مبتدعة زائغة وهم؟ * الطلبة: الجبرية؟ * الشيخ: لا، القدرية الذين يقولون: إن فعل الإنسان مستقل به لا علاقة لله به، ودليل ذلك: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾. * ومن فوائد قوله: ﴿فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾: الرد على الجبرية؛ حيث نسب القتال إلى الإنسان، وهم لا ينسبون الفعل للإنسان إلا على سبيل المجاز، فمتى يقول: الرجل صلى، هو صلى على سبيل المجاز، وإلا في الحقيقة أنه أجبر على الصلاة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه إذا اعتزلنا من وصل إلينا بأمان فلم يقاتلنا وألقى السلم وجب الكف عنه؛ لقوله: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة -الحاصل بالمفهوم-: أنهم لو أخذوا منا الميثاق، ولكنهم خانوا فقاتلوا فإن العهد ينتقض، ينتقض ولا يكون بيننا وبينهم عهد، يؤخذ من مفهوم قوله: ﴿إِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من ألقى السلاح وجب الكف عنه؛ لقوله: ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾، لكن إن خيف أن إلقاءه السلاح خيانة وخداع فإنه لا عبرة بإلقائه؛ لأن العدو قد يلقي السلاح غدرًا وخيانة، وقد ينهزم أيضًا أمام جيوشنا غدرًا وخيانة، فالواجب التنبه. فإن قال قائل: أليس ما وقع من أسامة بن زيد في قتله المشرك بعد أن قال: لا إله إلا الله، فأَنَّبَهُ النبي ﷺ ووَبَّخَه وقال: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟!»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٢٦٩)، ومسلم (٩٦/١٥٩)، من حديث أسامة بن زيد.]] مع أن الذي يظهر أنه قالها تعوُّذًا من القتل؟ قلنا: لا بد من قرينة قوية تدل على أنه يخشى منه الغدر والخيانة، وأما مجرد الظن فلا يكفي؛ لأن الأصل العصمة بالعهد، فيُبْنَى على هذا الأصل حتى يوجد ما يعارضه. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الشرع منعًا ودفعًا وإذنًا كله لله عز وجل؛ لقوله: ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾، وهذا يدل على أن الأمر بيد الله، هو الذي يحكم ما شاء من حِلٍّ وحرمة وإيجاب وغير ذلك. * * * * طالب: ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (٩١) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣)﴾ [النساء ٩١ - ٩٣]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق الكلام على قول الله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ فما معنى الآية؟ * طالب: (...) من الناس الآن الذين نقاتلهم ينقسمون إلى ضربين: (...) للقتال ضربان: الضرب الأول من لهم ميثاق، والضرب الثاني الذين هاجروا من قومهم إلى المسلمين ولم يقاتلوا مع المسلمين ضد قومهم. * الشيخ: توافقون على هذا؟ * طالب: (...). * الشيخ: أنا أقصد ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ ما معنى الآية: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾؟ * طالب: إلى قوم (...). * الشيخ: ويش معنى ﴿يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ﴾؟ * طالب: (...) إلى الكفار (...) اللي لهم ميثاق (...). * الشيخ: نعم تمام، صحيح، القسم الثاني الذين –أيضًا- لا نقاتل؟ * طالب: القوم الثاني جاؤوا للمسلمين، هم من الكفار واعتزلوا المسلمين فلم يقاتلوهم، ولم يقاتلوا قومهم. * الشيخ: نعم، أحسنت، هذا الثاني يؤخذ من قوله: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾. * طالب: ما معنى قوله: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾؟ * طالب: الذين لم يقاتلونا واعتزلوا (...) ولم يقاتلوهم، فإن الله سبحانه وتعالى لم يجعل للمسلمين عليهم سبيلًا. * الشيخ: وألقوا إليهم السلم. * الطالب: ألقوا إليهم السلام أيضًا، فالله سبحانه وتعالى لم يجعل على الكفرة هؤلاء طريقًا لقتالهم. * الشيخ: تمام، في هذه الآية رد على طائفتين مبتدعتين: الجبرية والقدرية؟ * طالب: رد على القدرية من قوله تعالى: (...). * الشيخ: أحسنت. * الطالب: وعلى الجبرية بقوله تعالى: ﴿فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾. * الشيخ: نعم، صح.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب