الباحث القرآني

ثم قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [النساء ٨٢]. أولًا: الإعراب ﴿أَفَلَا﴾ الهمزة هنا للاستفهام، والفاء عاطفة، فأين المعطوف عليه؟ * الطالب: على قولين؛ القول الأول أن المعطوف عليه محذوف، والقول الثاني: أنه ليس هناك معطوف عليه، إنما الأصل حرف العطف مقدم على حرف الاستفهام. * الشيخ: ليس هناك معطوف عليه؟ * الطالب: إي نعم. * الشيخ: إذن (الفاء) حرف عطف؟! * الطالب: الاستفهام له الصدارة. * الشيخ: إذا كانت (الفاء) حرف عطف، أين المعطوف عليه؟ * طالب: يقول: يعطف عليه ما سبق؛ فألا. * الشيخ: فألا، تمام، فيها قولان؛ القول الأول: أن الهمزة داخلة على محذوف تقديره: أغفلوا فلا يتدبرون القرآن، أو أنه ما سبق، وعلى هذا فيكون موضع الهمزة بعد الفاء، ولكن قدمت؛ لأن لها الصدارة، الأول أقعد والثاني أيسر، الأول أقرب للقواعد أنه يكون هناك شيء مقدر معطوف عليه، والثاني: أسهل وأيسر؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير، وربما في بعض الأحيان يصعب عليك جدًّا أن تعين هذا المحذوف. وقوله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء ٨٢] فيها (لو) الشرطية، فما هو فعل الشرط فيها؟ قوله: ﴿كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ﴾، وجواب الشرط: ﴿لَوَجَدُوا﴾، ﴿لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾. واعلم أن (لو) إن كان جوابها مثبتًا فإنه يقترن باللام دائمًا أو غالبًا كما في هذه الآية: ﴿لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾. وكما في قوله تعالى: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا﴾ [الواقعة ٦٥]. وقد تُحذف اللام كقوله تعالى: ﴿لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا﴾ [الواقعة ٧٠]، لكنه قليل، أما إذا كان خبره منفيًّا فإن الغالب حذف اللام؛ ووجهه: أن اللام تفيد التوكيد، والنفي يضاد التوكيد، فتقول: لو جاء زيد ما جاء عمرو، ولا تقول: لما جاء عمرو، عرفتم؟ لكن قد تقترن اللام أحيانًا مع وجود النفي بـ (ما)، مثل قوله: ؎وَلَوْ نُعْطَى الْخِيَارَ لَمَا افْتَرَقْنَا ∗∗∗ وَلَكِنْ لَا خِيَارَ مَعَ اللَّيَالِي لو نعطى الخيار لما افترقنا، والأفصح (ما افترقنا). يقول الله عز وجل موبخًا هؤلاء: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ والهمزة هنا للتوبيخ، استفهام بمعنى التوبيخ. و﴿يَتَدَبَّرُونَ﴾ أي: يتأملون ويتفكرون، مأخوذ من كون الإنسان يأخذ الشيء إدبارًا وإقبالًا؛ يعني المعاني يتدبرها ويتفهمها. و﴿الْقُرْآنَ﴾ (فُعْلان) أي: على وزن (فُعْلان)، وهل هو بمعنى (مَفْعول) أو هو مصدر؟ قيل: إنه مصدر، وأنه مثل: الشكران والغفران، وقيل: إنه بمعنى المفعول، وحتى لو قلنا: إنه مصدر بناء فهو بمعنى المفعول معنى؛ لأن القرآن بمعنى المقروء، والمقروء هل معناه المتلو أو المجموع؟ هل هي من (قَرَى يَقْرَى) يعني جمع يجمع، ومنه القرية لأنها تجمع الناس، أو من (قرأ يقرأ) بمعنى (تلا)؟ فيه أيضًا لأهل اللغة قولان، والصحيح أنه من هذا ومن هذا، فالقرآن متلو ومجموع؛ مجموع حروفه بعضها إلى بعض. والمراد بالقرآن كلام الله عز وجل الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم المتعبَّد بتلاوته المعجِز بأسلوبه ومعناه. ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ﴾ ﴿لَوْ كَانَ﴾ اسم (كان) يعود على القرآن؛ يعني لو كان القرآن من عند غير الله أي: من عند أحد غير الله. ﴿لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، أي: لوجدوا فيه تناقضًا إما في المعنى وإما في الأسلوب أو غير ذلك، لكن اختلافًا كثيرًا ليس اختلافًا قليلًا، بل اختلاف كثير، وإذا كان من عند الله فهل يجدون فيه اختلافًا قليلًا؟ لا، لكن قوله: ﴿اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ بيان لواقع ما كان من عند غير الله، وليس هذا قيدًا في أنه لو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافًا قليلًا، إذ إنه لا اختلاف في كتاب الله عز وجل. * في هذه الآية الكريمة فوائد؛ منها: الحث على تدبر القرآن، وجه ذلك؟ * طلبة: (...). * الشيخ: لا، وجه ذلك؟ * طالب: توبيخ من لم يستمع. * الشيخ: توبيخ من لم يتدبر، وإذا كان من لا يتدبر القرآن يُوبَّخ فمن يتدبره يُثنى عليه ويُمْدَح؛ إذن ففيه الحث على تدبر القرآن. * ومن فوائدها: الرد على من يقول: إن آيات الصفات مجهولة المعنى، وهم أهل التفويض الذين يقولون: فرْضُنا بالنسبة لآيات الصفات أن نتلوها فقط وأن لا نتكلم في معناها؛ لأن معناها مجهول. فيقال لهم: كلمة (القرآن) عامة تشمل آيات الصفات وغيرها، والله تعالى وبَّخ من لم يتدبره، ولازم هذا أن يكون للآيات معنى؛ لأن الحث على تدبر ما لا يمكن الوصول إلى معناه حث على متعذر أو متعسر، وعلى هذا فيكون الحث من كلام اللغو، ويُنزَّه عنه كلام الله عز وجل، فإن قال قائل: إذا قلتم: إن آيات الصفات غير مجهولة المعنى، وإنها معلومة، فهل يلزم من ثبوت المعنى مماثلة المخلوق؟ فالجواب: لا، لا يلزم؛ لأن الله يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى ١١] ففي الآية إثبات ونفي المثل، إذن لو كان لا يمكن إثبات إلا بإثبات المماثلة لكان في الآية أيش؟ * طلبة: تناقض. * الشيخ: تناقض، تناقض ظاهر، إذن آيات الصفات معلومة المعنى لكن بدون تمثيل. فإن قال قائل: وهل يمكن إثبات معنى بدون تمثيل؟ فالجواب: نعم، ولنضرب مثلًا لقوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة ٦٤]، فأهل التفويض يقولون: لا نعلم ما المراد بقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ﴾. وأهل التأويل يقولون: معناها النعمة والقدرة. وأهل السنة والجماعة يقولون: معناه اليد الحقيقة التي نظير مسماها أجزاء وأبعاض لنا، اليد مثلاً جزء منا، لكنه لا يمكن إطلاق كلمة جزء على شيء من صفات الله؛ لأن الجزء ما يمكن انفصاله عن الكل، وبالنسبة ليد الله وقدم الله وعين الله لا يمكن فيها هذا المعنى. إذن نقول: لله يد حقيقية، يطوي السماوات بيمينه، والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، كيف يمكن أن نتصور يدًا بدون مماثلة؟ نقول: هذا أمر سهل، ألست تشاهد الآن (للجمل يد) وتشاهد (للهر يد)؛ يعني تشاهد مضمون هذه الجملة؟ الجواب: بلى، نشاهد، وهل يلزم من إثبات اليد للجمل أو للهر أن تكون اليدان متماثلتين؟ لا، لا يلزم، بل نحن نشاهد أنها مختلفة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن القرآن لا اختلاف فيه ولا تناقض؛ لقوله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا﴾. فإن قال قائل: إننا نجد في كتاب الله ما ظاهره التعارض، فكيف يتفق مع هذه الآية؟ نقول: إذا رأيت شيئًا في كتاب الله ظاهره التعارض، فهذا إما لقصور في فهمك، وإما لقلة في علمك، وإما لسوء في قصدك، كم الاحتمالات؟ * الطلبة: ثلاثة. * الشيخ: ثلاثة، نقول: ما فيه تناقض، لكن أنت إذا ظننت التناقض فإما لقصور فهمك؛ يعني أن فهمك رديء قاصر، أو لقصور علمك؛ يعني هناك علم يبين الجمع بينهما ولكنك لم يبلغك هذا العلم، وإما لسوء في قصدك؛ لأن الإنسان إذا كان قصده سيئًا فإنه لا يُوفق، كيف يكون قصده سيئًا؟ يريد أن يظهر القرآن بأنه متعارض، لا يريد أن يصل إلى نتيجة سليمة وهي الجمع بين الاختلاف، ولهذا تجد المبتلى بهذا الشيء يُشكل عليه آيات واضحة ليس فيها تعارض، لكن نظرًا إلى أنه يُدَوِّر يُفتش لعل شيئًا من الآيات يُعارض بعضه بعضًا تجده -والعياذ بالله- يشتبه عليه الآيات الواضحات، واضح يا جماعة؟ ممكن أن نزيد احتمالًا رابعًا: وهو التقصير في الطلب؛ التقصير في الطلب نتيجته عدم العلم، لكن إذا أضفناه على أنه سبب رابع كان جيدًا، وعلى هذا فأسباب عدم فهم القرآن أربعة. فيه آيات متعارضة ظاهرًا لكنها لا تتعارض حقيقة، وهي آيات متعددة ذكرها كثير من العلماء وألفوا فيها ومنهم الشيخ الشنقيطي رحمه الله في كتابه (دفع إيهام الاضطراب في آي الكتاب) وهو كتاب وسط لكنه مفيد. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: ضعف الآدمي فيما يكتبه، وأنه عرضة لأي شيء؟ للاختلاف والخطأ. فإن قال قائل: هل من ذلك ما يُروى عن الأئمة -رحمهم الله- من أقوال متعددة في مسألة واحدة؟ الجواب: نعم، منه هذا، لكن ما يقع عن الأئمة ليس عن قصد، ولكنه عن زيادة علم، والإنسان بشر يزداد كل يوم علمًا، فمثلًا الإمام أحمد رحمه الله قد يُروى عنه في المسألة الواحدة عدة روايات، ونحن نعلم أنه لم يتقصد رحمه الله ذلك، لكن علمه يأتي أيش؟ شيئًا فشيئًا، ولهذا تجد عنه في ثبوت الهلال، ثبوت الهلال في رمضان تجد عنه عدة أقوال، حتى إنهم ذكروا في مذهبه سبعة أقوال؛ منها خمسة أقوال نص عليها رحمه الله. * من فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات أن القرآن كلام الله، من أين؟ * طلبة: ﴿مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ﴾. * الشيخ: من قوله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ﴾ فإنه يدل على أن القرآن من عند الله عز وجل، إذا كان من عند الله صار صفة من صفاته، فهل يكون مخلوقًا؟ لا يمكن أن يكون مخلوقًا؛ لأنه صفة، وصفة الفاعل أو صفة الموصوف لازمة له ليست بائنة منه، ثم لو قلنا: إنه مخلوق -يا إخواني- بطل الأمر والنهي وبطلت الشريعة، كيف ذلك؟ إذا قلت: إنه مخلوق، معناه أن الله خلق (ص) مثلًا، خلقها مثل ما يخلق السماء، هل السماء فيها أمر ونهي؟ لا، مثلًا ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة ١]، خلق الله حروفًا على هذه الصورة لا تفيد شيئًا، ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ [الإسراء ٧٨]، ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء ٣٦]، إذا قلنا: إنها مخلوقة ليس فيها أمر وليس فيها نهي، حروف خُلقت على هذا الشكل فقط، ليس فيها أمر ولا نهي؛ ولهذا كنا نتعجب حينما نسمع كلام ابن القيم رحمه الله أو شيخه أن القول بأن القرآن مخلوق يبطل الشريعة، لأنه يبطل الأمر والنهي، فنقول: كيف يتصور هذا؟ فتأملنا ووجدنا السبب أنه إذا كان مخلوقًا صار عبارة عن صورة كلام خلقها الله عز وجل، ما يتعلق بها أمر ولا نهي كما لو صورت سيارة أو بناء أو ما أشبه ذلك. * من فوائد الآية الكريمة: إثبات العِندية لله؛ أي أن الشيء يكون من عنده، وهو كذلك. لكن العندية قد تكون صفة وقد تكون قربًا؛ فقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [الأعراف ٢٠٦] أيش العندية هذه؟ قرب؛ لأنهم ملائكة بائنة عن الله عز وجل. وإذا قلت: القرآن من عند الله؟ هذه صفة، عندية الصفة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب