الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [النساء ٤٩] الاستفهام هنا للتعجب والتقرير؛ أي: ألا تتعجب من حال هؤلاء القوم؟ والخطاب في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ إما لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والخطاب الموجه إليه موجه للأمة عن طريق الفرع؛ لأن الأمة فرع، وقيل: إن الخطاب موجه لكل من يتأتى خطابه، أي لكل من يصح توجيه الخطاب إليه، وأيهما أعم؟ الثاني أعم. لكن القولين لا يتنافيان؛ لأن حتى لو قلنا: إن أصل الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، فخطاب الزعيم خطاب له ولمن تبعه. وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ يعني جواب الاستفهام محذوف: أتحصل لهم التزكية؟ هذا المعنى؛ لأنه إذا جاء مثل هذا الكلام فلا بد أن يكون هناك جملة استفهامية؛ إما مذكورة وإما محذوفة. وقوله: ﴿يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: ينسبونها للزكاء، وهو ضد الشقاء، فمن المراد بهؤلاء؟ المراد بهم كل من زكى نفسه، وأول من يدخل في ذلك اليهود والنصارى؛ لأن اليهود والنصارى قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة ١٨]، وهذه تزكية، ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة ١١١]، و﴿قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران ٢٤] فزكوا أنفسهم في العمل والجزاء عليه؛ زكوا أنفسهم في العمل حيث قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، وزكوا أنفسهم بالثواب عليه حيث قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، وزكوا أنفسهم أيضًا من وجه آخر بالجزاء، قالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾. ومن كان مثلهم -يعني من زكى نفسه- فإنه آخذ بنصيب من مشابهتهم، من قال: أنا ولي، أو: أنا تقي، أو ما أشبه ذلك، فقد زكى نفسه، ولاسيما ما يحصل من بعض مشايخ الصوفية الذين يغرون الناس؛ يقولون: نحن أولياء، نحن أصفياء، وما أشبه ذلك، فهم يزكون أنفسهم من أجل أن يغتر الناس بهم. وقوله: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾، (بل) هنا للإضراب الإبطالي أو الانتقالي؟ * طلبة: الانتقالي. * طلبة آخرون: الإبطالي. * الشيخ: الإبطالي؛ لأن التقدير: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أتحصل لهم التزكية؟ الجواب: لا، لا تحصل لهم التزكية، ولو كان كل من زكى نفسه حصلت له التزكية لكان أخبث الناس يزكي نفسه. الآن الذين يعبدون الأصنام، يعبدون البقر، يعبدون الأشجار، يعبدون أي ما يعبدون؛ يقولون: نحن الذين على حق، فيزكون أنفسهم، لكن إلى أي يرجع في التزكية؟ إلى الله. ولهذا أبطل الله سبحانه وتعالى هذه التزكيات كلها وقال: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾، فـ(بل) هنا للإضراب أيش؟ الإبطالي، و(بل) تأتي للإضراب الإبطالي وتأتي للإضراب الانتقالي، انظروا إلى قوله تعالى: ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ [النمل ٦٦] هل هذا إضراب انتقالي أو إبطالي؟ * طلبة: انتقالي. * الشيخ: انتقالي، ينتقل من شيء إلى آخر، والشيء الأول باقٍ، لكن انتقال، تتنقل بهم الأحوال إلى أن يصلوا إلى هذا الحد. فالحاصل أن الإضراب يكون إبطاليًّا ويكون انتقاليًّا. ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ هو الذي يزكي عز وجل، هو الذي يثني، قال الله تبارك وتعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [الحديد ١٠] فأعطى الله تعالى التزكية لهؤلاء كل بحسب حاله، ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ أعطى هؤلاء نصيبهم من الزكاة وهؤلاء نصيبهم ثم زكى الجميع على وجه عام فقال: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ هذه التزكية، وقال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [النساء ٩٥]. فالله تعالى هو الذي يزكي، وكذلك رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يزكي أيضا: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٥٢)، ومسلم (٢٥٣٣/ ٢١٢) من حديث عبد الله بن مسعود.]]، ومن زكاه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو زكي؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذه الأمور لا ينطق إلا عن وحي، ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾. وقوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ هذا تابع للحكمة أيضًا، كل فعل مقيد بالمشيئة فهو تابع للحكمة، فيزكي عز وجل من كان أهلًا للزكاة، سواء كان الزكاة بعد العمل أو قبل العمل، فالتزكية بعد العمل كما سمعتم من الآيات، والتزكية قبل العمل أن يهب الله للإنسان العمل الصالح، فإنه كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته فهو أعلم حيث يجعل أثر هذه الرسالة، وهي: الإيمان والعمل الصالح، فتزكية الله تزكية قبل العمل وتزكية بعده، وهو سبحانه وتعالى يزكي من يشاء قبل العمل وبعده، وإذا قلنا: إن المشيئة تابعة للحكمة فإنه لن يزكي إلا من كان أيش؟ أهلًا للزكاة. قال: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾، ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾ الواو للجماعة، و﴿مَنْ يَشَاءُ﴾: (من) اسم موصول لفظه مفرد، فهنا عاد الضمير إلى (من) باعتبار المعنى، ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ أي من زكاهم الله عز وجل، أو ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ من زكوا أنفسهم، فلن يعاقبوا إلا على حسب أعمالهم السيئة، وسواء هذا أو هذا فإن الله لا يظلم أحدًا، لا يزيد من سيئاته ولا يَنقص من حسناته. يقول: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ الفتيل قيل: إنه الفتيل الذي في باطن النواة، النواة فيها ثلاثة أشياء كلها مذكورة في القرآن: القطمير، والنقير، والفتيل، كلها مذكورة في القرآن، القطمير: السلب الذي عليها، والنقير: النقرة التي في ظهرها، والفتيل: الخيط الذي في باطنها، وقيل: إن الفتيل ما تفتله بين أصابعك إذا كنت عرقان، فإن الإنسان إذا كان عرقان وفتل هكذا طلع شيء، وكذلك إذا حك صدره أو ظهره ظهر الفتيل، لكن الأول هو المشهور؛ أن الفتيل هو ما يكون في بطن النواة، الخيط الذي يكون في بطن النواة، وهو يضرب مثلًا في القلة. * * * (...) الرجل في المسجد ليأتي بحاجة ثم رجع هل يصلي تحية المسجد؟ الجواب: لا، لا يصلي تحية المسجد ما دام قام بنية الرجوع، أما إذا قام مثلًا على أنه خرج، ثم بدا له فرجع، فهذا يصلي تحية المسجد، ولو لم يخطُ إلا خطوة واحدة. يقول: لقد وجدَ أحدُ الإخوة عند باب المسجد الجامع الكبير مبلغًا من المال، فماذا يفعل به؟ وإذا قلنا بتعريف المبلغ فهل نكتب إعلانًا على باب المسجد أم لا؟ أفيدونا. نعم، اكتب إعلانًا على باب المسجد ولا بأس. وهذا يقول: هل لو اجتمع للحكم أكثر من علة لا يثبت إلا بتوافر العلل كلها؟ نعم، إذا كان لا يثبت إلا بعلتين فلا يثبت إلا بهما، وتسمى إحداهما جزء العلة. * طالب: شيخ، كم مدة التعريف؟ * الشيخ: سنة كاملة. * طالب: سنة؟ * الشيخ: نعم. طالب: شيخ ما يطلع بنية صاحبه؟ * الشيخ: لا، إلا إذا كان ييئس منه، مثل اللي يوجد بالخطوط، اللي على الخطوط ما تقدر.. قد يكون الواحد من البادية بعيد وقد يكون من البلد اللي أمام أو اللي خلف، ما يدري، أما هذا فلابد من تعريفه. * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٥١) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ [النساء ٤٩ - ٥٥]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق لنا الكلام على قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، وأظن ناقشنا فيها أيضًا؟ إذن نبدأ بالآية التي بعدها ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾. أولًا الخطاب لمن؟ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ الخطاب لمن؟ * طالب: الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: لمن يتوجه الخطاب له. * الشيخ: لما يصح توجيه الخطاب له. * الطالب: والثاني أعم (...). * الشيخ: والثاني عام، فيكون أولى، لكن هل يختلفان في مؤدى المعنى؟ * الطالب: لا. * الشيخ: لا يختلفان. * الطالب: خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطاب للأمة. * الشيخ: من المراد بهؤلاء؟ * طالب: المراد بهم اليهود والنصارى. * الشيخ: نعم. كيف كانت تزكية أنفسهم؟ بماذا؟ * طالب: قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة ١٨] وقالوا: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ﴾ [البقرة ١١١] بالعمل والجزاء. * الشيخ: نعم. قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وقالوا: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾. هل أقرهم الله على ذلك؟ * طالب: لا. * الشيخ: لا؟! كيف؟! * طالب: الذين يزكون أنفسهم لم يقرهم الله عز وجل، بل جعل الأمر إليه؛ التزكية. * الشيخ: الدليل؟ * الطالب: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾. * الشيخ: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾، طيب و(بل) هذه إضرابيه للإبطال أو الانتقال؟ * طالب: للإبطال. * الشيخ: للإبطال، طيب، صح. قوله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ ما المراد بالفتيل؟ * طالب: (...). * طالب آخر: الفتيل: ما يفتل في اليد. * الشيخ: أحسنت، قيل: إنه خيط النواة الذي في بطنها، وقيل: ما يفتل في اليد من الوسخ أو شبهه، والأول أشهر. في القرآن مما يتعلق بالنواة ثلاثة أشياء، قلها؟ * طالب: الفتيل والنقير والقطمير. * الشيخ: ما الفرق؟ ما هو الفتيل؟ وما هو القطمير؟ وما هو النقير؟ * طالب: الفتيل: هو الخيط الأبيض الذي يكون في نفس النواة.. * طالب آخر: الغشاء الذي على النواة غشاء رقيق، والنقير هي الحفرة التي في ظهر النواة. * الشيخ: النقرة التي في ظهر النواة. وبماذا يضرب بها؟ * طالب: في القلة. * الشيخ: يضرب بها المثل في القلة. من فوائد هذه الآية الكريمة: الإنكار على من يزكي نفسه؛ وجه ذلك أن قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ [النساء ٤٩] استفهام إنكاري. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: النهي عن تزكية النفس؛ لأن الله تعالى أنكر ذلك كما صرح به في قوله: و﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم ٣٢]. ومن فروع هذا: قول الإنسان: أنا مؤمن، فهل يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن؟ أو لا بد أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؟ في هذا قولان للعلماء: منهم من قال: لا يجوز أن يقول: أنا مؤمن إلا باستثناء؛ لأن الإنسان لا يدري ماذا يموت عليه، والعبرة بالعاقبة، فقد يكون الإنسان اليوم مؤمنًا ويكون غدًا كافرًا، ولا يجوز الجزم بشيء مستقبل. ومنهم من قال: لا يجوز أن يقول: أنا مؤمن، لا لهذه العلة، ولكن لأنه يلزم من قوله هذا تزكية النفس والشهادة لنفسه بالجنة؛ لأنه إذا قال: أنا مؤمن، فكل مؤمن في الجنة، فيلزم على هذا أن يجزم بأنه من أهل الجنة، وهذا لا يجوز. ومنهم من علل بعلة ثالثة وقال: إن الإيمان على وجه الإطلاق يراد به الإيمان المطلق المتضمن لفعل الواجبات وترك المحرمات وفعل المستحبات وترك المكروهات، وهذا لا يمكن أن يجزم به العبد، فما أكثر المستحبات التي لا نفعلها بل والواجبات، وما أكثر المكروهات التي نفعلها بل والمحرمات، وعلى هذا فيجب أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. وقال آخرون: لا يجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن هذا شك، أنا مؤمن إن شاء الله شك، والشك في الإيمان كفر؛ إذ إن الواجب في الإيمان الجزم، والتردد فيه كفر. ولكن القول الراجح في هذه المسألة أن يقال: ما الحامل على قول الإنسان: أنا مؤمن، وعليه يترتب الحكم، فإذا كان الحامل له تزكية النفس فهذا القول حرام؛ لأن الله يقول أيش؟ ﴿لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النجم ٣٢]، ثم إن هذا فيه الإدلال على الله عز وجل والمنة عليه، والله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات ١٧]. فإذا كان قوله: أنا مؤمن للإعجاب بالنفس، فهذا لا يجوز؛ لأنه تزكية للنفس ومنهي عنه فيكون حرامًا. وإن كان المقصود بذلك الخبر، يعني بقوله: أنا مؤمن لست بكافر، فهذا لا بأس به، وقد «قال النبي عليه الصلاة والسلام للقوم الذين لقيهم في طريقه إلى الحج: «مَنِ الْقَوْمُ؟» قالوا: المسلمون»[[أخرجه مسلم (١٣٣٦ / ٤٠٩) من حديث ابن عباس. ]]، فأقرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ذلك؛ لأنهم يريدون بذلك أيش؟ الخبر، فإذا قال إنسان: أنا مؤمن، يعني: لست بكافر، فلا بأس، ولا يلزم على ذلك اللوازم التي ذكرها من منع قوله: أنا مؤمن. أما إذا قال: إن شاء الله، يعني بمعنى إذا ربط إيمانه بالمشيئة فهذا ينظر، أيضًا فيه التفصيل: إن قصد به التردد فهو أيش؟ كفر، يعني مثلًا قيل له: أنت مؤمن؟ قال: إن شاء الله، يعني متردد، فهذا كفر؛ لأنه لا إيمان مع شك، بل لا بد من الجزم. وإذا كان الحامل له على ذلك أن إيمانه كان بمشيئة الله لا بحوله وقوته، فهذا لا بأس به، ليش؟ لأن الشيء المحقق قد يربط بالمشيئة إشارة إلى أنه يكون واقعًا بمشيئة الله، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [الفتح ٢٧] أي: لتدخلنه بمشيئته؛ لأن الجملة هنا خبر مؤكد بثلاثة مؤكدات ﴿لَتَدْخُلُنَّ﴾، ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «لما قال له عمر: ألست تقول: إننا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال له الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أَقُلْتُ لَكَ: هَذَا الْعَامَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «إِنَّكَ آتِيهِ، وَمُطَوِّفٌ بِهِ»[[أخرجه البخاري (٢٧٣٢) من حديث المسور ومروان.]]، قال ذلك في المحاورة بينه وبين عمر في مسألة الصلح؛ صلح الحديبية. ومن ذلك أيضًا قول زائر المقبرة: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، فإن اللحوق بهم مؤكد، الموت لا أحد ينكره، لكن المراد بـ(إن شاء الله) أي: لاحقون بمشيئة الله، متى شاء الله أن نلحق بكم لحقنا بكم. الثالث: إذا كان قصده بـ(إن شاء الله) دفع التزكية، أي: دفع تزكية النفس، وأنه يخشى على نفسه أنه إن لم يقل: إن شاء الله صار في نفسه شيء من التزكية، فهنا يكون قوله: إن شاء الله أيش؟ واجبًا، يكون واجبًا. فعندنا الآن -بارك الله فيكم- أن قول الإنسان: أنا مؤمن، إما أن يقرنه بالمشيئة أو لا يقرنه، فإن لم يقرنه بالمشيئة فله حالان: الحال الأولى: التزكية، وهذا حرام. والحال الثانية: مجرد الإخبار بأنه مؤمن لا كافر، وهذا جائز. وإذا قرنه بالمشيئة فله ثلاث حالات: إما أن يكون الحامل له على ذلك التردد، فهذا كفر. أو الحامل له على ذلك بيان أن إيمانه بمشيئة الله، فهذا جائز؛ لأنه حق. أو الحامل له على ذلك أيش؟ * الطلبة: دفع التزكية. * الشيخ: نعم، دفع التزكية؛ تزكية النفس، فهذا واجب، وهذا التفصيل هو الذي تجتمع به الأدلة. * من فوائد الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [النساء ٤٩]: أن تزكية الغير لا بأس بها؛ لأن النهي أو الإنكار منصب على أيش؟ تزكية النفس، أما لو زكى غيره، فإن ذلك لا بأس به. وهنا نسأل هل يزكي غيره بمجرد المظهر أو لا بد من خبرة؟ الثاني، لا بد من خبرة، لا يكفي أن ترى مظهر الشخص وتقول: إنه عدل ثقة، بل لا بد من خبرة، لماذا؟ لأنه قد لا يكون عدلًا، قد يكون مرائيًا، منافقًا، مخادعًا، وربما يكون عدلًا في دينه، لكن عنده سوء حفظ، فإذا زكيته بما يتعلق بالخبر كالشهادة مثلًا دون أن تَخْبرَه، صار ذلك شهادة بما لا تعلم، أليس كذلك؟ ما اتضح؟ واضح ولّا غير واضح؟ * الطلبة: واضح. * الشيخ: واضح، يعني يجيء إنسان يقول: زكِّ فلانًا، فلان شهد عندي بشيء هل تزكيه؟ قد أزكيه من جهة دينه وأعرف أنه رجل مستقيم في الدين ويصلي ويزكي ويصوم، كل عمل الدين قائم به، لكن من جهة الحفظ، والمسألة مسألة الشهادة خبر، فهذا لا بد أن يكون عندي من علم بباطن حاله واختبار، فلا تجوز التزكية في مثل الأخبار إلا إذا عرفت أن الرجل حافظ. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الأمر إلى الله عز وجل في تزكية الإنسان ورفع التزكية عنه، من أين تؤخذ؟ * الطلبة: ﴿بَلِ اللَّهُ﴾. * الشيخ: من قوله: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾، فالحكم بالتزكية إثباتًا أو نفيًا إلى الله وحده، هو الذي يزكي من يشاء. فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذا وبين قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس ٩، ١٠]؟ فالجواب أن نقول: إن كان الفاعل في قوله: ﴿مَنْ زَكَّاهَا﴾ هو الله فلا إشكال، صح؟ * الطلبة: صحيح. * الشيخ: صحيح؛ لأن المزكي هو الله في هذا وفي هذا، وإن كان الضمير الذي هو الفاعل يعود على الإنسان، يعني: قد أفلح من زكى نفسه، ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس ١٠] أي: دسَّى نفسه، فالجمع أن نسبة التزكية إلى الإنسان هنا نسبةُ شيءٍ إلى سببه لا إلى حصوله، فالإنسان يفعل الطاعة فيكون زكيًّا، ومن الفاعل؟ الإنسان، فيكون المراد بالتزكية فعل سببها، وعلى هذا فلا إشكال أيضًا. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي بل يجب على الإنسان أن يلجأ في طلب التزكية إلى من؟ إلى الله؛ لقوله: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾، فأنت إذا علمت أن الله هو الذي يزكي فاسأل الله؛ ولهذا كان من الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ أَعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا»[[أخرجه مسلم (٢٧٢٢ / ٧٣) من حديث زيد بن أرقم بلفظ:«اللهم آت».]]. * ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على القدرية الذين يقولون باستقلال الإنسان في عمله، من أين يؤخذ؟ * الطلبة: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾. * الشيخ: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾. * ومن فوائدها: إثبات المشيئة لله عز وجل؛ لقوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾، وأن الله سبحانه وتعالى له مشيئة يدبر الأمر بحسب هذه المشيئة، ولكن هل هذه المشيئة مشيئة مطلقة، يعني يشاء ما يشاء لحكمة ولغير حكمة؟ لا، ولكنها مشيئة مقرونة بالحكمة. * ومن فوائد الآية الكريمة: نفي الظلم عن الله؛ لقوله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ والظلم محرم على الله ولَّا غير محرم؟ * الطلبة: نعم. * الشيخ: محرم على الله؟ * الطلبة: نعم. * الشيخ: من حرمه عليه؟ * الطلبة: هو نفسه. * الشيخ: هو نفسه جل وعلا، ففي الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا»[[أخرجه مسلم (٢٥٧٧ / ٥٥) من حديث أبي ذر. ]]. في هذا نكتة جيدة وهو أن الله يفرض على نفسه ويحرم على نفسه؛ لأن الله هو الذي يدبر الأمر ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام ٥٤] (كتب) بمعنى؟ * الطلبة: فرضه. * الشيخ: فرض، فقد فرض على نفسه، وهنا في الحديث القدسي: «إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي». فإذا قال قائل: هل في صفات الله ما هو نفي محض، أو كل نفي في صفات الله فهو متضمن لإثبات؟ * الطلبة: الثاني. * الشيخ: الثاني، كل نفي في صفات الله فهو متضمن لإثبات، فقول: ﴿لَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ لأيش؟ لأن الله كامل العدل، ومن كان كامل العدل فإنه لا يظلم فتيلًا. قال أهل العلم: ولا يمكن أن يكون في صفات الله نفي محض لا يتضمن مدحًا، لا يمكن أن يكون نفي محض لا يتضمن مدحًا، وعللوا ذلك فقالوا: النفي إن لم يتضمن كمالًا فقد يكون نقصًا، وقد يكون لا نقصًا ولا كمالًا، فالأقسام ثلاثة: نقص، وكمال، أيش؟ ولا هذا ولا هذا، فالنقص والذي لا هذا ولا هذا ممتنع على الله؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ [النحل ٦٠]. فإن قال قائل: نريد مثالًا لنفي الظلم الذي ليس فيه مدح ولا ذم؟ فالجواب: إذا قلت: إن الجدار لا يظلم، والخشبة لا تظلم، والسيارة لا تظلم، هذا لا يتضمن كمالًا ولا نقصًا، لماذا؟ لأنه غير قابل أن يوصف بالظلم أو عدمه؛ لأن الجدار ليس له إرادة حتى يظلم أو لا يظلم. وإذا قلت: مثل لنا بمثالٍ يكون فيه نفي الظلم نقصًا، قلنا: قول الشاعر: ؎قُبَيِّلَــــــــــــــــــةٌ لَايَغْـــــــــــدِرُونَ بِذِمَّـــــــــــــــةٍ ∗∗∗ وَلَا يَظْلِمُونَ النَّـــــــاسَ حَبَّـــــةَخَــــــرْدَلِ هذا الكلام لا يغدرون بذمة، يعني عندهم وفاء، ولا يظلمون الناس حبة خردل عندهم عدل، فيقال: إن الشاعر لم يقصد ذلك وإنما قصد بيان ضعفهم وعجزهم، بدليل أنه قال: قُبَيِّلَةٌ تصغير، وكذلك قول الحماسي: ؎لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ ∗∗∗ لَيْسُوا مِنَ الشَّـــــرِّ فِي شِيْءٍ وَإِنْهَـــــانَا يعني ما هم (...) الشر ولو كان هينًا ؎يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً ∗∗∗ وَمِنْ إِسَاءَةِ أَهْلِ السُّـــــوءِإِحْسَـــــــــــانَا إذا ظلمهم أحد صبروا وغفروا وقالوا: غفر الله لك، ومن إساءة أهل السوء إحسانًا، يعني: إذا أساء إليهم إنسان أحسنوا إليه، فإذا خرب عليهم المزرعة أرسلوا له أكياسًا من البر، فهم يجزون أيش؟ من سوء أهل السوء إحسانًا، من سمع هذا الكلام قال: هؤلاء الجماعة طيبون، لكن اقرأ ما بعدها: ؎فَلَيْـــــتَ لِي بِهِمُ قَوْمًا إِذَارَكِبُــــــــــــوا ∗∗∗ شَنُّــــــوا الْإِغَـــــــــارَةَفُرْسَــــــــــانًا وَرُكْبَــــــــــــانَا يعني: ليت لي بدلًا منهم، إذن هم ضعفاء لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك، فهذا نقص. فإذا نفى الله عن نفسه الظلم فلا يمكن أن يكون لا من هذا ولا من الذي قبله، ولكنه من نفي الظلم المتضمن لكمال العدل.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب